قصة قصيرة بعنوان : زامر رقدالين الأشمط - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

قصة قصيرة بعنوان : زامر رقدالين الأشمط

  نشر في 30 مارس 2015 .

زامر رقدالين الأشمط
فريد أبو سرايا

 

 

 

 

حل شهر فبراير على بلدة رقدالين الوادعة فأصيبت جرذانها بسعار غريب ، فهاجت وماجت وعاثت في البلدة فساداً . أعتدت على مخازن الحبوب والمطاعم . وطالت أسنانها فأضطرت إلى أن تحتها بأية وسيلة كانت فقرضت كل ما طالته بها   ، بدأت بقرض الكتب في المكتبات والمتاحف ، ثم أرشيف الدواوين الحكومية ، وفي النهاية قرضت شعر شفشوف. لقد شكلت الأسنان سلاحاً رهيباً في أفواه الجرذان .

على الرغم من كل ما حدث فقد كان ينظر إليها في بداية الأمر كمشكلة يجب التعايش معها كما يتعايش المصابين بمرض ضغط الدم المرتفع مع مصيبتهم وبلواهم ، أو كأمر واقع يتعين مجاراته ومداراته  إلى أن جاء ذلك اليوم الذي ولجت فيه الجرذان غرفة نوم شفشوف ، حاكم بلدة رقدالين . قصت الجرذان بضع شعرات من شعر رأسه بأسنانها القاطعة ، ولكن الغريب والعجيب أنها لم تمس أي عضو من أعضاءه خلا شعره الأشمط . طورت الجرذان قابلية لقرض هذا الشئ الذي أستجد على قاموس مطبخها  فتكررت غاراتها على غرفته لترضي  ولعها وتشبع نهمها للعبث بشعر رأس شفشوف الأشمط .

شعر شفشوف بأن شعره مهدد بالزوال ، وأن المسألة أضحت أن يكون أو لا يكون : شعره الأشمط أو قواطع الجرذان . لم يكن  سر قوته يكمن في شعر راسه كما كان الحال مع الإسرائيلي القديم شمشون بل على العكس فقد كان نقطة ضعف رهيبة ، ولم يكن أعداءه من الجبارين الفلسطينيين بل كانوا مجرد جرذان ، ولكن كان هناك فارق بسيط بين شمشون وشفشوف : فإذا كان لشمشون " دليلة " واحدة ، فقد كان لشفشوف أكثر من "دليلة"
بالإضافة إلى كونه حاكماً لرقدالين ، فقد تميز شفشوف بأنه شخص متعدد المواهب ، فهو خطيب ، وكاتب ،ومهندس ، ورياضي ، وكان قبل ذلك راعياً للغنم  . قرر شفشوف اللجوء إلى مواهبه للتخلص من هذه المصيبة ، فتأمل المسألة وتدبرها بتمعن وروية ، وقال في نفسه ، إن الجرذان لا تتذوق البلاغة والبديع ليلقي على مسامعها خطبة من خطبه العصماء يدعوها فيها إلى الرحيل عن البلدة والإبتعاد بأسنانها القاطعة عن شعره ، كما أنها ليست مغرمة بالقراءة ليكتب لها فصولاً من النثر يحببها فيها إلى حلاوة العيش كشركاء وليس كأعداء ، وأستبعد اللجوء إلى موهبته الرياضية لعلمه بأن التنافس مع الجرذان في مجالات الجري والتسلق والسباحة لن يجديه نفعا ، ولكنه كان يعلم بأن لهذه القوارض الضارة حاسة فريدة من نوعها لتذوق بعض الأنغام الموسيقية . فكر في ذلك وقال طالما أن الجرذان تستعذب الموسيقى فلم لا يستدرجها ببعض الأنغام إلى حتفها ويغرقها في أحد الآبار الواقعة خارج البلدة .

قال شفشوف : إن هوى الجرذان سيكون البحر الذي سيغرقها فيه كما تغرق النحلة في بحر من عسلها .
تعلم عزف المزمار عندما كان يرعى الضأن في البادية وهو صغير وبمرور الوقت أصبح زامراً حاذقاً وتولدت عنده  قدرة للتواصل مع نعاجه وخرافه ، فبمجرد النفخ في المزمار ، يصبح قطيعه أطوع إليه من بنانه .
وقال شفشوف إذا كانت النعاج والخراف تتخدر بفعل نغمات المزمار فلن تكون الجرذان أقل منها تلذذاً بسماع الأنغام الشجية ، ولما لا فالحياة نفسها في أبسط أشكالها ما هي إلا نغمة رسمت على سلم موسيقي ، لها أعاليها ولها أسافلها .

أستحضر مزماره وذهب إلى السور المحيط بالبلدة ، ووقف في أحد أبراجه وأخرج المزمار وبدأ بالنفخ فيه فتجمعت بضعة جرذان عند أسفل السور بيد أن عددها كان قليل . لم يرق ذلك لشفشوف فصرخ من فوق السور قائلاً : أيتها الجرذان ، هلموا إليّ ، ألم ترددوا دائما مقولتي القائلة : إن الشعوب لا تنسجم إلاّ مع فنونها وتراثها ؟

أيتها الجرذان ، هلموا إليّ . ألا يطربكن مزماري ، أم أنكن أصبحتن مقتنعات بمقولة : زمار الحي لا يطرب ؟

أيتها الجرذان ، لا تقلن زمار الحي لا يطرب ، بل قلن زامر الحي لا يطرب ، فقد تنعتن بالجهل فوق حمقكن .

أيتها الجرذان ، هلموا إليّ ، لا تحبسن أنفسكن في حبس من الجهل والانفصام ، لا تحبسن أنفسكن في حبس من الأفكار السخيفة والتقاليد البالية ؟

أيتها الجرذان ، أيطربكن غناء أليسا ، ولا يطربكن أنغام مزمار ؟


أيتها الجرذان ، أليست أليسا سوى مجرد طفرة جين أو سحابة صيف عابرة ؟


أيتها الجرذان ، لا تقعدن حبيسات جهلكن وعنادكن كذاك الشخص الجاهل الذي حبسه جهله ورعونته ونزقه وحمقه عن التفريق بين الأخضر واليابس ، وصار ينظر إلى كل شئ بمنظار أخضر  فظن أن الكون كله أخضرا.

أيتها الجرذان ، لا تصدقن كل من جاءكن يهرف بما لا يعرف ، وينعق بما لا يسمع ، ويقول لكن أنا ساحبس الشمس ، فهو ليس يوشع بن نون ، وهو لن يحبس إلا جهله وحمقه ورعونته ، ويصبح في النهاية حبيسها كلها ، ولله در القائل :

فوالله ما هذه بأحلام نائم ..... ألمتْ بنا ولا كان في الركب يوشع

أيتها الجرذان ، أتطربن للحن (نخي نخي عالطبيلة جيناكم خطاب الليلة) ، ولا تطربن لأنغام مزماري ؟

غير شفشوف النغمة ، فاستقطبت الموسيقى الجديدة عدداً أكبر من الجرذان .  وبطريقة الصح والخطأ أخذ شفشوف يجرب النغمات حتى وصل إلى عزف واحدة جذبت إليه جميع جرذان البلدة وفئرانها بل وحتى بعض الجرابيع من الضواحي القريبة . كان المشهد حول سور القلعة أشبه بمشاهد المهرجانات ولم يكن ينقصه شئ سوى  الغناء والرقص ، فقد كانت أنغام شفشوف هي العامل المساعد الذي هيجه وسخنه إلى درجة حرارة الجمر الأحمر .

نزل على الأرض مواصلاً نفخ مزماره والجرذان مشدودة إليه ومشدوهة بفعل الأنغام السحرية ، فأخذت تتبعه وهو يسير في طريقه إلى خارج البلدة . واصل مسيره على الطريق الصاعد إلى أعلى الجبل والجرذان تتعقبه ، مأخوذة بالأنغام ، مقودة بالأوهام . لم يكن ثمة كلاب لتنبح قافلة زامر رقدالين الأشمط ، كل ما هنالك كان طريق ترابي متعرج يتسلق الجبل ، كلما أكتسب من الأرض شبراً ، كلما خسر من الأجواء شهيقاً . قل غاز الحياة في الجو فأختلت معادلة الشهيق والزفير فأختلف نغم المزمار فعادت الجرذان إلى سيرتها الأولى وتذكرت اللذة العارمة التي كانت تجنيها من قرض شعر رأس شفشوف وبدلاً من إتباعه أصبحت تتتبعه ، ولاذ الزامر الأشمط  بالفرار والجرذان تطارده بإصرار ، حريصة على الوصول إليه لتسلخ فروة رأسه كما كان الهنود الحمر من قبائل السو والشيروكي يفعلون بأعدائهم من اليانكي . كانت فروة رأس شفشوف في نظر  الجرذان أغلى من الجزة الذهبية بالنسبة لجيسون ورفاقه المصارعين الأغريق .

ألتجأ شفشوف إلى مغارة مظلمة بأعلى الجبل . تشعبت الأنفاق والدهاليز والسراديب داخل المغارة فكانت بجدارة متاهة يسهل الدخول إليها ، بينما الخروج منها أمر تستعظمه حتى الثقوب السوداء نفسها . مغارة ليست بحاجة إلى سمسم ليفتحها لك وتلج إليها ، ولكن لن يكن بإستطاعتك الخروج منها ولو أستعنت بألف سمسم وسمسم .

أهالت الجرذان الحجارة على مدخل المغارة ، فصنعت سداً منيعاً محكماً لا يستطيع حتى الضوء نفسه النفاذ عبره إلى داخلها ، فباتت المغارة قبراً لزامر رقدالين الأشمط .

 

 

الثلاثاء ، 21 ذو القعدة 1435 هـ ، الموافق 16 سبتمبر2014




   نشر في 30 مارس 2015 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا