البعد الرابع
للكاتب فريد أبوسرايا
يسألني الناس ، " هل تستطيع أن ترينا البعد الرابع ؟ "
فأجيب قائلاً ، " هل تستطيعوا أن تروني الأول ، والثاني ، والثالث "
عند الساعة الرابعة من صباح اليوم الرابع من الشهر الرابع من السنة الرابعة لإنشاء البلدة علا صراخ طفل مؤذنا بميلاد شئ جديد ، وعند هذا الوقت بالضبط خرج طائر الكوكو من كوة بأعلى برج الساعة ، ولكنه لم ينبس ببنت منقار كما أعتاد على ذلك عند رأس كل ساعة . ظل الكوكو صامتاً طيلة فترة خروجه ، ثم تراجع منسحباً إلى داخل البرج . أندهش أهل البلدة من مسلك طائر الكوكو هذا غير الاعتيادي ، ثم تملكهم شعور غريب بالرهبة ، وتوجسوا خيفة من هذه العلامة الغريبة .
طفقت نساء البلدة يتحدثن عن سكوت طائر الكوكو ، ويتسألن هل هناك ارتباط بين سكوت طائر الكوكو والمولود الذي سقط برأسه في بلدتهن أثناء خروج الكوكو من برج الساعة .
لم يكن سكوت طائر الكوكو ، وتزامن ميلاد القادم الجديد مع العدد أربعة هما العلامتان الوحيدتان اللتان تستوقفان الفكر ، وتقرران أن حدثاً استثنائياً له علاقة بهذا القادم الجديد قد وقع ، بل بمجرد مجيء هذا المولود إلى الدنيا، خرجت أمه منها . أطلق عليه اسم الرابع لتوافق تاريخ ميلاده مع العدد أربعة ، كما أن اسم الرابع هو صفة لشئ يتجانس مع أسماء الذكور والإناث في البلدة وأحياناً يتطابق معها . حمل الكثير من ذكور البلدة أسماء من قبيل : وقت ، وزمن، وزمان ، وعصر ، ودهر ، وأبد ، وسرمد ، وأزل ، وماضي ، وحاضر ، ومستقبل ، بينما تسمت الإناث بأسماء من قبيل : برهة ، وفترة ، وحقبة ، وساعة ، وسويعة ، وثانية ، ودقيقة .
نما الرابع وترعرع ، وشب عن الطوق ، وبدأت فتيات البلدة يتوددن إليه ويخطبن وده ، ولكنه أعرض عنهن جميعاً ، وصد جميع محاولاتهن لأنه كان يرى نفسه أعلى مقاماً ، وأكبر قدرا من أي واحدة منهنً . بسبب نرجسيته المفرطة ، أعتقد أنه أفضل من جميع حقب البلدة ، وفتراتها ، وبرهاتها ، وسنواتها وثوانيها ودقائقها . بمرور الوقت صار له أصدقاء لا يكاد يفارقهم ، فقد أنعقدت أواصر الصداقة بينه وبين ثلاثة من فتيان البلدة، وهم : ماضي ، وحاضر ، ومستقبل .، وكان راضياً مغتبطاً برفقتهم ، وكانوا عندما يقضون وقتهم في التنزه في المروج الخضراء المحيطة بالبلدة ، ينصرفون إلى المصارعة فوق الأعشاب والزهور : مرة يصارعه ماضي ، ومرة يصارعه حاضر ، ومرة أخرى يتصارع مع مستقبل ، ومن العجيب أن تصارعه معهم لم يكن يشعره بأي نوع من التعب ، بل كان يتعجب من النشاط والحيوية اللتان تنبعثان في نفسه من جراء جولات المصارعة تلك .
أراد الرابع أن يتزعم هذه العصبة ، وتكون يده هي العليا فوق أيدي أصدقائه الثلاثة ، ويبسط سيطرة كاملة عليهم جميعا ، ولهذا فقد وضع نصب عينيه معرفة الحلقة الأضعف والحلقة الأقوى لهذا الثالوث فلجأ إلى المصارعة لتقرير ذلك ، ولكن بدلاً من أن يتصارع معهم ، تركهم يتصارعون مع بعضهم البعض ، وصار يراقبهم ويلاحظ بدقة نتائج تلك الجولات .
بعد 1984 جولة مصارعة بين ماضي وحاضر ومستقبل ، عرف الرابع موازين القوى التي تحكم أصدقائه الثلاثة، وأدرك أنه طالما أن حاضر أقوى من ماضي ، وماضي أقوى من مستقبل ، فلابد أن يكون مستقبل أقوى من حاضر وبالضرورة يتحكم به إذا أراد ذلك . عرف الرابع أن الحلقة الأقوى هي حاضر ، وعلم علم اليقين أنه إذا أراد أن يسيطر على أصدقائه الثلاثة : ماضي ، وحاضر ، ومستقبل ، فما عليه سوى أن يتحكم في حاضر ويترك الباقي له .
لم يكن الرابع يعرف له أبا ، فقد قيل له أن أباه قد رحل عن البلدة قبل أن يولد ، وذات يوم من الأيام ، بعد سنين طويلة ، قدم على البلدة ثلاثة رجال ، وأدعى كل منهم أنه أبٌ للرابع ، وكانت أسماءهم : أبد ، وأزل ، وسرمد. لم يستطع حكماء البلدة وشيوخها البت في هذا الأنر ، وحسم هذا النزاع ، على الرغم من تأييد ماضي لأزل فيما أدعاه ، ووقوف مستقبل مع أبد وتأكيده على ما يقول . أستمر هذا النزاع لفترة طويلة من الزمن ، وذات ليلة من الليالي رأى الرابع فيما يراه النائم ، أمه تقول له أن سرمد هو أباه الحقيقي ، ومن أدرى بأب الابن من أمه ، وكانت هذه الرؤيا هي فصل الخطاب في هذا النزاع ، فقطعت جهيزة قول كل خطيب ، كما يقول المثل .
بعد أربع سنوات ، وأربعة أشهر ، وأربعة أيام من لقاء الرابع بأبيه سرمد ، لاح في سماء البلدة قرصٌ أسود ضخم ، يبدو من بعيد كالنجم ، ولكنه نجم يشع ظلمة . وبالضبط في الثانية الرابعة ، من الدقيقة الرابعة ، من الساعة الرابعة من ذلك اليوم المشهود ، أخذ لون الرابع يبهت ، وتميع جسمه حتى صار أشبه بشبح من الأشباح ، وتحول بالكامل إلى شريط من دخان أو سديم ، وبدأ يتسامى إلى السماء بإتجاه القرص الأسود . أبتعد الرابع عن الأرض ، فأضحى بعيداً عنها ، وهكذا صار له بعد . في هذه اللحظة بالتحديد ، خرج طائر الكوكو من كوته ببرج الساعة على غير عادته في الخروج عند رأس كل ساعة ، وأخذ يتلفت يميناً وشمالاً وكأنه يبحث عن شئ ما ، ثم تجمد في موقفه ملتفتاً نحو الشمال ، ولم يرتد الشريط الحامل له إلى داخل البرج ، وظلت الكوة مفتوحة . حدث كل هذا وسط صمت مخيف لف البلدة بكاملها .
غادر الرابع البلدة ، فصار للأشياء ثلاثة أبعاد فقط وتوقفت الحركة بالكامل ، ولم يكن هذا الموقف من قبيل الوقوف دقيقة صمت احتراماً وحزناً على فراق الأعزاء والأحباب ، بل كان من قبيل إنعدام السبب ، فانعدم المسبب .