وجه رجل ليس وحيد - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

وجه رجل ليس وحيد

  نشر في 16 ديسمبر 2022 .

الكاتب والأديب ابن بيئته ،فلا يمكن أن يعيش بمعزل عن تلك البيئة ،وبالتأكيد ستظهر في كتاباته وإبداعه. فكتاباته تشبه شخصيته وهي انعكاس مباشر أو غير مباشر لما في داخله من تفاعلات نتيجة حصيلة قراءات وخبرات. ومن أكثر البلدان العربية المبدعة تاريخاً وجغرافية لبنان هذا البلد الصغير مساحة ،ولكنه مثل لوحة فسيفساء رائعة ،كثير من أبنائه مبدعون وبالأخص أبناء الجنوب بداية من ميناء صيدا حتى الحدود مع فلسطين المحتلة.

هذا الإبداع الرباني بين البحر والجبل أخرج سلسلة من الكتاب والأدباء والمبدعين ومن هذه السلسلة كاتب جنوبي ابن مدينة صور من بلدة دير قانون النهر الجميلة التي ينتاز أهلها بالطيبة و حسن الخلق والسماحة وحب الآخرين، مهدي زلزلي الذي كتب مجموعته القصصية (وجه رجل وحيد ) وطبعتها دار الفارابي ببيروت عام 2018 مثال لهذا المثال السابق ،مثال للمثقف المتشبع بمفردات بيئته الجنوبية المقاومة من جهة والغارقة في الرومانسية من جهة أخرى ،فهذه المجموعة تشبه كاتبها مثل اشجار الآرز ثابت في أعماق الأرض عنيد مقاوم صامد يشير إلى الأعلى يحب الحياة والضياء، مترابط مع الأرض والتاريخ والجغرافيا العبقرية.

المجموعة القصصية تنوعت القصص فيها فلم تكن مرتبطة بغرض محدد ولكن محورها هو الإنسان في العموم بمواقفه ومفرداته ،والمدقق والناظر بعين الناقد المتفحص حيجد أن هناك رسالة للكاتب وهي أن الإنسان الجنوبي خصوصاً واللبناني عموماً هو في النهاية إنسان له شعور ووجدان وإحساس ومشاكل وليس بالصورة النمطية التي رسبتها وسائل الإعلام في الأذهان عن الجنوب وأهله ، أراد مهدي زلزلي إخراج تلك الصورة من الاذهان وأن يقول نحن بشر لنا حياة طبيعية فيها الكثير من المعوقات والصعوبات ولسنا حجارة أو جليداً ،تميزت المجموعة بشكل عام بلغة جذابة راقية وأسلوب لغوي فريد ليس بالصعب وليس بالعامي وهي نقطة ايجابية للكاتب حيث يستخدم كثيرون العامية ،وقد يبالغ البعض في تقعير الفصحى وهذه الكتابة باسلوب السهل الممتنع من سمات الكاتب الشخصية ومن سمات بلدته الجميلة الهادئة ولكنها برغم ذلك بلدة الشهداء والعلماء.

فاجأني الكاتب بابتعاده عن مواضيع المقاومة والتطرق للصراع مع الاحتلال أو الحرب الأهلية كأغلب الكتاب اللبنانيين بالأخص الجنوبيين فكتب بلغة مطلقة تشير إلى الإنسان وقد جرده قلم مهدي زلزلي من حواجز الهوية والدين والطائفة وغيرها من حواجز الكتابة و التأطير عند القراء وهو منحى حداثي أضاف أبعاداً وأعماقاً للقصص.

اعتمد مهدي زلزلي بشكل كبير على التركيز والاختزال وهي من أهم سمات القصص القصيرة، تنوع استخدام تقنيات كتابية وفنية من وحدة الزمان والمكان أحياناً إ تنوعه في أحيان أخرى ،كذلك حجم القصص من حيث الطول لم يكن متطابقاً .أسلوب مهدي زلزلي رقيق المشاعر ليس فيه غلظة ولكنه ابتعد عن الجرأة في المواضيع وهذا مثال عن طبيعته المحافظة ولكنه استخدم بعض التعبيرات الملائمة فلم تكن فجة أو مفتعلة.

القصص كانت أغلبها من مواقف حياتية تميل إلى الجانب الاجتماعي وهو ربما ما جعلها متوقعة النهايات وتقليدية في كثير منها وهو الجانب السلبي الأبرز في المجموعة فهي لم تدهش القارئ المتمرس المجرب ولكن في جانب آخر فإن لغة مهدي زلزلي وتعبيراته كانت جاذبة بشكل كبير ، والقصص تنتمي أكثر إلى النمط الواقعي والكلاسيكي وهو ما افتقدناه كثيراً في الأدب العربي الحديث.

كل هذه السمات تظهر في اختيار أسماء وعناوين القصص ،ويتضح مع الوقت أن للقصص ترتبطات وتشابكات داخل المواضيع نفسها وكأنها فصول متقاطعة من رواية ، أبرزت المجموعة قضايا المجتمع بطريقة الإشارة والتلميح وليس التوجيه الصريح ،ربما لخوف الكاتب من الوقوع في التأريخ او الخطابية أو التصنيف السياسي ،فأراد أن تكون كتابته عن المجتمع ومتصالحة مع الجميع ومنحازة لآرائه بدون أن تتحمل نصوصه التمييز الواقع في لبنان وغيره من بلادنا العربية ، وهذه الإرادة أن يكون النص ملك من يقرأه يكون للجميع غير محدود للجنوب وأهله فقط هي نقطة إيجابية للمجموعة ككل.

جاءت العناوين أيضاً لخدمة الأفكار التي أراد طرحها الكاتب مثل الطبقية والعمالة الوافدة والبطالة ونقص الخدمات في الجنوب والتهميش أحياناً وتمثلت في موضوع الطاقة والكهرباء مثلا ، والمجتمع الذكوري وإهدار قيمة المرأة ومكانتها في كثير مواضع وانتقاصها في قضايا مثل التحرش وغيره .

واتضح ذلك من اختيار عناوين مثل الخادمتان ،بعد عشرين عاماً ، بيتي ، في وداع عمتها .ظهرت جوانب فلسفية وراء القصص وتنوعت بين الصوفية العرفانية وبرزت في الإهداء مثلاً وبين العدمية والعبثية التي تحاول السخرية من الواقع لإيضاح قيمة الحياة الحقيقية أنها لا تستحق هذا التناحر والتصادم على فتاتها وحطامها الزائل مثل صورة أخيرة لعامل المخبز ، وأيقونة ، وذكرى ، وموت نظارة شمسية .

ظهرت مقارنات بين الواقع والخيال وبين الواقع والمأمول وحدث تداخل بينهم في كثير من اللقطات والمشاهد لإثارة ذهن القارئ ودفعه للتفكير بدون إملاء وتلقين من الكاتب وكان هذا في اغلب القصص مثل قصة الرجل الخطير.

إن كان الأستاذ مهدي زلزلي اختار وجه رجل وحيد كعنوان لإحدى قصصه بعنوان ابتسامة على وجه رجل وحيد ،وكعنوان للمجموعة ككل وهي قصة تتحدث عن قيمة الحب في زمن صعب طغت فيه المادة على كثير من القيم بل والمشاعر أيضاً ، وظل هذا الرجل الوحيد ضميراً مستتراً في كل القصص لا يعرف أن يولي وجهه في حيرة بين القيم والتقاليد والحب وبين المال وهذا الصراع الذي يعيشه كل شخص فينا بين الوحدة أو الانضمام لمجموعة ليس مثلهم وليسوا مثله ،هذه الحيرة والتساؤلات لدى مهدي زلزلي نقلها لنا بأسلوبه ولم يجب عنها وترك الإجابة لكل شخص فينا بين أن يظل وحيداً او لا .

في النهاية لا يسعني إلا أن أشكر القدر الذي أعطاني فرصة لقراءة المجموعة والتعرف على كاتبها ،وهو بالقطع ليس وحيداً بين محبيه وأهل بلدته الجميلة وقرائه وأتمنى له كل التوفيق والسداد.



   نشر في 16 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا