صوتُ القدرِ أعلي من صوتِ الحُبّ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

صوتُ القدرِ أعلي من صوتِ الحُبّ

  نشر في 24 ماي 2019 .

هناك في البعيد الّذي لا يراه الجميع، بين النّاس وداخل الأزقّة والحارات، ولكن لا أحد ينتبه، بين الزحام وأثناء سيري رأيتُ وجه فتاة تلتفت لليمين علي منظف الأحذية، تحرّك لها قلبي ولأول مرة منذ ولادتي يتحرك قلبي لفتاة، كان الأمر مختلفاً كثيراً، أكملت السير خلفها وأنا خائف من الإسراع كي لا أتجاوزها وتبتعد عن عيني، وخائف من السير ببطئ كي لا تذوب داخل الزحام فلا أجدها.

أكملت سيري متخبطاً لا أنا أرى مطلعها بتمعن ولا هي تلتفت لليمين أو اليسار لأشبع عيني بجمالها، كانت الحارة في أبهي زينتها كما لم أراها من قبل، كان الباعة يعرضون بضاعتهم بشكل مرتبٍ يُضفي عليها جمالاً فوق جمالها، الحجارة الصفراء تعكس أصوات الباعة الّذين تعلوا أصواتهم وهم ينادون علي البطاطا المشوية والزيتون وخبز الشام، تُكمل خلف ترددات الصوت أنفاسي وأنا أحاول أن أضبطها وأنا أسير خلف الفتاة، تعلونا قبة السماء بلونها الأزرق الفاتح، تنطوي خلف الضوء النجوم المعلّقة عليها أمانيّ وأحلامي.

في نهاية الطريق كان هناك تقاطع طريق يميناً ويساراً، توقفت الفتاة وجلست علي إحدي الأحجار الموضوعة علي الجانب الأيسر، توجهت نحو الجانب الأيمن وجلست علي الأحجار قِبالتها، ملامح هذه الفتاة غير مصريّة، بشرتها تميل للون الأبيض باصفرار تعكس أشعة الشمس الذهبية فيخيل إلي الناظر أنها قبة المسجد الأقصي، عيناها سوداوان يحملان ماضي فلسطين الأليم، وجهها دائرىٌ تري جمال الربيع من وجنتيها المثمرتان باللون المائل للإحمرار بفعل أشعة الشمس، شفتيها ممتلئتين قليلاً، حاجبيها غير متصلان كأنها ترسم حدود الدول العربية، نظرت لي نظرة المحبّ المُكْرَه، نظرة من أصابه الحنان وحجبه القدر.

استجمعت ما تبقي لدى من طاقة وتوجهت نحوها، توقفت بجوارها فنظرتْ إليّ بعينين رغراغتين تريدان وصالاً وشئ ما يمنعهما، فقدت عقلي وجلست عن يمينها فأزاحت نفسها لليسار قليلاً، ابتلعت ريقي واستجمعت حبال صوتي وألقيت عليها السلام ثم سألتها "ما اسمك؟"، قالت "بيسان"، تمعّنت الإسم وأسررته في نفسي وقلت لها مرةً أخري مُتسائلاً "من أين؟"، فأجابت من بلاد الشام، لم أرد الضغط عليها لتحدد لي من أي دولة، فبلاد الشام أصبحت دويلات صغيرة يحدها الجهل ويفصلها التعصّب ونسيان عزّة التاريخ.

ظللتُ صامتاً حتّي مضي الكثير من الوقت لا أنا أجرؤ علي تكملة الحديث، ولا هي تفك لسانها لتترك الكلام يخرج من محبسه، أستَرِقُ لوجهها النظر بطرف عيني فأري جمالاً منطفئ، شئ ما في قلبها مكسور، جزء منها تفقده، تنهدتُ ثم قلت بكل ما أوتيت من قوة "ما بكي؟"، فخرج الصوت من حلقي متقطعاً متهالكاً كأنّه خرج للطريق منذ آلاف السنين، نظرت لي وقالت "لا شئ، فقط لستُ في موطني"، فقلت لها "أين موطنك؟"، نظرت للأمام وأشارت بسبابتها اليمني وقالت "هناك، هناك في الأفق البعيد"، ثم نظرت للبّ عيني وأردفت "ولكنّي لا أراه".

تراجعت الشمس للوراء تُودِّع الجميع عدا أنا وبيسان، كأنّها تُخبرني بأننا سنلتقي مراتٍ كثيرة، تُغادر دون إصدار صوتٍ كأنها تخشي أن تقطع حديثنا، أو تعكّر صفونا، ربّما تصنع هذا تلطفاً بنا لأنّها تعلم أنّه اللقاء الأول والأخير، امتزج احمرار الشفق وقت غروبها بلهفتي لوصال بيسان، ترنّحت وتذكرتُ كلمات الشجاعة الّتي راودتني طيلة حياتي وقلت لها "هل يمكننا الوصال؟"، نظرت لي وقالت "لو أمكن لعانقتك منذ مُدّة"، ثم أردفت "أنا سأغادر بعد قليل"، ضاق قلبي وتيتّمت جوانحي فقلت لها "إلي أين هكذا؟"، فقالت "إلي بلاد الشام"، فسألتها بلهفة "ألا تستطيعين اصطحابي"، جرتْ دمعة ساخنة علي وجنتها اليمني وكأنّ عينها اليسري قد أصابها الجفاف من كثرة البكاء ثم قالت "ليتَ هذه الحدود تذوب لكنت اصطحبتك"، قامت وقبل أن تبدأ السير نظرتْ خلفها، نظرتْ لعيني لتخترق قلبي سِهامَ هواها وقالت "سأنتظرك، إن استطعت تذويب الحدود ستجدني أنتظرك في بلاد الشام، وإن لم تستطع تذويبها فسنلتقي عند الله مالك القلوب".

غادرت بيسان وغادر معها الأمل الّذي كان يُضيئ قلبي، وانطفأ شئ بداخلي كمثل الّذي كان منطفئاً بداخلها، ما زال وجهها يترائي لي عند تلك الحجارة كلّ يوم أثناء الغروب، ما زلتُ اصطحب قلبها في جميع الأزقّة والحارات الضيّقة، ما زلتُ ضعيفاً لا أستطيع تذويب الحدود، ما زالتْ بيسان تنتظرني بلهفةٍ علي أمل اللقاء، يبدوا أنّ صوتَ القدر أعلي من صوتِ الحُبّ، وصوت القيود أعلي من صوت الحرية، وأشعة الشمس أحرّ من لهفة الشوق، وضوء القمر أخفت من ضوء الظلام، ولهيبُ العدو أحرق من لهيب قلبي، ما زال كلّ شئ كما كان، يبدوا أنّ الكفة لن تميل لي، والأقدار لن تُكتب لأجلي، والحياة لن تسير في ركابي، يبدوا أنّ حاجبي بيسان لن يتصلا.


  • 2

   نشر في 24 ماي 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا