"طوف الميدوزا " .. تداعيات عن ثورة يناير - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

"طوف الميدوزا " .. تداعيات عن ثورة يناير

أمل ممدوح

  نشر في 20 فبراير 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

ما زالت تحتفر في نفسي ذكريات أيامها الأولى .. ذلك الزلزال الذي أذهلني .. فمضت معه الأيام غريبة متفردة في وصفها ، فكل ما كنت أراه أساسيا وهاما لا يمكن الاستغناء عنه ، صار قيد النسيان والاستغناء المذهل .. لا يمر بذاكرتي ، فلا طعام أذكره ولا نوم أستطيعه أو أفكر فيه ، كل الأشياء صارت هامشية إزاء الحدث الزلزال ، مرت أيام لم أتذوق فيها من الطعام سوى كسرات إن تذكرت .. ولم تغمض عيناي أكثر من ساعتين في اليوم إن استطعت ، لأصحو بعدهما في لهفة مذعورة لأعرف ما الجديد .. فكل شيء صرت أراه ممكن الحدوث ، فحين تصمت مدينة الضجيج وكأنها مدينة الأموات .. ويصمت كل صوت في شوارع القاهرة التي لا تنام .. ويختفي الناس الذين كانوا ينثرون في كل مساحات الفراغ .. فكنا رغم انزعاج الزحام نختبىء ونحتمي في بعضنا .. إذا بهم صاروا في كهوف صامتين ..فكل شيء بعد ذلك غير ممكن صار ممكنا ، لا صوت سوى صوت التلفاز وقنواته و"جزيرة" تقطن آذاننا فيه وقتها ..أتلهف عليها لاستقاء آخر الأخبار التي تحدد مصيرنا ، وعيوننا صارت مركزة على تلك البقة المستديرة التي لا مساحة لإصبع فيها .. تملؤها الأجساد باختلاف أسباب أو حقيقة تواجدهم .. وأعلم كم يملأ قلوب الكثيرين منهم عشقا ، هو الميدان .. هذه الفكرة الأخاذة المحركة للقلوب البريئة كالصباح الذي استيقظ توا، والعقول التي تحلم ، وتاريخ تلوناه مرارا عن نبل كلمة " ثورة " و " ثوار " ، ننحاز ببراءة لهذه البقعة دون كثير من التحليل أو الشكوك ، ساعد على ذلك ركود طويل تاق لحركة ، وجمود تاق لدور ، وتاريخ قديم غار منه زمن حديث يحلم أن يدخل التاريخ بطلا لا عددا زائرا زائلا ، لأجل معشوقة لم تر سوى عشق السابقين ، لم أنزل للميدان ولم أستطع .. لكن أعصابي كانت كالدماء الملتهبة النازفة كمن سمعنا عن دمائهم ، ثائرة .. متدفقة .. ولشد ما كان الدم يؤثر في وداعتنا المسالمة ، ولكني أضيف .. " خائفة "، كل شيء كان مضخما.. حكايات الظلم وحكايات المظلوم ، حكايات كالأساطير صارت تتقافز وتستقر كالحقائق ، كان طعم التوحد يغازلنا وقد خلنا أنفسنا متفرقين ، هكذا عمل اللاشعور .. هكذا جمعنا في خندق باختلاف الدافع والأسلوب والنوايا .. في فعل .. أو مؤازرته ، استهلكتني الأحداث يوما بعد يوم .. أذوي لكني لا أدرك ولا أنتبه ، أخاف على بلادي التي طالما بات فيها الزمن يضع بأمان وهدوء في الأشياء بصمته ، يطيل الإقامة ولا يمر سريعا ، فقد ألفت بلادي وأهلها الاستقرار والتغير البطيء الآمن السلس .. ، كل شيء فيها فيه رائحة الزمن لا يتغير سريعا حتى أسماء الشوارع إن تغيرت بقي اسمها القديم يستخدمه الناس غير عابئين بالجديد ، فالتغير السريع قد يكون قسوة لم نعهدها ، في بلد رغم الزحام ورغم اللهاث ما زال يرتشف الشاي بمتعة وبطء .. وما زالت تغرد عصافيره آمنة كسولة في صباحه اللاهث .

كل شيء صار الآن يلهث .. دون صوت .. رغم الضجيج وصيحات الميدان ، لا مخرج من ذاك الخوف إلا بالأمل .. لعله خيرا .. هكذا أقول .. هل نحن حقا أقوياء بعد شعور عميق طويل بالضعف ؟ هل أحيا زمنا تاريخيا كما بهرت به في زمن مضى لم يحملني ؟ ورغم استعدادي للموت حقا لتحيا هذي الحبيبة ..لكن زاوية تجعل الأمر شخصي دون شعور .. تحقيق الذات اليائسة ، ربما أردنا رؤية أنفسنا في صورة .. منا من أرادها حقا جميلة ذات قيمة تضم في احتضان ملكة الحسن .. ومنا من ربما فقط أراد الظهور بصورة ..أي صورة ، ولشد ما استهلك وقتها الأمل المسكين حين كان اليأس مخيف العاقبة .. أو مجهول حد الخوف ، فصار المسكّن الوحيد .

حتى جاء من شهر فبراير ثاني أيامه .. الذي لن أنساه ، لأشهد مشهدا جمدني حتى تهشمت كزجاج منثور .. كشظايا أسمع تكسرها واحدة تلو الأخرى .. فتحت أقدام الجمال دُهِست ، وتحت أقدام الخيول سقطت ، وبالسيوف مزقت أوراق الياسمين على عيني .. وتقطع السلام وتقطعت الأحلام ، وبهم جميعا امتُهنت كرامتي ، كيف نصل لهذه الصورة ؟ من وراءها ؟ ما هذه الفجاجة ؟ أنموت ببساطة بهذه الجرأة والشكل المهين أمام الشاشات ؟ يؤلمني أن يتأذي أي من بني وطني ، صرت ذائبة الكيان في صرخة طويلة لم تخرج ، كان مشهدا تحوليا .. ربما كان لازما لوجود ظالم ومظلوم دون كثير من التفتيش .. فالصورة توجهك للحكم والانحياز بالتأكيد ، خلد هذا المشهد في نفسي .. بل نقش ..كلوحة " الميدوزا " المأساوية لتيودور جيريكو ، حيث غرقت سفينة " الميدوزا "، لكن في كارثيته وغرقاه وشراسة البحر ، وبقيت أبحث عن لوح أو طوف الميدوزا الذي يطفو بنا ، كنت أحلم بالخلاص .. والنهاية السعيدة للجميع ولهذا الوطن المعشوق .. دون ألم أو دماء ، ببراءة طفل لم يع سوى حلمه ، ولم يعرف أكثر من حدود بيته الآمن ، ولا يعرف ما وراء الأفق ، ويأتي الليل ومجهول مصيره يتساءل عن الصباح .. جيث نسمع عن استغاثات الثوار بلا مجيب .. واشتباكات وقناصة .. وكتل نار عرفت بعد ذلك أن اسمها " مولوتوف " ، كنت كقوس قزح يحاول الإشراق فصرت قوس ضوء أسود خائف من المجهول ، أتعاطف ويبدو الأمر الغامض مع حلكة الليل كأنه واضح الأطراف والمواقف والأحكام لعقل بريء ، هل هي النكسة ؟ هل كان ذلك هو شعور آبائنا .. لا أر سوى وطني .. وقد صار قاطنوا الميدان بشكل لا إرادي غير واع ربما.. مرادفا له في ذلك الوقت دون كثير من نقاش أو حسابات تشكك ، أذكر أني ليلتها كنت لا أستطيع تذكر أغنية وطنية أو سماعها .. ليس كرها ولن يكون أبدا .. بل ألما يهرب من إلهاب مزيد من العشق المنتحب . يشرق النهار ويمتلىء الميدان .. بدا الأمر كمعجزة .. هكذا سلك الأمر فينا مسلكه ، لنصبح جزءا من هذه البقعة ننسب انتصارها لنا وإن لم نخرج .. لكن شيئا أسودا بدأ في التناثر في الأجواء .. بدأت كلمة " إخوان " تتناثر على ألسنة من نعرفهم بالثوار .. مادحين فيهم وفي وقوفهم معهم .. ليصبحوا بين عشية وضحاها أبطال يطلون برؤوسهم رغما عنا في المشهد ، تسلل عدم الارتياح .. وكلما فرحت بمشهد التجمع في حد ذاته برومانسية كانت تترجمه حميمية .. كنت أتساءل .. هل تسكن هذه الاستثارة يوما ؟ هل يألف الناس من جديد معنى المنزل .. والانتظام في طريق أو مكان ؟ كأهل حضر ومدينة.. هل يستأنس هذا التمرد يوما ويسكن أم يظل في اشتعال ؟ وتظل تستهوينا حياة الغاب الحرة ؟ كنت أنثر على المشهد زهورا تجعله رومانسيا عاشقا من الطراز الأول .. لكن السيوف التي جعلتني يوما أنحاز لقاطني البقعة الحدث .. صارت في الألسنة وفي الكتابات تمزق السرائر والأعراض وكل ثابت غال ..وتقطع بالخلافات العلاقات .. قاطعة أوراق زهوري البيضاء شيئا .. فشيئا .. لتبدو الصورة المجردة .. تبحث من جديد عن طوف " الميدوزا " . 


  • 1

   نشر في 20 فبراير 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا