ندم - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ندم

ندم

  نشر في 09 يونيو 2016  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

و صاحَ الديكُ معلناً عن يوم ٍجديدٍ، و عن صبحٍ لناظرهِ قريب و عن نداءٍ لصلاةٍ و دعاءٍ لرب رحيمٍ مجيب. نظرت إليه و قد إنحنى رأسه على كتفه و إلتحفت ذراعاه صدره ،و تكومت قدماه إلى بطنه من البردِ. بكت و قالت: اللهم ظلمت نفسي فإغفر لي. غمرت الدموعٌ عينيها ،و تذكرت قبل عشرين سنةٍ ،حين أتى المهندس مصطفى ليسكنَ الفيلا المجاورة لبيتهم مع بناتهِ الثلاث ،و كان في الخامسةِ و الأربعين من عمرهِ و كان أرملاً. كان ميسورُ الحال طيبَ الخلق سعت كل نساء الحي لتزويجه بناتهم ، و كان من بينهم أمها التي ما إنفكت ترسلُ الطعامَ و الهدايا معها لبناته صباح مساء. تذكرت كم من الليالي أمضت و هي تدعو الله أن يكون من نصيبها ،و هي بنت التاسعة عشر ربيعاً. الطعامُ لذيذٌ و إبتسامتها جميلة ،و أحبتها الفتيات. تزوجها مصطفى و أكرمها و أصبحت حديثَ الحي على ما هيّ فيه من العز و الدلال. بعد عشرِ سنواتٍ تزوجت الفتيات و رزقت سعاد بثلاثةٍ من الأولاد، و ترقى المهندس مصطفى و إزداد الخيرُ و الرزقُ ،و غطت الأساورُ الذهبيةُ معصميَّ سعاد حتى المرفقين و تدلت العقود الذهبية من على كتفيها كالشلال ،و غدت كعروسِ المولدِ كلَ ساعةٍ في غير ثيابٍ و أجملِ حال. و غدت أسرةُ المهندس حديثَ كل سهرةٍ ،و على كل لسان. لكن دوامَ الحالِ من المحال ،فبعد عشرِ سنواتٍ أخرى إنتهى عملُ المهندسِ و أُحيلَ على المعاش ،و آن له أن يرتاح من شقاء ِالعملِ و النصبِ في ساعاتِ الصبح و بردها ،و ساعات الظهيرةِ و حرها. كان يملؤهُ شوقٌ للعملِ في حديقةِ منزله ،و أن يصنع مُعرشاً من جريدِ النخل ليجلسَ مع رفاقه و يسهرَ معهم و يدللَ نفسه بما أنعم الله عليه من ماله ليمضي الباقي من عمرهِ في هدوءٍ و راحة بال.

تذمرت من وجوده في المنزل و قد قيدَ من حركتها ،و قلل من زياراتها لجاراتها ،و ألزمها التسوق برفقته، أصبح يسألها عن كل صغيرةٍ و كبيرةٍ في البيت الذي أدرك أنه لم يكن يعرف فيه شيئاً . لم تعدْ تطيقُ وجوده في البيتِ و لم ترحبْ بضيوفهِ الذين يصدرون كثيراً من الضوضاء. خمسُ سنواتٍ أخرى و قد وهنَ منه العظمُ و خفَ البصرُ و تراخت يداه ،و بدأ الخبزُ يتساقط من بين شفتيه، و الأرضُ تغوصُ بالماءِ عندما يتوضأُ أو يغتسل.بدأ صوتها يتعالى و تأففها يزداد ،و خلا كلامها من الأدبِ و الإحترام . و بدأ الأولاد يهربون من البيتِ حتى لا يسمعون غضبها و سخطها. و باتت نسوةُ الحيّ يلومونها على ما تفعل بزوجٍ كريمٍ و أبٍ رحيم. و لكنها كانت تقول: أحاول و لكني لا أحتمل كثرة طلباته و أسئلته.

أصبحت ذات يوم تشتكي مغصاً شديداً ، لم ينفعْ فيه علاجٌ و بعد فترةٍ تم تشخيصه بسرطانٍ في الأمعاء، أتى الأهل و الأصدقاء و الجيران حيناً من الزمان لعيادتها و لكن الجمع إختفى بعد حين. و زداد الألمُ ،و ولت ملامحُ الشبابِ و القوةِ. إستنكف أولادها عن خدمتها ،و لكنه لم يتركها لحظةً، يطبخُ لها الطعامَ بيده و يطعمها إياه ،و يحرصُ على تناولها الدواء في مواعيده،و على تنظيفها و لملمةِ المتساقط من شعرها ،و غسل فراشها الذي تتقيأ عليه من حينٍ لحين . كان حبه و خوفه عليها يزيد من ألمها و يعذب روحها. كانت تستحلفه كلَ ساعةٍ أن يسامحها و يقسمُ لها أنه لم يكرهها يوماً ،و لم يحملْ في نفسهِ أيِّ ضغينةٍ لها.

أفاقت من هواجسها و ذكرياتها على يديهِ تمسحان وجنتيها من الدموع ، و قال لها: لم تبكْ الحسناء في ساعةِ صبحٍ ، إدعِ يا سعاد أن يشفيك الله ،فهذه ساعةٌ يستجاب فيها الدعاء. تركها قليلاً ،و عاد بماء ٍ دافيْ للوضوء و بدأ يغسل وجهها و يديها و قال لها و هو يحتضن ما تبقى من جسدها الهزيل ،و دمعها يتساقطُ كمطرٍ السماء : كفي عن البكاء نريدُ أن نصلي . قالت: سامحني أرجوك سامحني قالَ : إذا توقفت عن البكاءِ ، و بدأت بالإستغفار. و فعلت، و حملَ وعاءَ الماءِ و المنشفةِ البيضاء و غادرَ الغرفةَ ، و عادَ و ردَ السلام ، و فردَ سجادةَ الصلاةَ و قالَ لها: نصلي معاً . لم تردْ ،و لن تردْ ، و لكنَ الدمعَ لا زالَ عالقاً بين رموشِ عينيها المفتوحتين .



  • 2

  • راوية وادي
    كاتبة و رسامة فلسطينية .مدونتها الخاصة علي الإنترنت Rawyaart : (https://rawyaart.com) متفرغة للكتابة و الرسم في الوقت الحالي.
   نشر في 09 يونيو 2016  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا