جُبران..
بَدَا الشعور يُغيّم حال إنتهائي من العمل، عصرَ هذا اليوم، كانت نوبات الكآبة قد بدأت تتنشط شيءً فشيءً في هذا الجو المُتحيِّر؛ تتشعبُ وصولاً إلىٰ آخر الليل المُلبد بهدوئي.. كُنت كعادتي اليومية أشعرُ بالوحدة التي أُنتجت خلافَ الأصدقاء الغائرين؛ فقررت أن أذهب لزيارةِ صديقتي الغبية في عملها -بعد أنقطاعٍ في التواصل دام أشهر- كنت أفتقد أكتافاً كثيرة بهذه الفترة فقررت التنازُلَ والمُبادرة بعد جزمٍ علىٰ أن لا أُرجعها لحياتي بعد طول الانقطاع وعدم السؤال عني -كما عودتني- عموماً صديقتي هذه تستحق الغفران والصفح هي طيبة جداً ونقيةٌ كالغيم أقل الأشخاص إيذاءً لي أو بالاحرىٰ هي لا تؤذي أحدٍ قط، روحي متعلقة جداً بها يا جُبران، حدثتك مرةٍ عنها يوم كنا سويّاً متجهين لشارع العرصات لمقهىٰ الفيصلية، بعادتي أمقت العتب، وباردةً تجاه إختفاء الأشخاص الغير مُهمين؛ إلا الذين مَن تعلقتْ بهم روحي حقاً.
عانقتها مُتناسيةً ما خلّفته بي من وحدةٍ! ثم انتشلتها من عناقي! صافعةً وجهها بكفٍ جرّاء ما تحطم بي من كبرياءٍ واشتياقٍ.. هكذا هو تصرفي دائمُ القسوة كما أعتدتني انتَ ايضاً؛ لا يُشفىٰ غليلي إلا إذا أخرجتَ غضبي بوجه مَن صنعه.
شتمتها، ووبختها، ثم تحدثنا عنك ايضاً وطال الحديث..، -الحديث عنك دائما يطول- أنه الأطول لديّ، حاولت الالتهاء عن التفكير بك بالمُزاح مع باقي الأصدقاء الموجودين لكن ما أن حلتْ الفرصة لانفردَ بذاتي حتىٰ خطرت مثل عنكبوتٍ مُنسدل عبر خيطه وعلىٰ رأسي يهطل؛ ليُفزع الركود والسكينة بهبوطه.
رجعت إلىٰ البيت، وفي الطريق كان لسائق السيارة دوراً أكبر لتذكيري بمأساتي معك؛ وذلك من خلالِ مزيج أغانيه الحزينة والكئيبة.. علىٰ رغمِ انها "بيئة" جداً ولا استسيغها لكن حساسيتي الزائدة بعد مُفارقتك تتهيج عند أي لحن مهما كان رديء؛ ليذكرني بالغيوم الغوامق.
ما أن أنتهيت من تناول العشاء، والأفكار صارت تُمطر علىٰ بالي بذكرياتك والشوق الذي يسحبُني، في غرفتي، في الحمام، وانا أُفرّشُ اسناني، متجهةً إلىٰ الفراش لأقرأ الكتاب الذي تسمّىٰ بطلِه بأسمك؛ لأتعلق بهذا الكتاب أكثر.. وكعادتي، غفوت علىٰ أوراقه ، وبدأتْ أحلام اليقضة تطاردني وبدأتُ أستلهمُ منك كتاباتي، أجرُ أقرب مسودةٍ ليديّ فاراني أكتب هذه الرسالة بنصفِ عين، والتي كحالِ أخواتها "لن تُرسل" إلا ببترِ شيءٍ من الكبرياء!
تشاركني كل طقوسَ يومي، وحتىٰ وحدتي هذه التي لا تُسمىٰ وحدةً وانتَ شاغلُها..
الوحدةُ شيءٌ خطِر يا جُبراني، خطرٌ للغاية، العالمَ لا تُدرك كم يُهضم من عقلِها وهي تستغرِقَهم! لا يملكون أدنىٰ فكرةٍ عن الهشاشة التي تُخلِقُها هذه العاهرةُ الوقحة المُسماة ب"الوحدة".
أما انا فوحدتي تختلف تماماً؛ لأنك تحتضنني وانا أحتضنها بذات الوقت، انتَ بكل الأمكنةِ وفي الأميال والساعات، لا أعلم ماذا يحدث إلي صدّقْ، انا غير مضطرةٍ لحملِ كل ذلك، انا صغيرةٌ جداً علىٰ هذا الألم، والعبث الذي لو كنت بجانبي لشدّدتني إليك عنه! لكنتُ أقل خطراً علىٰ نفسي من الآن.. احتاجُ للتحدث معك عمّا يُحارَبُ داخلي، مُرهقــةٌ جداً ولا أجدني مع مَن سواك.. لا أستطيع إحتمال غيرك رغم انكَ ما أعطيتني إلا القليل، القليلُ جداً مما أستحق؛ لكن كأنهُ العطاء، كأن اراكَ جانبي حيث كتفي، حيثُ اينَ أسندُ رأسي المُثقل قلقاً بتخمةٍ وعَبث..
الشوق والخوق والوحدة جميعهم يختبروني لألجئَ إليكَ، لولا هذا الكبرياء اللعين الذي يمنعني منك لارتميت الآن بجسدك منصهرةً فيك ولن اجدُ لنفسي مخرجاً عن هذا الكهف، حتىٰ لثلاثة مائة سنين وليزدادوا ألفاً لا تسعْ..
فراقك يشعلُني جُبران، عيوني تبكيك، لا تترك الشوكةَ مُعلقاً في غصتي هكذا، خُذني من قلبي ويدي وعانقنا جميعاً، وعانقنا وكأنك تحتضنُ العالم بذراعك المُنفرجة الصغيرة وذرائعك، كُلنّا ننتظرُك يا سعيري، أقسمُ لو رأيتك لن أكتفي بشيءٍ غير استنشاقك؛ ريثما أُشبّع من عطرِكَ أنفي.
كُن بخيرٍ يا أُمي.