أنين المال - الجزء الثاني - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أنين المال - الجزء الثاني

  نشر في 16 أكتوبر 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

لم يكن شارعنا الهادئ ذو الجدران الدافئة ينشغل بأمر مثلما انشغل بقصة ذلك الرجل الثرى   الذى افتضح أمره بعد ستر دام أعوام وأعوام ، فلم تخلو جلسة سمر بين مجموعة من الجيران من سرد قصته ، ولم تمر مناسبة إلا وذكر فيها اسمه ، حتى أصبح حديث القرية كلها ، يتحدث عنها صغيرها وكبيرها ، ويضرب به المثل في كل سوء .

فهذا الرجل عاش بيننا زمنًا طويلًا جارًا ملاصقًا ، لم نكن لنعلم عنه إلا كل خير ، ولم نر منه إلا كل جود وسخاء ، فقد كان منعمًا مترفًا طوال حياته ، يأتيه رزقه كزخات الغيث الوفير ، ولكن هذا المال لم يكن حلالًا خالصًا ، بل كان ممزوجًا بشئ من الحرام ، فبرغم ما رزقه الله وأغدق عليه به من مال ، إلا أن هذا الرزق زاده تعطشًا للمال ، وزاد من حرصه عليه ، ونأى به عن ربه ، فلم يكن ليعرف للقناعة طريقًا ولا للنزاهة موضعًا ، ولم يشغله تحرى الحلال من الحرام ، ولا يعنيه هذا كثيرًا ، فجمع المال يومًا بعد الآخر لم يكن ليشبع رغبته فيه ، ولم يروى ظمأه منه ، فنسى حق الله فيه كما نسى حق عباده أيضًا ، وأخذ يدخر هذا المال حتى بلغ مبلغه ، ولم يزده إلا بعدًا عن الله وعن طاعته وقطع الفرائض التي بُنى الإسلام عليها ، فلا صلاة ولا أداء لمناسك الحج والعمرة ولا زكاة مما رزقه الله به إلا الفتات ، كما أنه استحل الحرام فانشغل بهتك الأعراض وخاض مع الخائضين .

وكل هذا وهو على يقين بأنه على حق ، وأنه لم يفعل يومًا ما يغضب الله ، كما كان يدّعى رضا الله عليه لتوالى النعم والإغداق عليه ، وستره رغم كل هذه الذنوب المتلاحقة ، ولم ينتبه إلى قوله تعالى :" ذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون " وقوله تعالى أيضَا :" سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين " فقد كان علي يقين بإن دوام الرزق عليه من مال و بنون دليلًا علي رضا الله عليه و نسي قوله تعالي: "فذرهم في غمرتهم حتي حين، أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون" وتعاقبت الأيام وتوالت السنين على حاله هذا ، وتعاقبت أيضًا عليه النعم من المال والبنون والصحة وغيرها ، وظل هكذا إلى يوم الوقت المعلوم ( فما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع ) لقد نزل البلاء فجأة بهذا الرجل ، بعدما أمهله الله أعوام طويلة لكى يعود إليه ولم يفعل .

وفى ذات يوم ، توجه هذا الرجل ليلًا إلى أحد المساجد الذى مضت أعوام ولم يرتاده ، وجلس متكئًا إلى أحد أركانه باكيًا ، حتى أسمع صوت بكائه وأنينه أحد الصالحين القائمين بالمسجد ، فاقترب منه وألقى عليه السلام وربت على كتفيه ، وسأله : ما أحزنك يا بنى ؟! فأجاب مندفعًا وكأنه طائر حبيس وجد ثغرة في القفص لينطلق منها قائلًا : لقد ابتليت بثلاث ، فقد مالى ، وافتضاح أمرى بين الخلائق ، وقلة نومى وراحتى ، فقال الرجل الصالح : يا بنى أما المال الذى فقدته ولم أعلم عنه شيئا ففيه من الحرام ما أفقدك إياه ، ولو أنه حلالًا خالصًا ما فُقد ولزاد ونمى وبارك الله لك فيه ، ولكنك أدخلت عليه الحرام فأفسدته ، وذكره بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( الحرام يأكل الحلال كما تأكل النار الحطب ) واستطرد حديثه : كما أن هذا المال الذى رزقك الله لتتقرب إليه به وتؤدى ما فرضه عليك من مناسك الحج والعمرة والزكاة وغيرها وأنت امتنعت عن أداء هذه الفرائض وحبست عندك المال فأصبح حرامًا ، وأكل معه الحلال ، وأيضَا حبست زكاة المال إلا القليل منها ، وهذا حق الفقراء ، وبهذا أصبحت سارق وغاصب لحقوق هؤلاء الفقراء وأكلت أموالهم بالباطل ، فكان جزاء هذا المال المحق والنقصان ، كما أن قدرًا من هذا المال قلّ أو كثر قد حصلت عليه بدون رضا نفس من أصحابه ، وهذا ما زاد من محقه ونقصانه ودخوله عليك بالهموم والأوجاع .

واعلم جيدًا يا بنى أن الزنا هو أقوى سلاح للإطاحة بالمال والتعجيل بخسارته ، حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( ما تفشى الزنا في قوم إلا وعمهم الفقر ) وأنت يا بنى استبحت الحرام وألفته ، فكان حقًا عليك ما أنت فيه الآن ، فلتعف نفسك عن الحرام ولتتقى الله حتى يجعل لك مخرجًا ، وهذا أمر مالك يا بنى ، أما سر افتضاح أمرك بين الخلائق ، فقد قال الله تعالى :" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " فأعمالك كما تعرض على الله ورسوله والمؤمنين في الآخرة تعرض عليهم في الدنيا أيضًا ، وسيُعلم الله الناس بأفعالك مهما حاولت سترها ، ومهما مضى عليها الأجل ، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( لو أن أحدكم يعمل في صخرةٍ صماء ليس لها باب لأخرج الله عمله للناس كائنًا ما كان ) وأنت يا بنى أسرفت في المعاصى والفواحش ، فأظهرها الله لعباده بعد أن سترك كثيرًا ولم تتب ، وأما عن قلة نومك وراحتك ، فكيف تكون بعيدًا عن الله كل هذا البعد وتطلب الراحة والسعادة ؟! فالسعادة في إتصالك بالله وقربك منه ووقوفك على بابه ، وإجتهادك في طاعته وإجتناب غضبه ، فالسعادة منّة ومنحة يمنُّ الله بها على المقربين إليه والمقتربين منه .

فالسعادة والحياة الطيبة للطيبين الذين يعملون الطيبات ويجتنبون الخبائث ، والذين يعفّون أنفسهم عن الحرام مهما كانت حاجتهم إليه خوفًا من الله وحُبًا له وتقربًا إليه ، قال تعالى :" من عمل منكم صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "

فالحياة الطيبة السالكة كما تقول الآيات الكريمة لا يحظى بها إلا أصحاب الطاعات ، وأضاف الرجل الصالح : ( يا بنى السعادة ليست بالأموال ولا بالأبراج الشاهقة ولا بالمتع الزائلة ، فالمال لا يجلب السعادة بل يجلب الهموم أحيانًا ، فكل ذو مالٍ ذو هموم في الدنيا وذو سؤالٍ في الآخرة ، وليست السعادة بالأبناء ولا بالمناصب ، إنما هي بيد الله وحده يتفضل بها على أهله وخاصته ، ثم قصّ عليه قصة الملك الذى وصّى أبناءه عندما يموت ألا يدفنوه في قبره أول يوم .

وإلى لقاء في الجزء الثالث من أنين المال...


                                                                                                       فادية صقر


  • 2

   نشر في 16 أكتوبر 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا