وما كُلّ حنينٍ كَحنينِ الحَرَم! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

وما كُلّ حنينٍ كَحنينِ الحَرَم!

  نشر في 16 أبريل 2018 .

أن تُعانقَ عيناكَ ذاك النّور المُنسَدِل على الكَعبة وتُلثّم الضياء المُتغشّي مِن تلك الهالةِ اللامُنتهية الدّوران مِن حَولِها لّهو اصطِفاءٌ طوبى لِمَن يُكرَمُ بِه، طوبى لِمَن سَعى ورُزِقَ الوصول، ما تخالُ نفسَك داخِلًا أرض الحرَم إلّا ويْكأنّها قطعةٌ مِن الجنّة في الدّنيا ما تلبِثُ أن تُغادرها إلّا وسحابةٌ مِن الوَحشةِ تتغمّم روحَك..

لا تلوموا طَمَع مَن زارَها مرّة أن يُريدها كلّ مرّة ، فهويُّ قلبِه صارَ أشدّ وأعمق.. وكلّما ناداهُ الحَرَم وأُكْرِمَ بالإجابةِ مرّة تتلوها مرّةً يتعاظَمُ تعلّقه بِكُلّ مكنوناتِ الحَرم..

كُلّ ما في الحَرم يدعوكَ لِتتناغمَ مَعه، بياضُ الظاهِر يشدُ بياضَ الباطِن، تناظُم الحَركة يُحرّك أجزاءً من كيانك لا تتحرّك إلّا هُناك، اختِلافُ المشارِب والألوان والألسِنة مع توحّد التجمّع يعمّق في النّفس غايةَ الدّين التي تُلهينا عنها معارِكُ الحياة حينما تعزّز في أعماقِنا الفرديّةَ المُطلقة، ثمّ ماذا؟، تتابُع الأركان، النّظامُ الربّانيّ بعيدًا عن إضافة البشر هناك، وضوحُ المسيرِ لغايةٍ نهائيّةٍ واحدة، كلّ ذرّة هُناك تأسرُ القلبَ ليستمرّ علوًّا وارتقاءً في الهُويّ، فيصبُح الدّمعُ غيرَ الدَمع، والشّوقُ غيرَ الشّوق، والحنينُ غير الحَنين، وما كلٌ حنينٍ في الأرضِ كحنين الحَرم ! لِمن ذاق فعَرَف..

يأتي ذاكَ المَهيم ساعيًا بعد لهيبِ شَوقٍ طال، مهما كانت المدّة فهو طويلٌ على أيّ حال، في الحقيقة هوَ يبدأُ لحظة أول خطوةٍ عادت بِه إلى دُنياه، ينكبُّ طالبًا إطفاء شَوقِه ساعيًا هُنا وهُناك، لا ينفكُّ متمسّكًا بأيّ طريقٍ تؤدّي بِه إلى مَسعاه، تبدأُ أفراحُ قلبِه مع بداية أملِ اللّقاءِ القَريب، ولكنّه للأسف يبقى أملًا فحسب، ربّما يُصيب وربّما يخيب، يُدرِك أنّه مَهما سَعى في الأسباب يبقى المُسبّب هو المُسبّب بِحكمتِه، ربّما تجتمعُ لَه كل الطّرق لتؤدّي بِه إلى موئِل صبابته، وربّما تأتيه العوائِقُ من كلّ جانبٍ حتّى تُرديهِ بعيدًا عمّا يتعطّش له و*تجري الرّياحُ بما لا تشتهي السّفنُ*، ليبقى من تِلك الفئة الّتي ذكرها أبوه إبراهيم في دعاءه يَوم دعا فَقال:"..فاجْعَل أفئدة من النّاس تهوي إليهم.."، تأتيهِ العوائِقُ ربّما على هيئةِ عوائِق بشريّة من نظامِهم الوضعيّ بما فيه من تعقيدات بعيدةٍ عن سعي هذا السّاعي، ربّما عوائق ماديّة لم يَكن له بِها طاقة، ربّما مصيبةٍ ألمّت بِه تُمسِك بِه عن اللّحاقِ بالرّكب، ربّما مُثبّطاتٌ بشريّةٌ مِن حَولِه تُثنيه عَن عَزمه في السّعي في سببٍ ربّما كان طَريقَه لو سَعى فيه، ربّما وربّما...فمهما كان يبقى حنينًا لم ينطفئ ويزداد اضطرادًا يومًا بعد يومًا، ويبقى القلبُ معلّقًا إلى أمَلٍ آخر..

أمّا إن وَصَل: فيا واصلًا أرضَ الحَرم ألقِ سلامًا ممّن تلوّع بعيدًا، ودَعْ كلّ ذرّة منك تَرتوي بزمزم الحَرم، وادعُ لكلِ قلبٍ هائمٍ يتوقُ صاحبُه وَصل الحَرَم.. جَمعٌ غفيرٌ مِن النّاس بذلوا سعيًا حتى مُنتهاه وكانَ الخيرُ البعيدُ عن أعيُنِهم البشريّة يكمنُ في عدم وصولِهم..فكن مُمتنًا شاكرًا ساجدًا بِكلّ ذرّة مِن جسَدِك أنْ وافَق القَدَرُ بِخيرِه سَعيَك لِما تَحسبُه خيرًا بعينِك القاصِرة فاجتَمع الخيرانٍ لتهدأ النّفس وتَصِل غاية سُكونِها..

وأمّا الكائنُ في دنياهُ بعيدًا لَم يَصل ولَم يَسع لِوصل الحَرم: فاعلمْ أنّك إن كنت تعرف مفهوم اللّذة فإنّك لم تَذقهُ بَعد، ويا حُزنَ قلبِك خارجًا من دُنياه لم يترنّم بِرياضِ الحَرم..

********

حينَ نعودُ لانغماسِنا في همومِ الدّنيا بينَ فَتراتِ النّفحات الرّبانيّة تتراكمُ في النّفس الكثيرُ مِن الشّوائِب التي تُعكّر صفوَ ارتقائِِها وسَعيها لمزيدٍ مِن العلوّ في تبصّر طريقِ ربَها، ومزيدٌ مِن التّراكمِ يوهِن النّفس عن مزيدٍ مِن الّسعي، حتى يشعرَ المَرءُ بانطفاءِ روحِه، وربَما مع مزيدٍ من التّراكمِ يفقد هذا الشّعورَ أصلًا!، فينسى أنّ الدنيا بكلّ ما فيها *شجرة* فقط ليستظِلّ فيها حينًا لا أن يبني فيها عشًا كسَكَنٍ أبديّ يُنسيه غايَته الّتي سارَ بدايةً لِلوصولِ إليها..

هل سَبَق أنْ حمّلت نفسَك أثقالًا من الدّنيا فوقَ ما تُطيق فغَدت كالرّاحِلة لا تُطيق سيرًا ولا تبلغُ سكنًا ثمّ في لحظةِ رجاءٍ روحيّ أتَتكَ تِلك النّفحة مِن ربّك تنتشِلُ عَنكَ ذلك الجَبَل الجاثِم على صَدرِك؟! تبدأ بعدَها في مراجعةِ كثيرٍ مِن تِلك الحِساباتِ الّتي بنيتها راغبًا في فترةِ رضوخِك للسّوادِ الأعظم من النّاس المجدّين في بناءِ أعشاشِهم على الشّجرة، حِينها تبقى راجيًا بألّا تعودُ الغشاوةُ توهِمك لِتدخَل في الزّحام الّذي يموتُ راقدًا في تِلك الشّجرة.. ولكنّ نفوسنا جُبِلَت على بعض الانتِكاسات، لِتبقى مستشعرًا نعيم النّفحات الرّبانية بين حينٍ وآخر، وكلّ نفحةٍ لَها مذاقٌ خاصّ: رمَضان وإعلانُ الصّحوة لكلّ قلبٍ مؤمن، شوّال، موسِم الحجّ وما فيهِ مِن معانٍ ربّانيّة تَصِل الأرض قاطبة فَمن لم يحجّ بجسده حجّ بروحه، عاشوراء، صيام النّفلِ من سنّة نبيّنا المصطفى، وربّما تأتي بينها عُمرةٌ تُرْزَقُها تَعمرُ هذه الرّوح التي بضعفِها كثيرًا ما تنتكِس فتُحمّل زادًا يجعلها تسيرُ بقوّة في دنياها مقاوِمةً كثيرًا من الرّكون الّذي تميلُ لّه في غالبِ الأوقات..

إن كان هذا الكلام ككثيرٍ مِن غيره ربّما يمسّ قلوبنا ويحرّك شيئًا، ولكِن كلّي يقينٌ أنّ كلّ إنسانٍ مَهما تَكابرَ على نَفسِه وقالَ بمُطلقيّة عقلانيّته، فهذا جانِبٌ من روحِه وإن كانَ قصيرَ المدى تأثيرُه يحتاجُ أن يشعرَ فيه وقتًا ما..

وبِما أنّي كتبتُ بشيء يلامِسُ مِن كياني جانبًا فإني أقرّ معترفةً أنّ روحي لا تَتمالَك نَفسَها توقًا متواصلًا من بينِ كلّ ما ذكرتُ آنفًا وصْلَ الحَرَم، لا شيء في هذه الّدنيا يملِك القوّة لِدفعي بعدُ في كلّ هدفٍ دنيوي وأخرويّ أسعى لَه كَمثلِ زيارةٍ لِلحرم..

"قَلبِي يَذُوبُ إِلَيكِ مِن تَحْنَانهِ

وَيَهِيمُ شَوقاً في رُبَاكِ وَيَخْضَعُ

فَإذا ذُكِرتِ فَأَدمُعِي مُنْهَلَّةٌ

وَالنَّفْسُ مِن ذِكْراكِ دَوْماً تُوْلَعُ

وَإِذا خَلَوتُ إِلَيكِ كَانتْ وِجْهَتِي

فَالرُّوحُ فِيكِ أَسِيرَةٌ، لا تَشْبَعُ

وَإذا وَقَفْتُ مُناجِياً وَمُصَلِّياً

كَانَتْ بِنَفْسِي دَعْوَةٌ أَتَضَرَّعُ

يَا لَيْتَنِي في حُبِّهَا مُسْتَشْهِدٌ

كمْ كُنْتُ مِن عِشقِي لَها أَتَوَجَّعُ

أَنا إنْ حُرِمْتُ إقَامةً في مَهْدِها

يَا لَيْتَ رُوحِي فِي ثَرَاهَا تُنْزَعُ

أَنَا لا أُبَالِي في هَوَاهَا مِحْنَةً

أَوَّاهُ.. لَوْ أَنِّي فِدَاهَا أُصْرَعُ"


  • 11

  • ساجدة العوضي
    أدرسُ عِلم الطبّ سعيًا لفهم مكنونِ الحياة، لستُ أكدس علمًا لأكون آلة مطبّبة؛ وإنّما طريقٌ رسمتُها عطاءً لِنفسي أن تعي الحياة أكثر وللإنسانية أن أجدّد فيها شيئًا تريده..
   نشر في 16 أبريل 2018 .

التعليقات

Ahmed Tolba منذ 6 سنة
لم أشعر بما كنت أسمعه ممن زاروا المدينه والمكه إلا بعد أن من الله على مثلهم اللهم ارزق الجميع حجا أو عمره
1
ساجدة العوضي
اللهم آمين..
Ahmed Tolba منذ 6 سنة
هل سَبَق أنْ حمّلت نفسَك أثقالًا من الدّنيا فوقَ ما تُطيق فغَدت كالرّاحِلة لا تُطيق سيرًا ولا تبلغُ سكنًا ثمّ في لحظةِ رجاءٍ روحيّ أتَتكَ تِلك النّفحة مِن ربّك تنتشِلُ عَنكَ ذلك الجَبَل الجاثِم على صَدرِك؟!
نعم
1
Salsabil Djaou منذ 6 سنة
وما بعد كلماتك الرائعة كلمات ، رزقنا الله واياك زيارة بيته .
2
ساجدة العوضي
اللهم آمين .. ورضي عنا وعنكم ..
عمرو يسري منذ 6 سنة
إحساس راقٍ و كلمات رائعة و تشكيل الكلمات زادها جمالاً .
أنعم الله علينا بلذة القرب منه و بزيارة حرمه .
0
موفقة اختى الفاضلة ساجدة
سبحان الله العظيم ( أن جعل من اسمك نصيب ) ساجدة اسم جميل
اسال الله العظيم ان يكتب لنا ولك ولجميع المسلمين دائما رؤية المسجد الحرام في عام مرات و مرات
2

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا