كانت تمشي على الرصيف بخفة ، تمسك بيد قبضة من قطع نقدية وباليد الأخرى كيسا يحوي بعض المشتريات البسيطة. كانت تنظر في كل الاتجاهات، إلى كل شيء وكل شخص وكل محل وكل بضاعة ولكن بلا هدف سوى أن تسرح النظر حولها بنهم وانشراح كبيرين ، وأن تتجول وتتمتع بفسحة وقدر من الحرية إلى حين تعود إلى عملها لتستأنف بقية المهام المناطة بعهدتها بنفس متجدد جميل.
كانت ترتدي مئزرا أبيض، ذلك الزي الرسمي الذي لا تتنازل عنه أبدا حتى ينتهي توقيت عملها مساء، فهي تجوب به الحي بكل فخر واعتزاز.
لما جاء بها "السمسار" (الوسيط) إلى البيت الجديد، لاحظت صاحبته بساطتها وقلة حكمتها لكنها أشفقت عليها وأحبت فيها تلك البراءة ونذرت أن ترأف بها وألا تجهدها.. أجلستها قبالتها وقالت :
ـ اسمعي يا مريم، أنا لست سيدة شريرة، ولكنني أحب الانضباط والاحترام ، أحب أن تطيعيني وتسمعي كلامي وإياك والكذب عليّ ، فلا أشد عليّ من ذلك ، ومتى صعبت عليك مهمة فقولي ذلك صراحة، لأنني لن أحملك ما لا طاقة لك به .
كانت ترد بـ"نعم " بصفة آلية محركة رأسها وشعرها بتلك الابتسامة الطيبة المنبهرة التي لا تفارقها.
وبعد أن عرفتها سيدتها الجديدة على كل أرجاء البيت، مدتها بلباس مطويّ مكويّ وقالت:
ـ هذا يا مريم مئزر العمل، زيّك الرسمي، أنت موظفة عندي كأي موظف يباشر عمله يوميا بدوام معين، و في آخر النهار سوف أوصلك بنفسي إلى بيت أهلك، وستتمتعين براحة في نهاية الأسبوع ، كأي موظف حكومي يا مريم .
أشرق وجه مريم وأفرجت عن ابتسامة عريضة والدهشة تملأ وجهها الطفولي وتمتمت:
ـ أنا موظفة؟
ـ نعم يا مريم ، مثلي تماما ، غير أن الفرق أني أعمل بمؤسسة عمومية وأنت تعملين في بيتي ، أنا أدير شؤون الشركة وأنت تديرين شؤون بيتي، وتساعدينني على أعبائه ، ستكونين يدي اليمنى يا مريم ، ثم ستقبضين مقابل خدماتك جراية كل آخر شهر ولو أردت أفتح لك حسابا بريديا ..
قالت مريم خجلة :
ـ حسابا ؟ سيدتي أنا أكره الحساب ، مذ كنت في سنوات الابتدائي ..
ابتسمت السيدة وقد فاض قلبها حنانا وشرحت قائلة :
ـ ههه يا مريم ، لا حساب ولا جغرافيا ، حساب بريدي يعني مكان آمن في مركز البريد تخبئين فيه جرايتك وتجمعين به ما تكسبين ، ولا حق لمخلوق أن يمد يده عليه.
همست مريم سائلة :
ـ ولا حتى أبي؟؟
ــ ولا حتى أبيك ، هو ملكك وحدك ، تسحبين المال متى تريدين وتهدين المال لأهلك كما أنت تحبين . - واستأنفت فيما كانت مريم متسمرة في مكانها في حالة ذهول - أكثر ما أوصيك به يا مريم ، هو أن تضعي طلبات أمي العجوز في صدارة الأولويات، قد أتنازل عن الترتيب مقابل أن تبذلي جهدك في خدمتها وتبجيلها.
استعصى على رأسها الصغيرة أن تستوعب كل هذا الكلام المهم الذي لم تسمع مثله من قبل من أي سيدة اشتغلت عندها. كانت لأول مرة تتسلم وظيفة رسمية و بلباس رسمي وبجراية لا تطالها يد وليّ أمرها ، لأول مرة تشعر بكل هذه الأهمية ، فهي الآن مثلها مثل سيدتها ورب البيت وجارهم عبد المجيد الموظف الحكومي وبقية المواطنين الذين تراهم يخرجون إلى العمل ويعودون آخر النهار ويتسلمون جرايات آخر الشهر..
تأملت شكلها بعد أن ارتدت مئزرها الناصع الرائع فشعرت وكأنها ملاك رحمة منوطة بعهدته مهام سامية جدا ونبيلة: ترتيب البيت وتنظيفه ومساعدة سيدتها على أعبائه وخدمة تلك الأم المريضة.
لذلك ظلت لا تتنازل عن مئزرها إلا لحظة تعود إلى بيت أهلها ، وكم كانت تتعمد المرور أمام المحلات ذات الواجهات البلورية لترى انعكاس صورتها وتطرب لها …
بقلم : ــ لميـــاء ن ب ــ