انتحار مؤجّل - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

انتحار مؤجّل

(قصة قصيرة)

  نشر في 10 يونيو 2021 .

"إنك مصاب بسرطان القولون منذ فترة ليست بالقصيرة على ما يبدو"، أَخبرَني الطبيب بعد التشخيص بتضامن محدود وأسَفٍ مصطنع. "وإنها لَمعجزة أنك ما تزال تستطيع التغوط." أردَف في نوع من الطَّمْأَنة المداهِنة.

ــ ليس دون ألم (أجَبتُه).

ــ لكن لن يدوم ذلك طويلا دون تداعيات أخرى، فالمستقيم متضرر بشدّة، علينا أن نستبق التطورات.

ــ ماذا تقصد؟

ــ أقصد أنّك إذا ما قدّر اللّه قَدْ، قد لا تستطيع التّبرّز مستقبلا، إذا نحن لم نتدارك الأمر مبكّراً.

ــ نعم، والفضل لك. لأنك أخبرتني بذلك الآن.. فذلك ما سيحدث حتما (قلتُ في تجَهم).

ــ وهل تظن أن المرض تتوقّف أعراضه إلى أن يُدركها المريض فتَتَفعَّل إثر ذلك؟ (قال في تهكم).

ــ لا، لكن لا شكّ أن الإدراك يُضخّم من الإحساس بالمرض ويُفاقم من آلامه... لم أَكُن لأحس مثلا بذلك الحد الموجع من آلام الضّرس، لولا تصوّراتي المسبقة عن تلك الآلام التي اكتسبتُها من شكاوى الآخرين وتأوهاتهم المبالَغ فيها معظمَ الأحوال؛ كنت لِأَحْسبها حَكّة خاصة بالأسنان، أو كَدمة من كَدَمات اللّثّة فقط.

ــ حقا! فانتظر لِتَرى..

ــ أَوَلَن أَستطيعَ التّغوّط حقا؟

ــ فَعَن ماذا نحن نتحدّث هنا منذ الصّباح!

ــ أَتَعني أن عينَ مؤخّرتي ستنغلق من الدّاخل أو ما شابه ذلك؟

ــ ليس كذلك.. لا، لكن لن تكون لها وظيفة بعد ذلك.

ــ وما العمل إذن؟

ــ عملية جراحية عاجلة بأسرع وقت ممكن، تلافيا لتفاقُم المرض وتطوّره، واستِئصال ما يمكن استِئصاله.. أما القضاء على المرض، فكَلاَم آخر.. سيكون الأمر أكثر تطلُّباً واستعصاءً.

ــ حسنا...

ــ وهذه بعض المسكِّنات والمرطِّبات في الفترة الحالية.. لِلآلامِ والحرقة.. تَعلَم.

ــ حسنا.. شكرا.


  عملية جراحية قال لك ههه! لا أُطيق العمليات الجراحية، ولا الأطبّاء ولا حتّى المستشفيات. لو لم تكن مؤخّرتي هي التي أرسلَتْني إلى هذا الجرثومة البيضاء لَمَا ذهبتُ إليه، لِيَتبجّح عليّ بأنه أكثر دِرايةً بما يطرأُ على جسمي ويضرّني أنا لا هو.. كما أنني سمعت بأنّها نادرةٌ هي حالاتُ الشّفاء من السّرطان نُدرة الأشخاص قليلي الكلام.. ستظلّ دائما تَتَهدّدني احتمالية عدم القدرة على التّغوّط هذه على كل حال... ثمّ ما هي تبعات العملية الجراحية وتداعياتها بالإضافة إلى ذلك؟ لم يُخبرني فاحصُ المؤخّرات أي شيء عن ذلك... فَلْيَذهب بعمليته تلك إلى الجحيم، جحيم الأطبّاء لا شكّ أنه على شكل غرفة للعمليات.

إن المرء لَيَسَعه الآن أن يفرح بكل قطعة براز يُخرجها، وأن يحتفل بمناسبة فراغه من التغوّط في كل مرة؛ وإنني لَأَتصوّر منذ الآن حفلة تغوّطي الأولى: مأكولات على شكل بُراز، وحلويات على شكل غائط تُقدَّم بمعية الشّاي أو رفقة مشروب ما آخر أصفر اللّون ــ إذ لا غائط بدون بَوْل، من يَسعه أن يفعل ذلك! ــ حفلة تغوطٍ مرحة أدعو إليها الأصدقاء والزّملاء والميكروب ذاك ذو الوِزرة البيضاء لأشفي غَليلي منه فقط، لا أكثر..

لكن ماذا بَعد؟ ماذا بَعد أن تَستقيل فتحة شَرجي من العمل؟ وبَعد أن ينهار المستقيم؟ .. آاخ هنا يبدأ التّأزّم والحرج. ولن تنفعني حينها إلا "كَابينة"(1) ذاك الذي يتغذّى على المرض ويقتات منه، ذلك الكائن المُسمّى بالطّبيب. لكنني لن ألجأ إليه مرة أخرى، لن أعود إليه. إن لي عزّة نفس، نفساً حارة تمنعني من ذلك. كما أن أعضاء الجسم هي لِلجسم، كالبُنيان يشدّ بعضه بعضا، فإذا اشتكى منها عضو واحد أو تضرّر، تداعى له سائر الجسد. لن يعيشَ المرءُ الحياة بطبيعيةٍ وله عضو فاسد أو مبتور، لن يُتاح له الإحساس بها كاملةً مُكثّفة، ستظلّ دائما ناقصة، مبتورة وغير كافية؛ حياةً غير كافية... إن جسد المرء لَيُسقط نفسه على الحياة فَيَطْبَعها بصورته: جسد ناقص يساوي حياةً ناقصة.. جسد معاق= حياة مُعاقة. وما دون ذلك مجرّد ترهات، تحميسات، شفقة، تعاطف، تَعزِية، وتشجيع... حتى الآلة والتكنلوجيا لن يَسعها أن تملأ هكذا نقص، وهكذا هوة أو فجوة من حيث الإحساس بالحياة.

ولذلك، سأنتحر.. نعم، هذا هو الحل.. سأُدخِلُ فوهة المسدّس في ثقب مؤخرتي وسأُطلقُ النار.. بووم! أووه لن أتردّد أبدا، فذلك أهوَن بكثير من أن أسمحَ لِذلك الشّبح اللُّوطي الأبيض (لَطَالما بدا لي الأبيض لونا مفزعا ومنفرا) بأن يَحشرَ أنفَه ومشارطه وموسّعاته ومناظيره ومِجسّاته في مؤخّرتي.

سأنتظر فقط الوقت المناسب، وقت التّأزّم والاستقالة، الوقت الذي تتعطّل فيه أمعائي عن إخراج الغائط، وسَأُفجّر مؤخّرتي. لكن...هل سَأموت حينها؟ لا بدّ من ذلك.. فالشّرج عضو حيوي، ويتّصل بأعضاء حيوية أخرى، تماماً كَالفم؛ هكذا تصوّرته دائماً، خاصة عندما تَضمّ امرأة مثيرة ما شَفتيها ضمّة القُبلة أو ما شابه ذلك، فأُفكّر في ذلك الغار المُظلم المُحاط باللحم خلفهما؛ يظهر لي الشَّبَه حتميا آنَها بين الشّرج والفم، لا مفرّ منه. لكن يجب أن أتَّخذَ احتياطات، فليس الأمر كما أتصوّره دائما، إنه مُجرّد تداعي(2) واستدعاء..

آاه، نسيت... نعم، إنني لا أملك مسدّساً. لكنّي لن أُعْدَمَ وسيلة؛ سأسرق واحدا، وسأتدبّر أمري.. الغاية هي نفسها دائما. لكن الأَجْدر أن تكون الطريقة عن طريق فتحة المؤخّرة، فذلك أَبْلَغ وأقْصَد.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) "Cabinet" بالفرنسية هي: عيادة الطبيب أو مكتبه، و"كابينة" في الدّارجة المغربية تعني: المرحاض. 

(2) بالمعنى النفسي للتداعي.


  • 1

   نشر في 10 يونيو 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا