رسالة لكاتبتي المفضلة ، أمي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

رسالة لكاتبتي المفضلة ، أمي

رسالة طويلة لكنها ضرورية رسالة كتبت بمداد الدموع ، لتحمل هدير أحزاني

  نشر في 10 ديسمبر 2018 .

"لا تحزن كثيرا ، عش حياتك و اجعلني فخورة بك , اعتني بصحتك , أحب شقيقتك و لا تتركها مطلقا , فهي سندك عندما يتخلى عنك

الجميع ...أحبكم"

هذه الشذرة اليتيمة مثلي , هي الكلمات الوحيدة التي خطتها أنامل أعظم كاتبة عندي ....أقلب مقتنياتها و أرمي شبائك نظري منتظرا أسر إحدى كتاباتها لأنهل من نفائس حكمتها , فلا أجد إلا أرقام الهاتف أو وصفات الطبخ لمأكولات لم يخالط أغلبها عصارة معدتي ،فالموت أرخى سدوله و كان له رأي آخر

لم تكن أمي متعلمة ، مثل أغلب بنات جيلها ، فقد منعت مرساة التقاليد سفينتها من الإبحار بعيدا كما كانت تحلم ، واكتفت باجتياز مناظرة الصف السادس بنجاح -تلك المناظرة التي مازال يفتخر بها أبناء الأجيال السابقة -أجبرها والدها بتحريض من إخوته على الإعتصام بالبيت حتى يسوق لها القدر رجلا ، فعلامات الأنوثة بدأت تبرز و من العار تركها تدرس وإلا تدنس إسم العائلة و تلطخ شرفها ، و من الأفضل لها الآن أن يتم تأهيلها لتصبح امرأة صالحة للزواج

لن أروي قصة حياتها ، فالتاريخ يزدحم بمثيلاتها ، أولئك اللاتي تقتصر مشاركتهن على إنجاب الأطفال ، لكن قبل تقاعدها من الوجود كتبت والدتي تلك الكلمات ، بعد أن توارى صوتها وراء قناع التنفس ، كانت في اختلاجات النزع الأخير وهي تصطرع مع الخلايا السرطانية التي نهشت أحشاءها ...جمعت شتات نفسها و حاولت أن تكتب شيئا أخيرا و هي تتأرجح بين عالمين

لن يعتبر أغلبكم أمي كاتبة لمجرد كتابة بضع كلمات ...حسنا...

عندما استيقط ، كان الديناصور مازال هناك ! " "

أعزائي ، لقد قرأتم للتو أقصر قصة في العالم..

و قد احتفى بها الناس كدليل على عبقرية الكاتب الغواتيمالي" أوجوستو مونتيروسو"

إذا اعتبر العالم تلك الجملة أقصوصة رائعة (و أنا لا أخالفهم ) ، فلا بأس من اعتبار أمي كاتبة أيضا ، قد لا يكون من العدل المقارنة بين والدتي و" أوجوستو" ، لا يهم ، سأدع "ألبير كامو" يرافع عني قائلا :" أنا أؤمن بالعدل ، و لكن سأدافع عن أمي قبل العدل" .

لم يعد حضن أمي مقر إقامتي ، منذ رحيلها و أنا لاجئ في هذا العالم ...عند اختفائها صار تحمل العيش أمرا عسيرا ، وجدت نفسي أواجه الحياة وأنا أعزل ، لكن كلماتها صارت حصني الأخير أمام مخالب اليأس ...أدفن نفسي في الماضي وأنبش بين ثنايا الذاكرة ،ترتسم صورة قاتمة و هي ترقد في إحدى عنابر ذلك القسم من المشفى الذي لم يكن في حاجة لأطباء بقدر حاجته لممثلين بارعين لإيهام نزلائه بوجود الأمل ...تمكنت من قراءة التقرير الطبي من قسمات وجه الدكتور الممتقع ، كان وجهه حاملا للموت ،و ببحث بسيط علمت أن معدل النجاة يبعث على الكآبة ، لكن مثل كل محب ، راهنت على المعجزة

كم كانت رهيبة تلك الأيام ...بداية السرطان هي خلية واحدة مارقة ، جن جنونها و تبدأ في التمرد على كل القوانين ...حولتها الطفرات لكائن بشع ، تغزو جيرانها بعد رفض أوامر قتل نفسها ، و هكذا يبدأ تكوّن مجتمع الخلايا الشيطانية ، و هي خلايا خبيثة تتميز بشراهتها ، تكوّن ورما ، و تنطلق في التمدد بحثا عن منفذ إلى مجرى الدم ، و بموهبة تضاهي موهبة الحرباء في التخفي و الخداع ، تكسر كل خطوط الجسد الدفاعية ، و في سعيها نحو الخلود ، تدمر كل أمل للحياة .

يستمر" ألبير كامو" بالمرافعة مضيفا : " لو كان عليّ تأليف كتاب عن الأخلاق لجعلته من 100 صفحة ، 99 منها بيضاء و كتبت في الأخيرة : لا أعرف سوى واجبا واحدا ، ألا و هو الحب" ...كاتب كبير مثله يريد جعل كتابه متكونا من جملة واحدة ، و الكثير من الصمت !!! فعلا ، لطالما كانت أكثر آلامنا و حكمتنا خرساء ، لا شك أن أمي من طينة الكبار إذا لتمضي أغلب حياتها صامتة ثم تنهيها بجملة واحدة ، مشيرة فيها للحب ، تماما كما أراد" كامو" .

بدأت رحلة العلاج الكيميائي الذي لا يفوقه بشاعة إلا السرطان

أتذكرها تتساءل : هل سيتساقط شعري ؟ ...بمرور الأيام تبين أنه علينا الشعور بالقلق إزاء أمور أخرى كثيرة ، فانقراض الشعر من جسمها لن يكون بأي حال أسوأ من الموت ...عانت كثيرا من الغثيان و شاهدتها تذبل يوما بعد يوم

لوهلة تظن أن شخصا مثل أمي ، من شبه المستحيل أن يجرؤ السرطان على الإقتراب منها ، لقد كانت بعيدة كل البعد عن محفزاته :

هي لا تعاني من البدانة ، بعيدة عن آفة التدخين بشقيه السلبي و الإيجابي ، و لا تكاد تقرب اللحوم الحمراء ، فكل أفراد أسرتي كأغلب أبناء الشعب ، دجاجيّون بالفطرة

لكنها للأسف ، مثل كل من أصابتهم اللعنة ، تعيسة الحظ ، لكنها ظلت تصر على كونها محظوظة لأنها حظيت بنا

حيث ترقد ، كان هناك ساعة جدارية ، تسمع عقاربها وهي تقضم الوقت بصخب كأنها قرع طبول جحافل الموت

بدأ فقدان التواصل ، اختفى صوتها العذب و كان فمها شاحبا قد هربت منه الدماء و الحياة ... لكنها استجمعت بعض القوة التي يبدو أنها ادخرتها لهذا الموقف ، و طلبت قلما ...أمسكت ورقة بإحكام شديد ، و بدأت هي تخط عليها ، كانت مجهدة ، لكن بدا على وجهها الإصرار و هي تريد ترك شيء يعاضدنا في الحياة أمام كرائه الدهر

لقد أرادت الرحيل مطمئنة و هي لا تشكو من جراح في أمومتها

منذ فترة قرأت الكتاب الرائع " لو كان لدي ساعة واحدة فقط لأعيشها " للفيلسوف الفرنسي " روجيه بول دروا " ، أعلن فيه أنه لو امتلك ساعة أخيرة للعيش ، لن يتردد و ككل الفلاسفة ، سيستغل ذلك الوقت الضئيل لكتابة شيء ما يكون بمثابة خدعة ضد الموت

اقتحمت محياي ابتسامة ، و أنا أفكر كيف اتبعت أمي سبيل الفلاسفة بذلك الخيار ، ووجدت نفسي مجبرا على ترقيتها في الحال من كاتبة إلى فيلسوفة .

كتب " نيتشه " مرة :" لن أقرأ لأي كاتب بدا على أنه أراد تأليف كتاب ، لكن سأقرأ فقط لأولئك الذين تجلت أفكارهم فجأة على شكل كتابة " ...ذكّرني هذا بأمي

بدنو الموت ، اندفعت الأفكار المكنونة في أعماق صدرها ...أجبر الحب و الضرورة تلك الكلمات على الخروج ...لقد كانت فعلا أما باسلة و هي تكتب كلماتها الأخيرة ...خطت كلماتها البسيطة بيد مرتعشة وأنفاس متهدجة و هي تخوض صراعا بين الألم و الإرادة

...سينحني " نيتشه " أمامها إجلالا ، فالمفكر بالنسبة له من يكون قادرا على جعل الأشياء أبسط ممّا هي عليه ...لا يوجد كاتب إستطاع جعل الحياة بسيطة أمامي كما فعلت أمي ...التهمت أطنانا من الكتب و عشت مع عشرات الكتّاب...تنقلت من إرادة شوبنهاور إلى قوة نيتشه...من وجودية سارتر إلى عبثية كامو ...كوابيس كافكا و إبداع دوستوفسكي ...من ثورية ماركس إلى حكمة كانط ....من ملاحم عنترة و تعالي المتنبي إلى شاعرية جبران ...كلهم سراب أمام أمي ، لا أحد يؤثر في بقدر كلماتها ...لقد كانت كلماتها ضرورة ملحة ، و بينت لي الأيام صدقها ...تبدو بسيطة ، لكن كما قيل ، دائما ما تكون الأمور البسيطة آخر ما ندرك

لم يعد الحزن قادرا على سحقي كما كان يفعل دوما ، أنا الذي تهت في دهاليز الإكتئاب سنوات و استبد بي القنوط ...كنت ذليلا و مكللا بالعار ، خسرت سنوات من عمري و الأحزان تكبلني و تمزق قلبي ...جثمت الكآبة على صدري و منعتني من الدراسة و من فعل أي شيء...قضيت زمنا طويلا وأنا أتنقل بين المستشفيات و الأخصائيين ...كانت كرامتي جريحة و مجلودة بالإذلال ...صرت أشبه بفأر للتجارب و الأطباء يخضعونني لعقاقيرهم المختلفة التي اقتحمت أحشائي في محاولة لإصلاح روحي المعطوبة ...أتجنب ملاقاة الناس و أقربائي لأواري عاري و فشلي ، كنت منسحقا تحت عبء ثقيل , ظن الجميع أن رحيلها سيكون قاصمة ظهري ، و تراهنوا فيما بينهم على الوقت اللازم لرؤيتي أتدلى و الحبل يطوّق عنقي .

فلم يكن يربطني بالحياة إلا خيط واهن ، وأنا أهيم في الوجود في حيرة موحشة

يوم الجنازة ، كان الناس مشدوهين و رمقوني بنظرات مريبة و أنا أستقبلهم بعنق ممشوق و بسمة متحدية ، رغم جذوة الأسى التي كانت تتأجج داخل قلبي الكسير ...كلمات أمي أجبرتني على التمرد ، و قررت أن لا أدع فرصة الحياة تمرّ وأنا أنتظر ...قررت أن أصير حيا ، لا موجودا فحسب ...ساعدتني أمي على فهم الحياة ...مهما كان الوضع سيئا ، فلا بد أن يمر ...يجب التحرك سريعا كي لا تخسر الكثير ، و لا بأس من الخسارة ، توجه دوما نحو الأهم ثم حاول إصلاح البقية ...لا يجب القبوع كثيرا في حضيض اليأس ، تقبل الحياة كما هي ، فالحزن جزء مهم منها ، لا تستسلم لحزنك و لا تظل أسيرا له ، بل حوله إلى حكمة ....توقفت عن مقت نفسي و حاولت أن أكون إنسانا جيدا كما أوصت ...لم تقدر الآلام على جعلي طاغية بل زادت من حِلمي و صرت أهتم بمآسي الآخرين ، فأنا أفقه قذارة الألم ...أحاول مساعدتهم و لو بكلمة طيبة أو ابتسامة على الأقل ...أنا أعلم أهمية ذلك و حاجتهم إليه بحكم ما قاسيته لمّا كانالظلام الدامس يلف حياتي ...

يضيف " ألبير كامو" في المرافعة عني ، وهو بالمناسبة كاتبي المفضل بعد أمي :" لكي نكتب علينا أن نرضى بالقليل من التعبيرات...الثرثرة ممنوعة في جميع الأحوال " ....فعلا ، كم كانت أمي كاتبة عظيمة ، كتبت فقط ما كان يجب كتابته...لم يكن لها وقت للثرثرة و الهراء كالكتابات الرديئة التي تنتشر اليوم ، أو كما أفعل أنا الآن ...لقد كانت كاتبة حقيقية يزيد "كامو" من تبيان لما أنا متؤثر بأمي قائلا :" أتعرف لماذا نكون دائما أكثر عدلا و أشد كرما نحو الموتى ؟ السبب بسيط ، فليس هناك إلتزام نحوهم ، إنهم يتركوننا أحرارا "... بالظبط ، لقد علمتني أمي كيف أكون حرا ، تماما كما تعلمت يا " كامو" الحرية من الفقر و ليس من كتب "كارل ماركس" ، تعلمت الحرية و أنت تشاهد أمك تكافح من أجلك و إخوانك كمعينة منزلية ...

العرق البارد يتدفق بين كل أوصالي ، و أنا أسمع أمي تئن بصوت رهيب ، كانت خاملة اليدين و كان العرق ينثال على جبينها و قلبها المتثاقل لا يريد الإستسلام للموت البغيض ...تحاورنا بالنظرات وائتمنتني على بعض القبلات لأوصلها لشقيقتي

بدت ظلا بغير دم ، اختفت ملامحها و تغيرت سحنتها عندما بدأ الموت يزحف وئيدا عبر جسدها

أرجوك لا تتركيني ، لا تتلاشي في الظلام

ارحم أمي أيها الموت ، لم تقترف شيئا لتنال هذه القسوة ...أتركها إلى حين أو خذني قربانا في مكانها على مذابح مجدك، تفترسها بشكل قاس و تتجنبني ، بحثت عنك لسنوات لكنك تهرب مني ، خذني واتركها ، لازلت أشتاق لك، لكنك تخذلني كل مرة ، و خاصة هذه المرة ...كن حليما و تقبل توسلاتي الصادقة ...تضرعت بشكل مشين وأنا أطلب الرحمة أو حتى تمكيني من عناق أخير ...تمنيت لو تستطيع أمي معاندة القدر و ظل الأمل يهدهد خيالي...

لكن ، لم تحدث المعجزة ...

لم تقبل صلواتي اليائسة...

يا لها من نهاية مروعة ، أبشع من الموت نفسه .

شعرت بطعم خسارة مريرة ، و انسحبت من وسط الدمار الهائل و أنا أخاتل دموعي ، قبل أن أنخرط في بكاء مرير بعد فقداني السلطة على عيني .

بسذاجة و مرتجف الأوصال ، تناولت سيجارة لتواسيني في مصابي و تساعدني في التفكير في خطة إنهاء وجودي المشؤوم ، توقف الزمن ووجدت نفسي متشظيا بين وصيتها المكتوبة و آلامي المبرحة ....و كانت تلك بداية تمردي ، بخطوة جريئة و مفاجئة ، وباسم السلطة الممنوحة لي من والدتي ، أعلنت الطلاق بين السجائر و شفتاي ، حيث كان يجمع بينهما لسنوات زواج كاثوليكي .

بمرور الأيام ، تأكدت أن لا شيء يضاهي لباس العافية ، أمام المعاناة لن تجد إلا جسدك ...لقد غيرت تلك الشذرة البسيطة حياتي...وحدها الشذرات حقيقية كما يقول الفيلسوف " إميل سيوران " ...فالشذرة كما قال تمثل كبرياء لحظة ، و أضاف أن كل عمل ذا نفس طويل ، و خاضع لمتطلبات البناء و الإفراط في التماسك هو عمل مزيّف ...قلة هي الكتابات الحقيقية التي تتمرد على كل أشكال البناء و يكون هدفها الوحيد إيصال صرخة معاناة الإنسان .

كانت كتابة أمي حقيقية بلا شك ، إنها من النوع الذي كان يفضله " نيتشه" ، تلك الكتابات التي كتبها الإنسان بدمه كما قال .

ليس بالضرورة أن يكون كاتب تبلغ شهرته الآفاق أشدهم أثرا عليك ، قد ينتزعك من الشقاء كاتب يعتبره البعض متواضعا ، أو شخصا مجهولا لا يسعى للخلود .

إني أشبه أمي أحيانا بزوربا اليوناني ، ذلك الرجل الأمّي الذي كانت الحياة مدرسته الوحيدة ، لكنه قدم دروسا جليلة لا تنسى في فن العيش للكاتب و الفيلسوف اليوناني " نيكوس كازانتزاكيس" ، فاتخذه قدوة في الحياة ، و تعلم أن المعاناة هي منبع الحكمة .

في 4 جانفي 1960 ، تم العثور على " ألبير كامو" وهو ميت بعد حادث سيارة أليم - أحسبه كان في طريقه لإكمال مهمة الدفاع عني -، فقد تم العثور في جيبه على مخطوطة رواية " الرجل الأول " ، و في صفحتها الأولى إهداء لأمه الأميّة " السيدة كامو، لك أنت التيلن تتمكني أبدا من قراءة هذا الكتاب " ، يبدو المسكين قد تأثر كثيرا بقضيتي ، فقرر تكريم والدته التي كان لها الأثر الأكبر في نجاحاته ، لقد كانت أما رائعة، لطالما ذكرها في مقابلاته ، أثرها يشابه الأثر الذي تركته والدة "إيمانويل كانط" على ابنها .

كلمات الأم أثرها لا يموت ، لا يمكن لأي كاتب أو أي قانون أخلاقي أن يؤثر فيك بقدر كلماتها التي خرجت من صدر حنون و محب كلمات الأم قبس ينير دروب الوحشة السحماء.

ربما تركتني أمي وحيدا ، لكن الأم المحبة كما قال " كيركغارد" هي من تعلم ابنها المشي بمفرده .

كان للجمل القليلة التي كتبتها أمي شديد الأثر ، أظنها كاتبة رائعة ، حققت و لو بشكل متواضع ما كان يهفو له " نيتشه " ، أن يقول في بضع جمل ما يقوله الآخرون في كتاب كامل .

أكتب هذه الرسالة وأنا لا ألتزم بأي بناء ، فأنا أعلم أن والدتي لن تهتم بذلك إذا علمت أنها من فلذة كبدها ...أردت فقط أن أكون حقيقيا معها كما كانت معي دوما ..إن هذه الرسالة رغم طولها ضرورية، تماما مثل كلماتها الأخيرة قبل الرحيل

كانت الرسالة طويلة لأني نقلت فيها أطوار المحاكمة التي انتهت بحكم نهائي و دون إمكانية للإستئناف يقضي باعتبار أمي كاتبة(للأسف لم تكن حاضرة يوم إعلان الحكم)  و اعتبار كل إنسان كتب شيئا متحديا العبث مهما كان متواضعا كاتبا كذلك ، أريد أن أشكر صديقي " ألبير كامو" لتبنيه هذه القضية ، لقد أحرجني فعلا بإنسانيته المعهودة ، لقد رفض الحصول على المال نظير الترافع عني ، إحتراما لصداقتنا و معتبرا مثل هذه القضايا الإنسانية لا تقدر بثمن .

ستخذلني اللغة الآن ، لأني سأخاطب أمي مباشرة في ما تبقى...وأنا مجبر كذلك على استعمال الكلمات القليلة التي تعرفها أمي ، فقاموسها لا يتجاوز بضع مئات من الكلمات

أمي ، أنا مشتاق لك كثيرا ، مشتاق لأكلك اللذيذ الذي لا يضاهيه أي طعام ...لا زلت قويا بفضل كلماتك و لا زلت أقف أبيا على أقدامي ، لم يعد الحزن قادرا على الفتك بي ، إنه يتلاشى أمام وهج كلماتك ...أنا أعتني بشقيقتي كما كنت تفعلين ، و كما قلت تماما ، كلما اشتدت الحياة و تساقط الأدعياء، أجدها دائما إلى جانبي ...إنها تذكرني بك في إصرارها و خاصة في ملامحها

لقد أقلعت عن التدخين ، و كل المساوئ التي لم تكوني راضية عنها . و أنا دوما مهتم بصحتي كي لا يصيبك القلق . وأتمنى أن أجعلك فخورة بي

لازلت تعيشين داخلي عبر كلماتك .

لا تدرين كم كانت كتابتك الأخيرة حاسمة ، لقد أعادتني للحياة ...لازلت أحيا بحبك ...  و مازلت حبي الأول ...كل لحظة و أنت تحتلين تفكيري ...أزور نفس الأماكن التي كنت تحبينها لأعيد إحياء الماضي و أعيد رسمك ، ولو في خيالي

حرمني السرطان من حضنك ، و صرت فطيما عن حنانك ، حرمني من كتابتك الرائعة   و العميقة

هناك أخبار جيدة ، فقد تم اعتبارك كاتبة بفضل تلك الجمل الرائعة التي تركتها قبل رحيلك . لو بقي لك وقت ربما لأنتجت أعمالا أخرى عظيمة ...لكن ذلك الخبيث الذي وجد ليدمر ، أفسد كل شيء

على السرطان فعلا أن يخجل من نفسه...

فلاشيء يدعوه للفخر...

سألت عنك " ألبير كامو " ( هو الذي ساهم في تتويجك كاتبة ، إنه ذلك الرجل الذي أعلق صوره في غرفتي و أضع صورته على الفيس بوك ) لعله شاهدك ، فقد رحل قبلك عن هذا العالم ، لكنه أجاب بالنفي ، و علل أحد أصدقائي ذلك ، أنه من المرجح أن لا تلتقيا لأنكما لا تحملان نفس الدين...ربما ، أولعله لم يبحث عنك جيدا ، أنا أعذره ، فهو منشغل هذه الفترة كثيرا بسبب الحملة الشعواء التي شنها عليه الفيلسوف " سارتر " ...لا يهم

قال لي شخص آخر أن الأموات يرقدون في نفس المكان حيث يرقد الذين لم يولدوا ...و أضاف أن الموت يبدو ممتعا ، فكل من يرحل لا يريد العودة .

لا تحسبيني يا أمي جافيا ، لقد كتبت لك مئات الرسائل و أرسلتها لمئات العناوين لكنك لا تجيبين .

ها أنذا أضع هذه الرسالة ، لعلك تكونين إحدى المتابعات ...عسى أن أجد منك جوابا

منذ أن غارت عيناك في محجريهما و انطفأ منهما النور ، وأنت لا تجيبين

أمضيت ليلتك في صمت لا يريم

خاطبتك طويلا و أنت مسجاة على النعش ، لكنك لم تردي

شيعتك بنظري و كلمتك لما انفردت بك بعد تسللك إلى تلك الثغرة في عمق الأرض ...لكني عدت خائبا

رغم ذلك ، سأظل أرسل لك الرسائل ولو تفشّغ الشيب رأسي

فقط ، اعذريني يا أمي إذا لم تصلك رسائلي...

فقد رحلت ... و لم تدلّيني على عنوانك الجديد...


  • 12

   نشر في 10 ديسمبر 2018 .

التعليقات

Tasnim tariq منذ 5 سنة
اؤمن دائما ان الكلام الاصدق من الأشخاص الذين لا يبعدون سوى بضع خطوات عن حافة الموت ، ربما لأنهم سئموا من الكذب بشأن الحياة ،أو لأن الحياة بدت لهم تافه ، أو لأنهم لا يريدون لغيرهم أن يخطئوا بما اخطئوا هم به فطلبت منك أن لا تحزن لانها حزنت على أمور لم تستحق بتاتا أدنى درجات الحزن ، وطلبت منك أن تهتم بصحتك معتقدة أن مرضها سببه إهمال منها ....
فقدم لهذه العظيمة معروفا و اعمل بنصيحتها ....
مقالة لا توصف . اكثر من رائعة
0
هيثم صالحي
شكرا على المرور...نعم أمام الموت يصبح الناس صادقين
بوركت الصدفة التي جعلتني أقرأ لك ..
بوركت روح أمك ..أشهد أنها كاتبة عظيمة ..وأنك الوريث الشرعي لموهبتها.
0
هيثم صالحي
شكرا على المرور...

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا