حــــــورية إبـــــلـــــيس (الجزء الثاني) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حــــــورية إبـــــلـــــيس (الجزء الثاني)

  نشر في 06 ماي 2023 .

الوطن ليس أرضا فقط، الوطن حضن دافئ يغنيك عما سواه، لذا فعندما غادَرَت روز قريتها تركت بها إلى الأبد جزءا من روحها. وعندما أوصت عباس بأن لا ينسى أصله فقد كانت توصي نفسها بذلك. أصبح أهل القرية مكروبون بعد رحيل أبنائهم. كل حي يبكي فقيده، حتى الجبال المحيطة بالقرية بدأت تفقد شموخها، حرقة الفراق لا يعرفها سوى مفارق. وقلب أم روز لا يزال جريحا حتى بعدما وصلتها أول رسالة من ابنتها تعتذر فيها عما أقبلت عليه. لا شيء يساوي مهانة الحاجة، الكل في القرية يعلم ذلك، لذلك فرغم قساوة الموقف، إلا أن بعضهم سامح... لأنهم مؤمنون بأن المغرفة تحمي القلب من الوهن.

بدأ تردد أدهم على المطعم يزيد عن يوم في الأسبوع، وفي مرة دعا روز إلى طاولته فامتنعت. اقترح عليها أن يلتقيا بعد انتهاءها من العمل فرفضت، قالت له أنها لا ترغب في مواعدة أحد. أكد لها أنه يريد أن يتحدث معها في أمور مهنية وألح عليها بأن تسمع عرضه فإن لم يعجبها لم يعد بعد ذلك. فقبلت والتقيا بمقهى مرموق في وسط المدينة. أبهرها كل شيء في ذلك المكان، بدأت عيناها الخضراوان اللوزية تدور بكل ركن. الكل ينظر إليها باستغراب، كيف يمكن لفتاة بهيأتها يظهر عليها الفقر والحرمان أن ترتاد مقهى "الدولتشي فيتا" العريق، المقهى الذي يحمل الكثير من اسمه، والذي ستبدأ فيه حكايتها.

بعد لحظة صمت كان ينظر فيها أدهم إلى قهوته مداعبا أطراف الفنجان بيده البيضاء، رفع عينيه نحو روز ليخاطبها بنبرة تعتريها ثقة فيما سيتفوه به:

- أعمل بمجال الخدمات، مهمتي أن أبحث عن فتيات طموحات مثلك لأعرض عليهن عقود عمل بأوروبا،

- أوروبا؟ كيف ذلك؟ وماذا ستفعل فتاة مثلي بأوروبا؟ ثم أن السفر إلى هناك يتطلب الكثير!

- لا تستبقي الأحداث، سأجيب على كل تساؤلاتك هذه وستقتنعين. أنا أشتغل بشركة كبيرة ترسل عمالة أجنبية من الفتيات خصيصا إلى بلدان أوروبية كي يعملن كمربيات أو مدبرات منازل أو بالفنادق كعاملات نظافة أو نادلات أو حتى بالاستقبال. عرضي لك كالتالي: هناك فندق كبير بإيطاليا يطلب حاليا عددا لا بأس به من النادلات، ستعملين بأضعاف أضعاف ما تقبضينه في هذه البؤرة التعيسة. ماذا قلت؟

- وماذا أقول؟ عرض مغر، لكن لماذا أنا؟

- لست الوحيدة، ستكونين واحدة من ضمن خمسة وعشرين فتاة من المدينة. لكنهن لسن بجمالك.

- دع جمالي على جنب، كيف أتأكد من صحة كلامك؟

- إن كنتِ مهتمة فموعدنا غدا بمكتبنا، تجدين العنوان على بطاقة العمل هذه، إن لم تأتِ فسأعلم أن العرض مرفوض.

في تلك الليلة لم تنم روز، كانت تريد أن تخرج من قريتها فقط، فإذا بهذا الغريب يعرض عليها أن ترحل عن الوطن. عملها بالمدينة لا يجدي، كل ما تجنيه لا يكفي سوى لاحتياجاتها الأساسية. أما إن قبلت بعرض أدهم فستتمكن من مساعدة والدتها وأختها ومن انتشالهما من الفقر. ذهبت تستشير السيدة ناهد التي نصحتها بالتريث وقالت لها ما لم تفهم مغزاه في الحين:

- تعلمين يا روز أن العظيم يوسف وهبي كان محقا عندما قال بأن الدنيا مسرح كبير. هي فعلا مسرح كبير، بل وفيلم قصير نكتشف عند نهايته أن كل الأحداث التي دارت فيه كان يمكن أن تكون مختلفة لولا سذاجتنا. كلنا ممثلون، ولكل دوره. هناك من يظفر بالأدوار الكبرى وهناك من يعيش ويموت وهو مجرد كومبارس أو بديل جاهز للمغامرة كلما أرادوا أن يحموا نجما من المشاهد الصعبة. كلنا ممثلون يا عزيزتي... نفضل الحفلات التنكرية على احتساء قهوة سوداء مع الحقيقة... ذلك لأن الحقيقة مُرة كمثيلتها السوداء... أما الحفلات التنكرية فلا تحتاج سوى لقناع سهل الارتداء. فلا تستغربي... ما الدنيا إلا مسرح كبير...

قصدت روز العنوان المكتوب بالبطاقة، فتح لها شخص يبدو أنه يعمل بالمكتب. استقبلها أدهم بحفاوة كبيرة:

- كنت أعلم أنك ستأتين، عرضنا لا يُرفض. تفضلي بالقاعة الكبيرة، الفتيات مجتمعات هناك.

تعرفت في ذلك اليوم على صوفيا، الآتية من ضيعة النسر المجاورة لقريتها. يسمونها كذلك لأن النسور دائما ما تحوم حولها. حكت لها صوفيا أن أهلها أرسلوها للمدينة لتدرس فقررت أن تبني مستقبلا لها بعيدا عن مسقط رأسها. كتمت روز سرها، لا تريد أن تتحدث عن حياتها كثيرا فالثرثرة لا تفيد بشيء والشكوى مذلة. بدأ أدهم في شرحه حول عقود العمل وما ستجده الفتيات بالأرض المعهودة من خير ورغد:

- الشركة ستتكلف بجل مستلزمات السفر، لن تشقين في شيء. لا نحتاج سوى لإمضائكن على العقود وسنوافيكن بالخطوات المقبلة.

بدا لروز بأن صوفيا معجبة بأدهم، ترتبك عندما ينظر إليها وتؤيد كل ما يقوله بخنوعْ. الحقيقة أن لجماله تأثير قوي، هو طويل القامة ممشوق القوام، عيناه كبيرتان لونهما عسلي كالسحر، شعره أسود حريري وحركاته كلها مضبوطة ومدروسة ... لكن روز لا تفكر سوى في فك الحصار عن نفسها وذويها.

صدقت روز العرض ووضعت ثقتها بأدهم الذي استمر بالاتصال بها لإتمام السفر. اتخذت صوفيا صديقة لها وبدأتا تلتقيان بعد نهاية كل يوم عمل لتحضير كل ما يلزمهما، عقدت العزم على السفر لإيطاليا من أجل عملها الجديد، أو كذلك كانت تعتقد.

********************************************************************

كان أول يوم لروز والفتيات اللائي رافقنها بنابولي غريبا، تم اقتيادهن إلى بيت كبير ثم الزج بهن في غرف منفردة لعزلهن عن بعضهن البعض. أُقفل عليهن بإحكام حتى لا يهربن. بدأت روز تصرخ بأعلى صوتها، لا تصدق ما يجري، هل هذا كابوس؟ نادت أدهم لكنه لم يجب، نادت على صوفيا فلم تلقى سوى توبيخا من حارس خارج الغرفة لتلتزم الصمت. لا تعلم أين يتواجد البيت، لا تعلم أين رمت بها الأقدار ولا إلى ما ستقودها الأيام المقبلة.

في اليوم الموالي جمع أدهم الفتيات في ساحة البيت وقد أضناهن البكاء، رسم على شفتيه ابتسامة عريضة وقال:

- لستن هنا من أجل العمل ولا في رحلة سياحية. أنتن هنا في عهدتي حتى أسلمكن وأوصل الأمانة لأصحابها.

أُغشِي على صوفيا من أثر الصدمة، لم تصدّق روز ما سمعت، باقي الفتيات يبكين ويندبن حظهن. صاح فيهن الحراس مهددين بالسلاح، فسكتن وابتلعن ريقهن من شدة الخوف. إنها شبكة مختصة في التجارة بالبشر، أدهم ذو المحيا الملائكي ليس سوى مهرب معهم. أيقنت روز أنها وقعت بين يدي شيطان يحترف الخداع والكذب على السذج مثلها.

ثم بعد فترة اختفى أدهم، لم يعد يأتِ إلى المكان، يبدو أنه أدّى مهمته وعاد أدراجه حتى يتفرغ لصيد جديد. تمر الأيام على روز كالسيف في حدته. لا تلتقي بصوفيا إلا على طاولة الأكل، فكرتا بالهرب لكنهما لم تجدا من سبيل. في الغد سيساق بهما إلى وجهة أخرى.

عند فجر اليوم التالي استيقظت الفتيات على ضوضاء سيارات بالخارج، سُحِبن بالقوة نحو العربات التي ستقتادهن إلى مقرات جديدة. وجدت روز وصوفيا نفسيهما في مدينة أخرى، استقر بهما الحال في شقة تم دفع إيجارها مسبقا. ستبدئان العمل كفتيات ليل. هددهما المرافق أنهما إذا حاولتا الهرب سيفرغ المسدس في رأسيهما. وكيف المهْرَبُ وإلى أين؟ قالت روز في قرارة نفسها. جواز السفر وأوراق هويتها معهم. إما الموت أو التشرد... استسلمت لقدرها.

مرت عليها أول ليلة وكأن روحها تسحب منها، أحست وكأنها أطول ليلة في حياتها. ثم اعتادت هي وصديقتها على ارتياد الملاهي والمراقص. أصبحت النقود تتساقط عليهما كالمطر. تغيرت، لم تعد الفتاة المنعزلة في حجرتها وسط كتبها وأحلامها، أضحت مومسا أكبر همها أن تضل بعد كل ليلة على قيد الحياة.

ذات ليلة تظاهرت صوفيا بالمرض، توجهت روز للملهى بمفردها، عرّفها المرافق على رجل يظهر أنه شرقي، قضيا الليلة معا. في صباح اليوم الموالي ذهبت لتتفقد صديقتها فاعتقدت أنها نائمة، وجدت جنبها علبة عقار منوم فارغة، فهمت أن صوفيا أقدمت على الانتحار. أرادت أن تنقدها لكن الأوان كان قد فات. ماتت صوفيا... رحلت رفيقة دربها على الأبد.

غرقت روز في بحر من الحزن عميق، لم تعد تقوى على السهر. استأنفت العمل تحت تهديد المرافق. التقت ثانية بالرجل الشرقي تحت طلبه، لاحظ عليها الحزن فدفعها يأسها لتسرد عليه حكايتها. ترجّته أن يساعدها على الهرب بحكم أن لديه نفوذ. تركت له مهلة ليفكر. طلب خالد من المرافق أن يخص له روز وحده حتى يتسنّى له أن يراها متى أراد ذلك.

بدا لها أن خالد ليس كالباقين، كلما سامَرَها ترك في نفسها وقعا طيبا على الرغم من طبيعة علاقتهما، كما أنه لا يعاملها بجفاف كالآخرين. علمت أنه محام ناجح وبدأ يلجأ لفتيات الليل بعد وفاة زوجته لإحساسه بالضياع. قال لها ذات ليلة أنه يحس بالراحة في حضنها. قرر أن يساعدها على الهرب. وفّر لها هوية وجوازا مزورين وضرب لها موعدا لأجل السفر.

********************************************************************

جاء موعد الهروب، قادها المرافق لبيت خالد الذي كان ينتظرها بصبر كاد أن ينفذ. وجد طريقة يتنصّل بها من المرافق اللعين باستغلال نقطة ضعفه، وعده أنه سيوفر حماية لأخيه بالسجن إن هو غض عنهما البصر، الحمايةَ التي لم يرد الذين يشغلونه توفيرها له بعد كل الخدمات التي قدمها لهم.

عند وصولها للمطار، سألت روز خالد:

- لماذا ساعدتني؟

- لأنكِ مختلفة. علمتُ ذلك منذ الوهلة الأولى. اذهبي ولا تلتفتي، ففي الالتفات للوراء هلاكك.

تمكنت روز من العودة لقريتها النائية بعد سفر طويل، كان قد مر على رحيلها خمس سنوات. عندما طرقت باب البيت أطلت أختها ولم تتعرف عليها، صاحت بها:

- أنا روز أختك! أصبحتِ صبية في سن المراهقة، تركتك طفلة في عمر العاشرة!

لم تنطق الفتاة، أقبلت أم روز على ابنتها، أرادت روز أن تحضنها لكنها صدّتها، طلبت منها أن تعود من حيث أتت، فلا مكان للهاربات بهذا البيت.

كم كانت بحاجة لذلك الحضن، كم كانت تنتظر اللحظة التي تعترف فيها لأمها بأنها أخطأت وبأنها كانت ضحية لذئاب بشرية. ومن أين أتت أمها بهذه القسوة؟ توجهت روز بحقيبتها المكدسة بملابسها وخيباتها نحو البحيرة المتواجدة شرق القرية، غاصت بها حتى بدأت تفقد أنفاسها. في لحظة فكرت بالتراجع، لكنها تذكرت صديقتها صوفيا... اختارت أن تبقى في حضن البحيرة، وبذلك تحقق حلمها المتكرر. أصبحت حورية بحر. 



   نشر في 06 ماي 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا