عن حرية الجسد حين تحظره الظروف في أن ينقل الروح إلى ما يبهجها، إلى لقاء الأحبة، إلى سماء صافية، إلى جو ربيعي. عن سجن حقيقي لا يعرفه إلا الذين استنشقوا غبار الزنازن، و ماتت أرواحهم من شدة الضيق و الظلم، فلا عاد يهددهم الموت بشيء. عن ألم لا يلم به من لم ينم على سرير بارد في مستشفى، و تضحيات يومية لا يعلم بها من لا يرتدي وزرة بيضاء، و مأساة لا يشعر بها من يحبس نفسه وحيدا داخل غرفته في غربة. عن أوطان أهلكتها الجائحة، فخارت قواها، و تصاغرت عظمتها لتظهر حقيقة تفوقها العلمي زائفة تماما أمامنا، عن شباب تحطمت أحلامهم، فعادوا باكين الى أحضان آبائهم، ليكبر وعيهم بتفاهة تحقيق الذات أمام الأشياء البسيطة التي تخلق الحياة. عن نصرتنا لثقافات الغير، و تجبيلنا لأفكارهم و المباهاة بها، وتقديسنا لبلدانهم، حتى صار السفر إليها أكبر إنجازاتنا، فاتبعناهم و طمسنا هويتنا و قزمنا شرائعنا. عن المساجد التي أغلقت، لتناسب الأفئدة المغلقة عن حب الله و الخطى المتثاقلة عن طريقه .عن الأسر التي تعيش في فرقة على مائدة واحدة. عن تجارات كسدت، و اقتصادات دول اهتزت، و عن علاقات سياسية شلت، و أخبار شيعت، و مكائد قصدت. عن المجتمع الذي تفشت فيه أوبئة الفساد، و لكننا لم نتسلح بالوقاية، فالتصق الجهل بنا و لم نعقم قلوبنا فعلت أوردتها عن النبض لما يحييها. عن هجرنا للقرآن، و مصافحتنا لأهواء النفس، و صمت أفواهنا عن قول كلمة صادقة، و انشغالنا بسفاسف الأمور عن حظر النفس من الانصياع لما يهلكها. عن الحياة كيف تنقلب موازينها في لحظة واحدة، لتعلمنا أن لا ننتقص من قيمة ما نملكه، و أنه ليس لنا من الأمر شيء، إلا أن ننتهز الوقت كي نغير ما بأنفسنا. لعل النفوس تخرج ضغائنها في المحظور، فلا تسخط بالمقدور، وتنبسط عند تحقق المنظور و لعل القلوب ترجع مطمئنة الى خالقها تتبرأ من حولها إلى حوله، و من قوتها إلى قوته.
نضع الكمامات الآن علنا، نعلن بها هزيمتنا أمام الحق. نترك الآن علنا ما يكفي من مسافات الأمان و قلوبنا من أزمنة متباعدة. لا نصافح الآن علنا وقد اعتدنا أن نصافح المساوئ في الغيبة خلسة. نتذمر لأننا لم نخرج من بيوتنا، و بيوتنا تتذمر من جلوسنا فيها، نتقلب يمنة و يسارا في غضب و خوف، و من انعدام راحة.
يقال إن الأزمات تكشف معادن النفوس و الأزمات تكشف بعد مدة معادنها أيضا. و الذي سيأتي بعد هذه الأحداث محير أكثر منها. و الشعوب تبحث لاهية عن حريتها، و حريتها هي ما تبحث عنه ما يحكم هذه الأزمة...
ما الذي أعددناه بعد كل هذا، غير تقارير بعدد الوفيات و التحاليل المجهرية؟ و غير صفوف من المعقمات؟ ماذا أعددنا من أنظمة توافق معايير الجودة في الصحة حتى لا تتكرر الفواجع؟ هل سنظل ننحب كل عام قلة المعدات و هشاشة المؤسسات و ضعف الدعم الحكومي؟ و أيننا كمجتمعات عربية من الفكر الاستباقي و فكر السبع سنوات العجاف؟ و من أسلوب التكافل الاجتماعي؟ ماذا أعددنا من تدابير اجتماعية تحفظ كرامة الفئات الهشة بصفة مستمرة لا فقط في ظروف مماثلة؟ ماذا أعددنا لنواكب نفسية الأطفال بعد الحجر؟ و هل نجحنا في تقريب الناشئة من المستوى المطلوب؟ المستوى الذي يؤهلها مستقبلا لأخذ المبادرة و تفعيلها و التصدي للمشكلات؟ هل نحن كاقتصاد قادرون على تحمل عواقب عجلة قد تتغير بأكملها؟
هل أعددنا ضمائرنا لترضى؟ و قلوبنا لتستريح؟ و عقولنا للفهم ؟ و هل أعددنا أنفسنا لتتصالح مع الحياة؟ أم أننا سنعود فقط لنفسد فيها من جديد !
-
Nouhaila Afrejأستاذة و كاتبة مغربية