ناداني جاري العجوز الطيب (عم عماد) عندما كنت أمر أمام بيته مسرعًا ملقيًا تحية مقتضبة؛ كنت أعتبر عم عماد مثل والدي، فقد تربيت على يديه وصاحبت أولاده منذ الصغر وله علي فضل لا أنكره وجميل أحمده؛ غير أنني آثرت الابتعاد عنه في السنوات القليلة الماضية بسبب موقفه من الأحداث الأخيرة وتأييده الجنوني – كمعظم أبناء جيله – للثورة المضادة ثم الانقلاب.
لم أستطع – رغم كل شيء – أن أنسى له أفضاله وتاريخه الطيب، ولكن لم أستطع أيضًا أن أتغاضى عن موقفه الأخير أو أن أتعايش مع ملامح الفرحة والشماتة التي تطفو على وجهه بعد كل حادثة اعتقال أو تصفية، فقررت الابتعاد إكرامًا للماضي.
ذهبت إليه على مضض وسلمت عليه، فأشار مبتسمًا إلى المقعد بجواره فجلست؛ أعطاني صحيفة كانت في يده وطلب مني أن أقرأ له أحد المقالات بعد أن عجَزَت عينُه بالنظارة السميكة التي يرتديها أن تسعفه؛ قررت التملص، ثم نظرت إلى عينِه الكليلة وتذكرت كم أظلَّتني تلك العين برعايتها فيما مضى وكم قرأَتْ لي من قصص وحكايات، فخجلت من نفسي!
أمسكت الصحيفة وبدأت أقرأ بصوت آليٍ فاتر، فاستوقفني الرجل بلطف خجول وطلب مني التمهل في القراءة ورفع صوتي قليلًا حتى يستطيع متابعتي لأن أذنه لم تعد «زي زمان»، فتنهدت تنهيدة طويلة وتبسمت له بإشفاق وقلت: «حاضر يا عم عماد»، ثم بدأت القراءة.
السيسي والانطلاقة الثانية
تستعد مصر الآن لبدء الفترة الرئاسية الثانية للرئيس عبد الفتاح السيسي، ويقف المصريون على أعتاب تلك الفترة آملين أن تكون استكمالا لمسيرة النهضة التي بدأها الرئيس خلال فترته الأولى، وأن تحمل نفس الروح والعزيمة والإصرار، لتتبوأ مصر مكانتها الحقيقية التي حُرمت منها طويلا بسبب مؤامرات الخارج وتواطؤ الداخل.
ولا عجب في هذا الأمل، فهذا عهدنا بالرجل الذي ناداه الوطنُ فلبى النداء بقلبٍ صادقٍ وعزم لا يلين، فتقدم حين تراجع الآخرون، وثبُت حين تخاذلوا، فأقال البلد من عثرتها وأخرجها من محنتها وانطلق بها للأمام غير عابئ بالمحبِطين والمخذِّلين والمتآمرين، مضحيًا بجهده وراحته وروحه نفسها – إن لزم الأمر – فداءً لوطنه الذي يذوب عشقا فيه.
وبالرغم من حبنا الشديد للرجل وتقديرنا له، وبالرغم من الظروف العصيبة التي تسلِّم فيها مقاليد الحكم، وقدرته على الخروج من الكارثة والبدء في مشروع النهضة الشاملة بصورة ما زال الجميعُ يراها إعجازا؛ إلا أن هناك من الملاحظات والمؤاخذات ما ينبغي أن يُقال؛ فالحق أحق أن يتبع، والرجل نفسه لا يترفع عن طلب النصيحة من الجميع بتواضعٍ يندر أن يتواجد في هذا الزمان.
ولهذا فها هي بعض تلك الملاحظات على الأداء خلال الفترة الأولى، والتي نرجو أن يتم الالتفات إليها وتصحيحها في بداية الفترة الثانية، ليكون النجاح أعظم وأشمل.
نقدر عطفك يا «ريس»، ولكن!
قد يتعجب البعض لهذه الملاحظة بالذات، فالرئيس أظهر بالفعل شدة وصرامة تليق بكونه عسكريًا، ولكن كان هذا حين واجه الخونة في الداخل والأعداء في الخارج، أما أمام الشعب فما زال الرجل عطوفا! وهذا العطف وإن كان يُحسب له، إلا أنه أوقعه في مآزق كثيرة كان من الممكن تفاديها لو مارس بعض الشدة المطلوبة.
فمثلا مشروع «قناة السويس الجديدة» الذي أقامه الرئيس – متحملا أعباءه المالية الضخمة – خصيصا لرفع الروح المعنوية لأبناء مصر وإسعادهم، وأيضا التردد والبطء الشديد في رفع الدعم – لتحرير الاقتصاد من هذا القيد الذي يكبله ويثقل كاهله – إشفاقا على الفقراء، وغيرها الكثير والكثير.
كان من الممكن أن يتجنب الرئيس كل تلك الأعباء المضافة عليه والمعطِّلة له لو تحلَّى ببعض القسوة والصرامة. ولكن – للإنصاف – نحن نتحمل الجزأ الأكبر من المسئولية، فنحن لم نُظهر للرئيس بشكلٍ كافٍ مدى صلابة معدننا وقدرتنا على تحمل الصعاب من أجل الوطن. ولذلك فقبل الفترة الثانية نقولها بمنتهى الصراحة: لا تتردد يا «ريس» فشعب مصر رجال.
الحرية مطلوبة يا «ريس»، ولكن!
يؤمن الرئيس بمبدأ الحرية إيمانا راسخًا، فيعطى الحرية أحيانا لمن يستحق وأحيانا لمن لا يستحق!
فكم رأينا وسمعنا وقرأنا لمخذِّلين ومثبِّطين لا هم لهم إلا مهاجمة النجاح، فهم يشككون في القرارات ويحقِّرون من الإنجازات ويهاجمون الشرفاء ويشوهون الصورة الجميلة في أعين البسطاء الذين يسهل خداعهم ببعض الكلمات المعسولة، مستغلين تلك الحرية أسوأ استغلال!
وعلى الرغم من تنبه الرئيس لمثل هذا الأمر، وقيامه بالفعل بإغلاق بعض تلك المنابر المسمومة، إلا أن الكثير والكثير منها ما زال فاعلا في المجتمع ينفث سمَّه ويكدر صفو المسيرة. ولذلك فقبل الفترة الثانية نقولها بصراحة: الحرية مهمة، ولكن صفو المجتمع وتحقيق الانسجام بين أفراده أهم!
نحترم القضاء يا «ريس»، ولكن!
مبدأ احترام القضاء مبدأ راسخ لدينا جميعا بشكل عام، ولدى الرئيس بشكل خاص. فمنذ اللحظة الأولى لاضطلاع الرئيس بدوره التاريخي كان القضاء أحد الأعمدة الرئيسية التي استند إليها، حتى أنه آثره بحكم البلاد مكتفيا بموقعه وزيرًا للدفاع يؤدي دوره كجندي لخدمة هذا الوطن؛ ثم لمَّا تمكن الرئيس ورجاله من الخونة والمتآمرين قام بتسليمهم للقضاء ليؤدي دوره المنوط به، فماذا كانت النتيجة؟ وهل أدى القضاء دوره المنوط به فعلا؟
حسنا، على الرغم من مرور أربعة أعوام كاملة، ما زالت معظم القضايا منظورة أمام القضاء لم تُحسم بعد، وما زال المجرمون يتمتعون بحريتهم داخل السجون دون أن يُعاقبوا، وما زال القضاء بروتينه وهيكله المترهل عاجزًا عن تحقيق العدالة، الأمر الذي أدى إلى إحباط عدد كبير من الشرفاء الذين ينتظرون عقوبات رادعة لهؤلاء المجرمين تشفي الصدور وتؤكد لهم أن الوطن يقوم على حمايته رجال وأن لا فرصة أمام أي مخرب أو خائن لتعطيل المسيرة!
ولذلك فقبل الفترة الثانية نقولها بصراحة: نعم نحترم القضاء، ولكن العدالة ليست فقط قضاءً ومحاكم!
الشعب كله رعيتك يا «ريس»، ولكن!
طبقا للتعداد السكاني الأخير فقد تجاوز الشعب المائة مليون! تخيلوا أن الرجل يحمل وحده عبء رعاية مائة مليون نسمة في بلد عانى عقودًا طويلة من الفساد والإهمال والتجريف، وتعرض في السنوات القليلة الماضية وحدها (منذ 25 خساير المشئومة) لانهيار يعادل عشرات الأعوام، فكيف لرجل واحد – مهما بلغ من القدرات – أن يرعى كل هؤلاء؟!
لنكن واقعيين، لن يستطيع – الرئيس ولا غيره – رعاية هؤلاء جميعهم، وبالذات في الوقت الراهن، وإن أصر الرئيس على ذلك، فعلينا أن نتوقع المزيد والمزيد من البطء في مسار النهضة، وأن ما نريد تحقيقه في عام قد يستغرق عشرة أعوام، وما نريده في عشرة أعوام قد يستغرق مائة عام!
وقد تنبه الرئيس لهذا الأمر بالفعل، ونوه به منذ فترة قريبة، وإن كان على استحياء شديد، حين قال: إن لم نستطع الاهتمام بالجميع فعلى الأقل نستطيع الاهتمام بالمتميزين، وهذا هو الحل!
على الرئيس أن يأخذ القرار الصعب، وأن يوجه جهده وطاقته وموارده لرعاية المتميزين، سواء في تعليمهم أو علاجهم أو معيشتهم، وعندها سنحظى بعد سنوات قليلة بشريحة معقولة من المثقفين الأصحاء تكون قادرة على قيادة النهضة بنفسها، وتكون على استعداد لتحمل الأعباء والاهتمام بالبسطاء لتحقيق الأمل المنشود.
ولذلك فقبل الفترة الثانية نقولها بصراحة: كما قلت يا «ريس»، لن تستطيع الاهتمام بالجميع، فوجه طاقتك للاهتمام بالمتميزين.
هذه كانت بعض النقاط والملاحظات البسيطة، التي وجدت من الأمانة أن أوضحها وأقدمها كاقتراحات تكون أمام صانع القرار، علَّنى أكون قد أسهمت بجهدي المتواضع كلبنة في هذا البناء العظيم الذي أراه يتجسد أمامي يوما بعد يوم. حيا الله الرئيس، وحفظ الله مصر وشعبها من كل سوء.
أنهيت القراءة وأنا أشعر وكأنني قد التهمت أحشائي للتَّو، وتابَعْتُ عين الرجل الكليلة وقد اتسعت حدقتها ولمع فيها بريق واضح عجَزَت النظارة السميكة وإفرازات عينه اللزجة أن تخفيانه، فأعطيته الصحيفة واستأذنته لأنصرف؛ فأمسك بِيَدي وسألنى بلهفة: «همَّا كده هيزوِّدوا المعاشات، مش كده؟»! ربتْتُ على يده بإشفاق وقلت: «طبعا يا عم عماد، طبعا»، وتركته وانصرفت وأنا أقاوم دمعة حبيسة أبت إلا أن تسيل!