أفيون الحكم - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أفيون الحكم

  نشر في 12 ماي 2022 .

تتبع ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) مداخل الشيطان وأساليب غوايته لفئات المجتمع المختلفة، من علماء، وسلاطين، وفقهاء، وشعراء، وفلاسفة، وأتباع الطوائف والمذاهب وغيرها. وكان الهدف هو رصد الحضور الشيطاني في المجتمع، وتأسيس وعي بنوعية الخطاب والسلوك اللذين يبث من خلالهما سمومه، ويعزز بالتالي حضور الشر في منظومة العلاقات الإنسانية وآليات تدبير الشأن العام لمصالح الناس.

لم يتصرف ابن الجوزي في كتابه هذا كفقيه فحسب، بل كان أيضا ناقدا اجتماعيا وسياسيا، يتتبع مظاهر الشيطنة في علاقتها بأداء الحكام والعلماء، والنخبة المثقفة بكل تلويناتها في المجتمع. وبذلك يقدم نصحا عمليا، لا يقف عند حدود الاستدلال بالنصوص والفتاوى.

من هذا المنطلق كان تصويره لحضور الشيطان في أروقة الحكم بمثابة تسديد لأداء الحاكم، وتنبيه للمزالق التي قد يكون ظاهرها للصالح العام، وباطنها سببا للظلم، وهضم الحقوق، وخراب العمران.

يُعدد ابن الجوزي اثنا عشر وجها للتلبيس الشيطاني، يكشف من خلالها عن رصده الواعي لتجليات الحكم غير الرشيد في البلاد العربية. وهو بهذا التحديد إنما يشير فقط إلى أمهات التلبيس، بينما هي في الحقيقة أكثر من ذلك.

أول تلك المزالق هو اعتقاد الحاكم أن الملك والسلطان مكافأة من الله عز وجل، ودليل محبة ومكانة مخصوصة. أما الحقيقة فهي أن الملك يعطيه الله لمن يحب ولمن يبغض. وقصص التاريخ شاهدة على حكام تصدوا لدعوات الحق، ومارسوا الاضطهاد على الأنبياء والمصلحين.

التلبيس الثاني اعتقاده أن هيبة الحكم تتأثر بطلب العلم والتماس النصح والتوجيه من العلماء. فيكون ذلك سببا لتكبره وانفراده بتدبير الحكم. ومن طرائف هذا الوجه أن الخليفة المأمون الذي كان مولعا بالعلم والحكمة، لما تولى شؤون الحكم قال لمستشاريه: أيجدر بمثلي أن يتعلم؟ فأجابه عاقل من بينهم: يا أمير المؤمنين، لأن تموت طالبا للعلم خير من أن تموت قانعا بالجهل!

والثالث أن الشيطان يُخوفه من عامة الناس، فيرى الجميع أعداء وخصوما متربصين بالحكم، فيُشدد إجراءات الدخول عليه، وبالتالي يمنع أصوات المظلومين وأصحاب الحاجات من الوصول إليه.

والرابع إسناد المناصب لغير الأكفاء، وتوزيع المسؤوليات الجسيمة على من يُظهرون الولاء، بغض النظر عن قدراتهم ومواهبهم. ويكون من التلبيس في هذا الوجه الاعتقاد أنه لا يتحمل وزر أخطائهم.

والخامس وقوع الحاكم في فخ الإطراء الكاذب لآرائه وتوجيهاته، فتؤدي المبالغة إلى ثقته الزائدة بنفسه، واعتبار أن ما يرتكبه من أفعال هو من صميم السياسة التي لا ينبغي لومه على مخرجاتها. ومما يُحكى في هذا الباب أن الخليفة عضد الدولة أمر بإغراق جارية تعلق بها قلبه، والسبب أنها تشغله عن النهوض بشؤون الحكم، فكان قتل نفس مسلمة مصلحة اقتضتها السياسة برأيه.

والسادس أن يغريه الشيطان بالتصرف غير المنضبط في الأموال والممتلكات العامة. وأن يعتبر ثروات البلد بمثابة رصيد شخصي، يحق له تدبيره بالشكل الذي يناسبه.

هذا الوهم كشف عنه بعض حكام هذا العصر في مقابلات أجراها ريكاردو أوريزيو، تحت عنوان (حديث الشيطان)، فعندما اتُّهم عيدي أمين، طاغية أوغندا الشهير، بالفساد لم ينكر ذلك أبدا، وإنما أجاب قائلا:" إن إدارة دولة تشبه إدارة عمل تجاري ضخم، إذ يتعين عليك أن تمنح نفسك راتبا لائقا". لذا اضطر وزير ماليته أن يفر إلى لندن وينقذ جلده، بعد أن أعلن أن خزائن الحكومة فارغة.

والسابع أن يزين له ارتكاب المعاصي بذريعة أن توليه لشؤون الحكم يغفر له ما يخوض فيه من محرمات. بينما قيامه بتدبير الشأن العام واجب وتكليف، لا يمنحه الرخصة لما نهى عنه الشرع.

والثامن أن يغتر باستقرار البلد، فيظن أنه أدى ما عليه، ويحول ذلك دون تقصيه للأمور بشكل جدي. وقد تسهم التقارير التي يرفعها مستشاروه في تعزيز القناعة بأن الوضع جيد، وأمور الدولة تدار على أحسن حال، بينما يضج الواقع بمظاهر التردي، وسوء أحوال المعيشة.

والتاسع أن يصبح العنف والشدة أسلوبه في الحكم، فيجري تطبيق السياسة العامة للبلد بإراقة الدماء، وحشد السجون والمعتقلات. ومعلوم أن هذا الأسلوب يعود بالخراب وتحطيم قدرات البلد وإمكاناته، وتبديد آمال الناس في عيش كريم ومستقبل آمن.

والعاشر أن يزين له بعض الطاعات كسبيل للتخلص من إثم الجرائم والاعتداءات، وكل أشكال الاضطهاد. بل الأخطر من ذلك أن يجد من العلماء والمثقفين من يحول الدين إلى ألعوبة، تضفي شرعية زائفة على أخطاء الحاكم وخطاياه.

أما الوجه الحادي عشر والأخير، فيُقنعهم بالجمع بين مواصلة ارتكاب المعاصي، والتماس الدعاء عند الصالحين.

إننا نجد في واقعنا المعاصر ما يؤيد هذه المداخل، ويؤكد استمرار الشيطنة في إعادة إنتاج أوهام الحكم ومزالقه. ويمكننا، إن سمح ابن الجوزي بطبيعة الحال، أن نعزز قراءته الواصفة لحضور الإبليسي في أخطر مؤسسات الأمة، باستحضار وجه آخر هو إقناع الحاكم بأنه أذكى من قائمة الحكام الذين سبقوه على مر التاريخ، وبأن تكراره لأخطاء من سبقوه سيفضي إلى نتيجة مغايرة، أو بأنه أعلى ذكاء، وأقدر على تجاوز المعضلات. فيكون الجهل بالتاريخ وسنن الكون أو تجاهلهما مدخلا متجددا، يرجح كفة الشيطان في هدم السلطان وخراب العمران.


  • 3

   نشر في 12 ماي 2022 .

التعليقات

قلم حر منذ 6 شهر
موضوع رائع وللاسف الشديد نرى الكتير من هذه المظاهر فى عالمنا اليوم
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا