رسالة من اليابان: أيها العرب أرجوكم لا تتقدموا! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

رسالة من اليابان: أيها العرب أرجوكم لا تتقدموا!

  نشر في 05 مارس 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

"اليابان" اسم يحمل لنا الكثير من مشاعر الإعجاب والاندهاش ببلد من الصف الأول استطاع من بعد خوضه حرباً دموية النهوض مجدداً بل وبناء حضارة تضاهي الدول المتقدمة آنذاك، وقد تم ذلك في غضون بضعة أعوام أبان الحرب العالمية الثانية؛ مما جعل اليابان تغدو مضرباً للمثل يجري على ألسنتنا عند التحدث عن التقدم أو عن البلدان التي استطاعت النهوض بعد الحرب.

اليابان، ذلك البلد الذي استقطب العديد من الإعلاميين العرب أمثال الإعلامي الناجح أحمد الشقيري للتحدث عنها والتعرف على حضارتها وإلقاء الضوء على الجميل فيها لأخذ العبر والدروس. الأمر الذي أدى كذلك إلى لفت أنظار شريحة من الشارع الشبابي العربي إلى اليابان كوجهة جديدة للهجرة أو الدراسة بدلاً من أوروبا وأمريكا.

مما لا شك فيه، أن غاية الشقيري لم تكن القيام بحملة ترويجية عن اليابان بل تشجيعنا على تطبيق نظامهم في بلداننا. إلا أن بعض المتأثرين بالحضارات المتقدمة يفضلون الهجرة إلى بلد متحضر بدلاً من العمل على التقدم ببلدانهم. فهم يفضلون الحصول على الرفاهية بسرعة وضمانة دون تعب، والحصول على الأشياء الجاهزة بدلاً من تجهيزها. الأشياء الجاهزة مثل البلد الجاهز والحضارة الجاهزة والمستقبل الكريم الجاهز ! ثم ليعود بعضهم إلينا ويلقي علينا دروساً في الحضارة والتقدم وكأنه ساهم بها أوكان أحد جنودها !

وفي المقابل، هنالك من يسعى في هجرته إلى طلب العلم والمعرفة لتقديمهما إلى أرضه بعد عودته إليها للرقي بها. فتكون غيرته على وطنه وشعوره بالوطنية دافعهاً له لترك ذلك الوطن، ويكون عشقه لأرضه دافعاً له للابتعاد عن تلك الأرض!

بعد أن يصل المهاجر أو العامل أو الطالب العربي إلى اليابان، يبدأ بتعلم القواعد والضوابط الحياتية والعملية الكفيلة باندماجه بهذا الشعب المختلف كلياً. هذا الشعب الياباني الذي يصعب عليه تقبل الأجنبي بسهولة على غيار العديد من البلدان. فتكون التحديات التي يواجهها المغترب في اليابان تفوق مثيلتها من التحديات التي يواجهها المغتربون في أوروبا أو أمريكا. حتى أن بعض العرب قد يشعر بتقاربه ثقافياً وحياتياً من أخيه الأوروبي في اليابان أكثر من أي مكان آخر نظراً لوحدة الحال التي تجمعهم في هذا البلد أو بسبب مرورهم بظروف متشابهة من صعوبةٍ في التأقلم وفهمٍ لعقلية نظيرهم الياباني.

فالياباني يتعلم منذ سنين حياته الأولى الانضباط الصارم في العمل والإخلاص المتناهي له ولو على حساب حياته نفسها. ويتعلم المراعاة المطلقة لمحيطه في كل صوت يصدره أو كل خطوة يخطوها حولهم.

وما إن يبدأ المغترب العربي بالتأقلم شيئاً فشيئاً مع المحيط الجديد حتى يشعر بالكم الهائل من الضغط الذي يثقل به الياباني ظهره في عمله، مما قد يحدو به أحياناً إلى النوم في محطة القطار خوفا من التاخر صباحاً عن عمله ولو لدقائق في حال كان مسكنه بعيداً عن مكان عمله ! وحينما يكسب المغترب المعجب بحضارة هذا البلد أصدقاءاً يابانيين، يندهش من مدى صغر مساحة الحياة الشخصية للعديد منهم خارج إطار أعمالهم. فقد يقضي الياباني اثنتي عشر ساعة متواصلة في مقر عمله يومياً ولا يعود إلى بيته إلا للنوم دون التمكن من قضاء ساعة واحدة مع أسرته قبل خلودهم إلى النوم.

والحال نفسها بالنسبة للسيدات اليابانيات العاملات اللواتي قد يقضين أغلب حياتهن في مكان العمل لتغدو حياتهن الخاصة عبارة عن التحية التي يلقينها على أزواجهن وأولادهن ليلاً قبل النوم أو في العطل الأسبوعية.حتى يصل الأمر بعد التقاعد إلى صعوبة تعرف أحد الزوجبن على الآخر بعد كل تلك السنين الطوال من العمل فيقرران الانفصال كلياً والطلاق! وهي ظاهرة يعاني منها المجتمع الياباني.

جوانب كثيرة لم يكن العربي يعي وجودها وراء هذه الحضارة المتقدمة ووراء هذه الصورة الباهية والتي تحتاج إلى الكثير من التضحيات للمحافظة على بهاءها.

بعض المغتربين قد يصل إلى النتيجة القائلة (حمداً لله أني لست يابانياً) فيقرر الانعزال تدريجياً عن هذا الشعب والاكتفاء بالجالية العربية لملئ حياته الاجتماعية مع الحفاظ على الحدود الدنيا من الالتزام بعمله (وأعني بالحدود الدنيا الانصراف من عمله عند انتهاء الدوام الرسمي أي الساعة السادسة مساءاً دون العمل لساعات إضافية!) فالعامل الياباني الإعتيادي لن يستطيع الانصراف عند انتهاء الدوام الرسمي حتى وإن أنهى مهامه لألا يعتبره زملاؤه شخصاً مستهتراً كسولاً ويرمقونه بنظرات الاستهجان والتأنيب!

إلا أن بعض المغتربين يفضل رغم كل شيء الانصهار التام في المجتمع فتراه يمشي بخطوات سريعة نحو محطة القطار كياباني، ويعمل لساعات طويلة جداً كياباني، حتى أنه ينحني أثناء التحدث على الهاتف كياباني! نماذج تتضارب بعض الشيء بين مغترب وآخر وقلما تخد نموذجاً متوازناً بنجاح!

ولكن، لنرى بالمقابل نظرة الياباني الذي سنحت له فرصة معاشرة بعض المغتربين ومشاركتهم أنشطتهم. (باستثناء اليابانيين الغير متقبلين لوجود الأجبني في أرضهم والغير مستعدين للترحيب بثقافة غريبة عنهم)، هنالك البعض من اليابانيين المنبهرين بجوانب من ثقافتنا تماماً مثل انبهارنا بجوانب من ثقافتهم. إلا أن الجوانب التي تجذبهم هي ما نقص من كمالهم وما قد يكمل لوحتهم البهية. ألا وهي الجوانب الاجتماعية أو الروحانية (وأعني بالروحانية الجوانب الدينية، إذ أن المجتمع الياباني لديه الكثير من المعتقدات الروحانية التي لا تمثل بالضرورة جانباً دينياً). فبعد أن يختلط أحدهم بالتجمعات العربية حتى يفاجئ بالروابط القوية التي تجمع الأسر مع بعضها والأصدقاء مع بعضهم. في حين أن هذا الياباني قد لا يتسنى له تناول وجبة طعام واحدة مع أسرته طيلة أشهر طويلة أو قد لا يتقبل فكرة عناق أولاده أو أحد أفراد أسرته طيلة حياته لما في ذلك من مبالغة بالتعبير عن العواطف! فيجد هنالك في تجماعتهم الناس حوله تتضاحك وتسلم بحرارة على بعضها وكأنها لم تلتق منذ سنوات! في حين أنه يعلم بكثرة تلاقيهم! ويجد أن العناق مثلاً قد يكون صيغة اعتيادية جداً من السلام بين الرجال مع بعضهم أو بين النساء مع بعضهن. ويجد ممارستهم لشعائرهم الدينية وانضباط صفوفهم بالصلاة مثلاً تجسيداً لبعض الأفكار التي تربى عليها!

فيجد الياباني نفسه أمام أولويات تختلف تماماً عن أولوياته حيث أن الأسرة تتصدر القائمة، والحياة الاجتماعية لا تقل أهمية أبداً عن الحياة العملية. فيشعر بالغبطة ويتمنى الانتماء لمجتمع كذلك ! فتجد عندها الحديث يدور على شاكلة: ليتني كنت أعيش في أسرة تشبه أسرة أي منكم! ليرد عليه العربي قائلاً: بل ليتني كنت أنا يابانياً حتى أتمتع بميزات الانتماء لهذا البلد العظيم! ويستمرالاخذ والرد بينهما وكلّ يرى الأمر من منظار ما ينقصه.

إن الياباني ورغم اعتداده بجنسيته وثقافته وتقدم بلده، إلا أنه يعي تماماً ضريبة التقدم التي وصل إليها. ويعلم أنه لا طريق للعودة ولا وقت للتوقف قليلاً والتقاط الأنفاس إذ أن القواعد المجتمعية صارمة للغاية، والسقوط مرة قد يعني نبذه تماماً من المجموعة، والاختلاف سيتحول بنظر المجتمع إلى فعل نشاز ضمن شعب تبنى نظرية العمل الجماعي إلى حد جعل من التميز خطأً ومن التفرد جرأة زائدةً فتبنى مبدأ العمل الجماعي تماماً مستمتعاً بإيجابياته حتى أخذ به الأمر إلى تبني السلبيات كذلك.

وفي المقابل، يصل العربي المغترب إلى مكان يجد نفسه في منتصف الطريق فلا هو يقوى على الاندماج تماماً في خلية النحل اليابانية ولا هو قادر على تقبل ما تركه خلف ظهره.

فيناشد الياباني صاحبه العربي قائلاً: أرجوكم لا تفقدوا جمال ثقافتكم! إن كان التقدم سيفقدكم هويتكم، فأرجوكم لا تتقدموا فالضريبة غالية!

ليرد عليه العربي: ولكن البقاء تحت وطأة التخلف أمرٌ لايطاق!

فهل سيصل أحدهما إلى التوازن؟ أم أنه لا وجود لشعب متوازن؟ وما التوازن حقيقة سوى مبدأ مثالي لم يخلق لعالمنا المليء بالتناقضات؟

وهل سنضطر دائماً لتقدمة التضحيات في سبيل الحصول على ما ينقصنا؟ وهل يقتضي سد النقص وتعبئة فراغ واحد إلى خلق فراغات جديدة حكماً؟

ويا ترى، هل سيؤدي بنا الضياع بين المتناقضات إلى الوصول إلى ذلك اليوم الذي نعيد فيه تعريفنا للنجاح على أنه حالة الاعتدال والتوازن بين العمل والحياة الاجتماعية؟ وهل سيأتي يوم تعتز به الشعوب بميزاتها مع الاعتراف بما ينقصها والسعي إليه بأمانة؟  


  • 4

   نشر في 05 مارس 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

Dallash منذ 5 سنة
ابداع فعلا..القيت الضوء على موضوع من اهم المواضيع
0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا