إمام المسجد والمواصلة في العلم ( تنبيهات ووقفات) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إمام المسجد والمواصلة في العلم ( تنبيهات ووقفات)

  نشر في 18 يونيو 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :

اعلم أخي الموفق _ رحمني الله وإياك  _ أن الكلام في هذه الأسطر ليس موجها  لبيان المناسبة بين منصب الإمامة في المسجد وبين طلب العلم والمواصلة فيه، فالعلاقة بينهما وطيدة ظاهرة، بلا أدنى تأمل، ومعلوم أن القيام بمهام الخطابة والتدريس والوعظ _ بعد التأهل _ رافد كبير من روافد العلم بلا شك، وأقول بعد التأهل لا قبله، أي بعد أخذ مختصر ومتوسط ومطول في كل فن من الفنون أو في أكثرها والنظر في شروحها وتقريرات العلماء عليها جمعا، ونظرا، ومقابلة، وتحريرا، وحفظا، واستيعابا، وهذه مرحلة التأصيل، وهذا لا يحصل إلا بعد وقت ليس بالقصير، والوقت في العلم مهم جدا ،فإن العجول لن يذوق العلم، فضلا عن تحصيله، ...

فإذا جاءت فوائد العلم _ بعد هذه المرحلة _ مِن طريق الإمامة والتدريس فإنها تجد أساسا من التأصيل تُوضَعُ عليه، فيكون تصور الإمام لها تاما وإدراكه لها كاملا، فيفهمها على وجهها ويضعها في محلها في كل باب في أبواب ذلك الفن، لذلك هذه الفوائد تستقر في نفسه وتثبت وتنمو، وبِذا يُبْنَى صرحُ العلم ويعلو، أما قبل التأهل والتأسيس فتبقى تلك الفوائد متناثرة أشبه ما تكون بثقافة عامة ومنثورات بلا قواعد ولا ضوابط، يعرف صاحبُها حكمَ المسألة وقد لا يدري عن حكمِ مثيلاتها، بل لا يعرف مظانَّها من الفنون أو الأبواب، وربما حَكَمَ لِمسألةٍ بحكمِ مسألةٍ أخرى لا تشبهها وليست من بابها، لكنه لو عرف الضابط لاهتدى لمعرفةِ الأشباه والنظائر، ومَن كانت هذه حاله فهو كالمثقَّفِ؛ عنده ثقافة عامة في الطهارة، وثقافة عامة في الصلاة، وثقافة عامة في الزكاة، وهكذا في الصيام والحج .. وقلْ مثل ذلك في المعاملات وغيرها من أبواب الفقه.. وقل مثل ذلك في سائر العلوم .. ولو تكلم بما عنده من تلك النُّتَفِ لرأيتَ في كلامه وطرحه خللا ظاهرا؛ وعدمَ تحقيق؛ وعدم ترتيب ولا تناسبٍ، ولا تجد في تعبيره لغةَ القوم، ولا في ألفاظه وتحقيقه نفَس أهل الفن..

كذلك لم  أُرِدْ أن أذكر ههنا ما يتعلق بالإمامة من محفزات لطلب العلم، ولا ما يحتاحه طالبُ العلم إمامُ المسجد من تزكية لنفسه وتطهيرِ قلبه، مع كون التزكية شرطا في التحصيل، فإن العلم لا يستقر إلا في محلٍّ طاهر، لطيفٍ، رقيق، رقراق، منكسر، متضرع، مفتقر إلى ألطافِ ربه وهداياته، فالتزكية في أول العلم وفي أثناءِ تحصيله، فهي المبتدأ وهي المنتهى في القصد، وهي المأرب والغاية والثمرة من طلب العلم وتحصيله، إذْ إن العلم إنما يُطلب ويُرام للعمل وإصلاح القلب، فلا ينفع ذكاء بلا زكاء، ولا تنفع الفهوم بلا علوم، والعلمُ الخشية، وكفى بخشية لله علما و( إنما يخشى الله من عباده العلماءُ)... ولما ذُكرَ معروف الكرخي العابد المشهور في مجلس الإمام أحمد رحمه الله قال أحد الطلاب: معروف  الكرخي ليس من أهل الاشتغال بطلب الحديث أو كلمة نحوها، فقال له الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله: (( إنما يُطلَب العلمُ لأجل حال معروف !!) أو كما قال رحمه الله. 

فكأني بالإمام أحمد رحمه الله يقول للطالب: أنت جالس هنا في الحلقة تتعلم الحديث والعلم لأجل أن تكون حالك كحال معروف في العبادة والعمل والسلوك والتألُّه..

كذلك أخي إمام المسجد الموفق لم أقصد هنا إلى إيراد ما يحُفُّ الإمامة من مزالقَ في بعض الجوانب؛ كتقحُّم الفتوى في المسائل الصغار والكبار، وما قد يشوب صاحبَها من قوادح الإخلاص، ومن العُجب والتعالي الذي قد يكون سدا وحائلا دون قَبول إمام المسجد للنصح من إخوانه، نظرا لكونه دائما يتكلم وقليلا ما يسمع، فكثرة تدريسه وكثرة وطول العهد في الخطابة والناس تستمع يتعود على التقرير والإلقاء ويألف كونه ناصحا وموجها ويثقل عليه أن يسمع من غيره فيُداخله من ذلك ما يعتري النفوس من الحظوظ إلا من رحم الله، هكذا وما يتبع ذلك من الاستغناء بالنفس والقناعة بما عنده والركون إلى ما حصّل من معلومات ونُتَفٍ يخالها شيئا ويخال نفسه قد وصل.... فيستغني، ويترك الرجوع للعلماء، ..وغيرها من الغوائل الكامنة ... الخ. فهذا موضوع مهم وقد بسط فيه القول علماؤنا وبينوه بيانا شافيا، ومَن جمع فيه ما لكل عالم مِن كلامٍ حول هذا الموضوع حصَّل سِفرا لطيفا مفيدا ..

وعودا على بدءٍ أقول إن الصلة بين الإمامة والمضيِّ في العلم قوية متينة لمن وفقه الله سبحانه وهداه لسلوك الطريق الصحيح قبل التصدر للإمامة، وبعد التصدي لها والاضطلاع بمهامها تدريسا وإرشادا وخطابة....،

وإنما أردتُ _ تحديدا _ محاولة بيان ما قد يشوب العلاقة بين إمام المسجد وبين مواصلة العلم من ضعفٍ وفتور وضمور، في محاولة  مني لإذكاء شعلة النشاط عنده، وشحذ الهمة في استثمار هذه النعمة، نعمةِ الوقت الذي يوفره لك منصب الإمامة، ونعمة التفرغ، وعدم تشعُّبِ القلبِ بالضرب في الأرض طلبا للمعاش كحال أكثر أقرانك من الشباب؛ من طلاب العلم وغيرهم ممن لابد لهم من الضرب في الأرض والصَّفْقِ بالأسواق، ومنهم من يؤجر نفسه على عمل ليحصل على لقمة العيش له ولعياله ، فنعمة اجتماع قلب الإمام  ولمِّ شَعْثِه على العلم ونعمة القرب من المكتبة، ونعمة دوام الصلة بالقرآن والسنة وآثار السلف، حفظا وقراءة وشرحا وتَفَهّما وتبليغا للناس؛  هي في الحقيقة نعمةٌ عظيمة لا تقادَر .. لذلك ذكرتُ جملة من التنبيهات _ مما حضرني _ وقد رأيتُ أكثرَ تلك العيوب في نفسي لذلك سهُل  عليَّ تقييدُها.. رأيتُها سببا مباشرا في إضعاف الملَكةِ العلمية لإمام المسجد، وتَقَهْقُرِ مستواه، وتضَعْضُعِ همته، ونبهتُ على بعض الأمور المعتادة التي توهِنُ عِلْمِيَّتَه إذا ألِفَها وسلكها وسار عليها مدة طويلة أثناء أداء رسالته المسجدية خطيبا، ومدرسا، ومرشدا، ومعلما، ولم أقصد استيعاب كلِّ ما يتعلق بذلك، ولكنها شذرات وإشارات .. لعل الله أن ينفع بها، وعسى أن تكون مُنبِّهةً على ما وراءها من خلل.. عساك أخي إمامَ المسجدِ الموفَّقَ أن تنشُط لتقويم مسارك بنفسك بعد توفيق الله لك مع شيء من المجاهدة والمثابرة والمصابرة والتصبّر . ( فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران.

فأقول مستعينا بالله تعالى :

الوقفة الأولى :

قد يستغرق إمامُ المسجد جُلَّ اهتمامه في الدروس الوعظية، وينحصر تحضيرُه في مراجعَ وكتبٍ مشهورةٍ لا يتعداها، وغالبا ما تكون مادتُها العلميةُ مستهلكةً مكررةً، خاصة ما يتعلق بالمواسم كشهر رمضان وعشر ذي الحجة وموسم الحج، والمحرم والأشهر الحرم ..

وأعني بها خاصة كتبَ بعض المعاصرين، مما غلب عليه الوعظ المكرر والقصص التي اشتهرت..، ولا أعني المصادر الأصيلة المعروفة من أُمّات الكتب فهذه عمدة الطالب والإمام والباحث دائما.

وهكذا في تحضير الإمام للخطب المنبرية، كثيرا ما (يقتات) بعضُ الأئمة على خطب الغير، وأحيانا دون تغيير ولا زيادة ولا نقصان ! ما يسمى اليوم بالنسخ واللصق!.. والاستفادةُ من الغير ليست عيْبا من كل وجه، ولكن لابد من ظهور بصمةٍ خاصة للإمام، وبروز أثر شخصيته في عبارات خطبته وسَبْكِها، قد يستفيد من غيره بعضَ الأفكار، لكن على الإمام أن يصوغها بعبارته، ويركب ألفاظها بنفسه، إلا إذا كانت استنباطا أو نكتة علمية دقيقة فهذه يكون نقلها بحرفها معزُوَّةً منسوبةً لصاحبها أولى وأوجب كما هو مقرر ومعلوم .. وليس هذا محل بحثِ مسألةِ الاستعانة بخطب الغير والاستفادة منها وذكر ضوابطها، وإنما المراد بيان الوجه السلبي فيها وهو الاعتماد الكلي والتام على خطب الغير بلا تصرف، والاستمرار على ذلك لسنوات حيث يعمد الإمام إلى خطبة غيره يطبعها صبيحة الجمعة ويخطب منها، دون عناءِ الجمعِ والتنقيح والتصحيح والبحث والتحضير..

ومن سلبيات هذا الطريقة فيما يتعلق بالعلم أنه مع الوقت تضعف ملكة تحضير الخطبة عند هذا الإمام، بحيث إنه لو تَطَلَّبَ كتابةَ موضوعِ خطبة من مجموعةِ مراجعَ منثورةٍ من الكتب المطوّلات والمبسوطة لديه لربما أعياه الطِّلاب .. وتعسر عليه ذلك جدا.

فيقال: إنه ليس شيءٌ أنفعَ لإمام المسجد من كتابة خطبته بنفسه، ولا أحسن ولا أكمل من ذلك، حيث يفيده البحث أثناء التحضير صقلَ مَلَكَتِهِ، واتّساع مَدَاركه، فتُطبَعُ نفسُه، وتقوى شخصيته الخطابية، ويسيل ذهنه وقلمه ... والمَلَكات تنمو وتتسع بالدُّربة والرياضة .. ناهيك عن كثرة الفوائد العلمية التي يمر بها قطارُ تحضيرِه متنقلا بين محطات الكتب المختلفة، وهو محل الشاهد من خدمة رسالة الإمامة لجانب طلب العلم عند إمام المسجد .. فتقوى بذلك ساقه، ويشتدُّ عودُه في العلم مع مرور الزمن..

وكل ما ذكرت لك أخي إمام المسجد الموفق من محاسن التحضير الشخصي يموت مع الوقت إذا كان إمام المسجد مُقتاتا على خطب غيره ومعتمدا عليها اعتمادا كليا لا يغيّر منها شيئا ولا يبدِّل ولا يُعَدِّل، وكلما قلَّ اعتماده على غيره ازداد انتفاعه لنفسه ..وكلما ازداد اعتماده على غيره قل انتفاعه بحسب ذلك ..فالعلاقةُ طردٌ وعكسٌ كما ترى.

الوقفة الثانية:

قد يقتصر اهتمام إمام المسجد على علمَيِ التوحيدِ والفقهِ، ولو زاد على ذلك فالسيرة، وهذا أمر محمود في حقيقته وممدوح، نظرا لحاجة الناس إلى التوحيد، وإلى فقه الفروع العملية، وإلى فقه السيرة ومعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال في حياته وفي دعوته إلى الله تعالى ...

لكن إذا غلب على إمام المسجد ذلك الحال من اقتصار الاهتمام بعِلميْنِ أو ثلاثة علوم فقط ضعُفتْ ملكته العلمية الشخصية في بقية العلوم المساعِدة كالأصول والقواعد والمصطلح وعلوم القرآن والنحو والصرف وبقية علوم اللغة وهي مهمة لطالب العلم جدا، حيث إنَّ الذي يروم علمَ التوحيد والفقه لابد له من علوم مساعدة وهي علوم الآلة من لغة وأصول ومصطلح .. ولابد له في فهم كل علم من هذه العلوم المساعدة نفسِها أن يُشرِف على مهمات بقية العلوم ..فالعلوم والفنون بعضها آخذٌ بِرِقاب بعضٍ، والتخصص لا ينفع إلا بعد أن يضرب الطالب في كل فن بسهم ويأخذَ حظا وافرا من كل فن، ويتصورَ حدودَه وتقاسيمَه، ويدرك مهماتِه وقواعدَه ولبِناتِه ..

والحق أن هذا الاقتصار على علمي التوحيد والفقه ليس قصورا في ذاته، وأنَّ انحصار ملكة الإمام العلمية وضمورَها ليس راجعا لاقتصاره على درس في التوحيد ودرس في الفقه فقط، كلا. بل معه سبب آخر وهو أنَّ إمام المسجد غالبا ما يَقصُرُ بحثُه ومراجعته أثناء تحضير الدرس، فالنمط الذي يسود على كثير من الإخوةِ أئمةِ المساجد في كيفية تحضير الدرس هو الذي يؤثر سلبا _ في الحقيقة _على ملكة الإمام العلمية..

وهذا النمط غيرُ الصحيح هو أن الإمام لا يجلس للجمع والتحضير إلا قبيل موعد إلقاء الدرس، فلا يأخذ إلا نُتفا من هنا وهناك لأجل ما سيقوله للحاضرين، فلا يكفيه الوقت للوصول إلى أُمَّاتِ كتب التفسير، ولا إلى أمّات شروح كتب الحديث والسنة المطولات، ولا إلى المصادر العالية في الفقه وأصوله والحديث وأصوله وهلم جرا .

وقد يقال هنا في الاستفادة من الدروس الجاهزة من دروس غيره من المشايخ نفسُ ما قيل في تحضير الخطبة من حيث الاعتماد الكلي على الغير وترك ذلك.

ويقال في كلا الموضعين (الخطبة والدرس) لا بأس بعد التحضير الشخصي والجمع لمادة الدرس أو الخطبة  بأن تنظر فيما قيل في الموضوع للاستفادة من بعض الملاحظات والمآخذ .

الوقفة الثالثة:

ومن أسباب ضعف ملكة الإمام العلمية اعتماده على إلقاء الدروس المتفرقة وجعل ذلك نمطا مستمرا عنده في المسجد، والدروس المتفرقة لا تبني _ في الغالب_ ملكة علمية قوية.. بل تضعفها إذا اقتصر عليها إمام المسجد واستمر على ذلك لسنوات عديدة،...

نعم، لا بأس بتخول الناس بدرس في موضوع معين أو حتى بجعله راتبا كل أسبوع أو أسبوعين .. بل له نفع طيب  للإمام وللحاضرين من المصلّين..

لكن على إمام المسجد ألا يهمل الأصلح له وللعامة وهو أن يختار لهم في كل فن ( توحيد، فقه، تفسير، سيرة) كتابا مختصرا أو متنا يشرحه لهم، ثم يترقّى إلى كتاب أعلى منه ثم إلى أعلى منهما وهكذا ..

وإن شاء اعتمد شرحا معينا يراه مناسبا لمدارك العامة من الحضور، في حين ينظر هو خلال تحضيره قبل الدرس في أكثر من شرح لعبارات لذلك الكتاب أو المتن ويلخّص ما يراه مهما له ونافعا لخاصة نفسه، ثم يلقي على الناس من الحاضرين ما يفيدهم وما يحتاجون إليه من المسائل وما يفهمونه منها بقدْر حالهم. ويحتفظ هو بتأصيل المسائل ونِكاتِها له لأنه محتاج إليها في غير ذلك المقام أعني في بنائه العلمي.

فمن أسباب ضعف ملكة الإمام العلمية اقتصارُه في التحضير على ما سيُلقيه على العامة مراعيا مداركَهم فحسْب، أو الاكتفاء بالقراءة من الكتاب المقرر فقط،

وهذا مع مرور الزمن في الإمامة لا يقوى به علم الإمام وإنما يضعف ..

والأكمل كما سبق أن يُحَضِّرَ درسَه بتوسعٍ قراءةً ونظرا في المطولات، ويدوّن من الفوائد التي يقف عليها على دفتره، ثم ينتقي ويختار مما قرأ وجمع ما يناسب حال العامة من أهل مسجده، وعلى هذا يمكن أن يقال إنّ:

_ التحضير : يكون له بالدرجة الأولى ، وللعامة بالدرجة الثانية.

_ والإلقاء : يكون لهم بالدرجة الأولى حسَب مستواهم مراعيا مدارِكَهم، وبدرجة ثانية تحصل به مذاكرة الإمام لأساسيات ومهمات موضوعه، خاصة إذا حفظ درسه وألقاه كلَّه عن ظهر قلب، ولو اكتفى بوضع نقاط أمامه أثناء الإلقاء للتذكر ولئلا ينِدّ به الكلام عن المقصود فلا بأس.

فالإلقاء مع الحفظ للدرس مفيد جدا في حفظ العلم ونموه واتساعه، وإن لم يستطع الحفظ لضيق الوقت أو لعذر آخر فلا أقل من أن يحفظ الأحاديث التي سيستشهد بها في درسه، لابد من ذلك، وأؤكد عليه .. مع شيء من النقول وأقوال العلماء شرحا لتلك الأحاديث والآثار وما يتبع ذلك من قواعد إن وُجدت... مع الوقت يجد نفسه قد حفظ شيئا كثيرا من السنة النبوية وقواعد العلم..

ويبقى دائما تأخر الإمام في الشروع في تحضير درسه عائقا عن الاستفادة والتوسع، وعائقا عن حفظ درسه أو مهمات درسه .. فالذي يجلس للتحضير قبيل الموعد لن يستطيع مراجعة ما كتب أحيانا فأنى له الحفظ ؟! .

الوقفة الرابعة:

طرق إحياء الملكة العلمية لدى إمام المسجد واستذكار ما استفاده من العلوم في أول طريقه في العلم مما أخذه عنه الأشياخ وسبُل تنميتها كثيرة، ويأتي في مقدماتها:

1_ المحافظة على دروس العلم، والمواظبة على حلقاته عند العلماء والمشايخ، فيختار له فنا أو اثنين أو ثلاثة فنون، حسَب قدرته وباعِه، واستعداداته ومداركه، لا ينقطع عن الدروس ولا يتخلف عنها إلا لعذر .

وحسَب ما يتاح له من الوقت مما لا يخل بأداء مهامه إماما للمسجد، وفي إطار ما يسمح له به من جهة إدارته الوصية.

2_ ومنها اغتنام الدورات العلمية المقامة في كتاب معين أو في باب معين من كتاب معين، لتجديد نَفَسِه وبعْثِ همّته ونشاطه ... مع الحرص في ذلك كله على المذاكرة والمتابعة والتفهم ..

وهذا الأمر متاح اليوم حتى لمن لم يتسنَّ له الحضور الشخصي للدورة العلمية، فالبث المباشر مفيد جدا، ويعده بعض الفضلاء حضورا حكميًّا من جهة الفضل لمن حالَ دون حضوره الدرس عذرٌ شرعي.

يعقد إمام المسجد العزمَ على الاستماع ويُفَرِّغَ نفسه لذلك، ويُعِدَّ دفترَه وأقلامَه ومجلسَه ويؤجل ارتباطاته ويقطع أشغالَه مسبقا كأنه مِن ضمن الحاضرين حقيقة عند الشيخ في الدورة العلمية.

ويستمع ويدوّن ويستمر إلى نهاية الدورة ... ولو فاته شيء استدرك الفوْتَ بعد الدرس من التسجيل ولا يؤجله حتى يصلَ الدرسُ الذي يليه...

وهذا والله مفيد جدا بل بعض من يستمع إلى البث يكون أكثر فائدة علمية (من حيث هي فائدة علمية مجردة عن بقية المعاني كشهود السمت وشرف المجالسة .. الخ ) مِن كثيرٍ مِن الحاضرين عند الشيخ و(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء )، وما يدركه هذا من كلام الشيخ غير ما يدركه ذاك، والناس قرائح وفُهوم ( فسالت أودية بقدَرها) ، ولا يفوت على المستمعِ للبث إلا أجرُ المجالسة الحقيقية، وكذا لا يحصّل ما لها من خصوصيةِ سمتِ الشيخ وهدْيه ودَلِّه وأدبه، وبركة المجلس، وشرفِ المجالسة للعلماء والأشياخ، وقد عدَّ بعض العلماء المستمعَ للبث المعذورَ في غيابه عن الدرس والحاضرَ له سواءً في الأجر، بل إن الجزم باستوائهما في الأجر أقرب من جهة أخرى وهي جهة النية ( إن بالمدينة أقواما .... حبَسَهُمُ العذرُ) 

و( إنما الأعمال بالنيات ) . 

وليس المقام مقام مقارنة بين الحضور عند الأشياخ واستماع البث المباشر، أبدا، ولا هو تزهيد في الحضور عندهم، كلا وحاشا بل بين المنزلتَيْنِ مفاوزُ وبَوْنٌ لا يحصى، ولكن الكلام متوجه لحثّ العاجز عن الحضور تماما، وشحذِ همته، فلا يقولُ مادمتُ لا أستطيع الحضور فلن أتعلم ولن أدرس ولن أستفيد، لذلك دللتُه على سبيلٍ للاستفادة مِن درسٍ عجزَ عن حضوره لعذرٍ قام به . وما لا يدرك كله لا يترك كله !! ولا أقول لا يترك جله ! .

الوقفة الخامسة: وفيها فروع :

ومن طرق إحياء الملكة عند الإمام خاصة لمن لا يسعه الحضور لمجالس العلم والدروس بصفة دائمة مستمرة وتعذَّر عليه ذلك، اغتنام تحضيره للدروس في تقييد فوائد العلم ومسائله والطريق المقترح لذلك له فروع :

الفرع الأول : في الفقه وأصوله وقواعده :

إمام المسجد وهو يُحضّر درسا في الفقه مثلا سواء من كتب الفروع، أو من كتب أحاديث الأحكام، فوقف على قاعدة فقهية، أو بحث أصولي كمباحث القياس، أو التعارض والترجيح بين الأدلة، أو النسخ أو الدلالات كما في مباحث الإطلاق والتقييد، أوالعموم والخصوص .. وغيرها، فليرجع إلى سالفِ عهده من البحث والاستفادة والتمحيص والنظر، ولْيفتح لها كتبَ الأصول ولينثر لها الدواوين مصادرَ ومراجعَ، وهي معروفة ومعلومة لديه عِلْمًا يغنيه عن ذكرها هنا، ولينظر فيها نظر تحقيق وبحث وتدقيق ما أمكنه ذلك، ويحررها على ورق ولو مُسَوَّدَة، ليرجعَ إليها عند الحاجة وعند سعة الوقت .

الفرع الثاني: في علوم القرآن :

إمام المسجد وهو يحضر خطبة أو درسا في السيرة النبوية مثلا أو غيرها ومرت به آية أشكل عليه فهمُها أو سببُ نزولها أوكلمة فيها قراءات أو روايات أو طرق أو أوجه وتحريرات مختلفة أو غير ذلك مما يتعلق بها من علوم القرآن، فلْيجمعْ لها أمّات كتب علوم القرآن من تفسير وأسباب نزول وقراءات وغيرها، ويجمع كلام أئمة الشأن من كلام المفسرين سلفا وخلفا ويقارن بينها مستفيدا من ترجيحات أئمة التحقيق في هذا الفن فإنه يخرج بفائدة كبيرة جدا .

الفرع الثالث: في الحديث وعلومه دراية ورواية :

وهكذا إذا مر به حديث أشكل عليه معناه، أو رأى أن العلماء بسطوا القول عليه، وخرّجوا عليه مسائل كثيرة مهمة؛ فلا يتجاوزْه حتى يُشرِف على مهمات ما زَبَرَهُ الشراحُ حوله في شروح كتب السنة، وهي معروفة متداولة شهرتها تغني عن تَعدادِها وذِكرها ..

وكذا لو أشكلتْ عليه درجة حديثٍ نبوي أو أثر سلفيٍّ قَبولا وردًّا، فليراجع عليه كتب المصطلح والتخريج والعلل والتراجم والطبقات، مستعينا في ذلك بالنظر والتأمل في بحوث الأئمة أئمةِ هذا الشأن كالألباني وابن باز والوادعي .. والسخاوي وابن حجر والعراقي وابن الصلاح والنووي والبيهقي والدارقطني والبخاري والترمذي ..وغيرهم رحم الله الجميع.

الفرع الرابع : في اللغة وعلومها :

وكذا لو كان يحضر درسا فقهيا أو وعظيًّا أو غيرَه فمرَّتْ به مسألةٌ من مسائل اللغة؛ نحويةً كانت أو صرفيةً أو بلاغية.. أو غيرها من علوم اللغة التي تزيد عن أحد عشر علما، فليقف عندها وليجعل منها فرصة لمذاكرة شيء من  مسائل هذا الفن ولْيَسْتَدْعِ لها كتب العلامة ابن عثيمين والكفراوي والصبّان وكتب ابن هشام وكتب ابن مالك، وما كتبه الشراح حول خلاصته الألفية، وما كتبه سيبويه والخليل .. وليقرب منه لسان العرب والقاموس المحيط وتاج العروس ومعجم المقاييس ولْيُقَلِّبْ ولْيتفحَّصْ ولينظر ويتأمل ... ويدوِّنُ خلاصةَ ما وصل إليه على دفتره ...

بهذا وغيره يطرد إمام المسجد عن نفسه الكسل والخمول في العلم الذي قد يصيبه، ويجدِّد نفَسَه العلميَّ ويُذْكِي ملكتَه في فنون العلم من تفسير وعلوم القرآن وأصول فقه وحديث ومصطلح .. ويستذكر مصطلحاتِ تلك العلوم وأصولَها وتقاسيمَها ..فلا تتفلّت منه مع مرور الزمن واستغراقه في الوعظ ..

إلماحة :

إذا استمر الإمام على هذا العمل ودأب عليه وصبر ضمِن نشاطَه ونَمَتْ عنده ملَكَتانِ وقَوِيتَا :

_ أولاهما : مَلَكَةُ البحث العلمي والتحقيق، بحيث لو استمر في البحث وذاق حلاوته واظب عليه، وصار أكثرَ وقته بين الكتب، وربما انعكست عنده القضية، فبعد أن كان يجلس أصالة لتحضير درس أو خطبة ويبحث بحثا خفيفا في ثنايا التحضير ويقيد منه فوائد تمرُّ به، يصبح باحثا مستمرا فيُحَضِّرُ درسه ويختار مادةَ درسِه مما بحَثَه واستفادَه، فيصيرُ البحثُ أصلا والتحضيرُ تابعا .

_ وثانيتهما : نموُّ ملكةِ العلومِ المساعدة والمساندة واستمرارُها حاضرةً في قلبه بالقوة أو بالقوة القريبة؛ كالأصول ومهمات علوم القرآن والمصطلح والنحو .. فلم تندثر عنده مع مرور الزمن ..لأنه _ وبالتجربة _ هذه العلوم وغيرُها هي  مما يُنسى مع الوقت إذا لم تُستَذكَرْ أصولُها إما بالأخذ عن الأشياخ، وإما بالبحث المتواصل والنظر، وإما بالتدريس.

ولو قلَّ نصيب الإمام من البحث وبقي على ذلك سنوات طويلة أوشكَ أن يصيرَ شبه عاميٍّ فيما كان يحسنُه أول أمرِه وفي مبتدئه في طلب العلم ..

وشرطُ ذلك كلِّه : أمرانِ أساسيان:

أحدهما: 

ألّا يعتمد في تحضير دروسه وخطبه على المكتبات الإلكترونية اعتمادا كليا، ولا من البحوث الجاهزة في الشبكة العنكبوتية، فإنه إن فعل كانت نهايةُ أمرِه اندثارَ علمه الذي بذل له وقتا وجهدا في أول مشواره ..والعبرة بالخواتيم، فقد ينتهي مقلدا بعد أن كان متبعا ..

والعلم معرفة الهدى بدليله .. ما ذاك والتقليد مستويان

  / نونية ابن القيم رحمه الله.

وإذا أراد اجتناب التحضير من الشاملة والوقفية والنت .. فلابد :

أولا : أن يكون في متناول إمام المسجد مكتبة متكاملة في مختلف العلوم .. ليس شرطا أن تزخر بكل مصدرٍ ومرجعٍ، ولكن عليه أن يُحسن اختيارَ الكتب وانتقاءَها، فيضع مِن كل فن أحسنَه كتبا وأنفعه مراجع.. ولا بأس بالاستعارة عند الحاجة إلى الكتاب .

وثانيا : أن يجلس للتحضير قبل موعد الدرس بما لا يقل عن ساعتين، وله أن يزيد ما شاء، ويحتاج للخطبة يومين على الأقل، بعد اختيار موضوعها ويزيد ما شاء.

والأمر الآخرُ :

أن يَعلَم أنّ أساسَ نيلِ المُرادات وآخِيةَ تحصيلِ المطلوبات هو الصبرُ،

فمَن صبر وصابر وتصبّر أدرك كثيرا مما يروم،

ومَن صبر قليلا حصّل قليلا،

ومن لم يصبر لم يحصل،

والقاعدة أن الأحكام المعلَّقةَ على أوصافٍ؛ يكون حصول الأحكام فيها بقدْر تحصيل تلك الأوصاف، فمن كمّل الوصف تم له الحكم وتحقق،

ومَن نقَص مِن الوصف نقص له من الحكم بحسَبه.

وهكذا من حقق أعلى مراتب الصبر تحقق له كمال المراد، ومن نقص من مقام الصبر دخل عليه النقص في مراده بحسَبه.

هذا وجميع ما تقدم ذكره إنما هو خطة مقترحة للجمع بين القيام بمهام الإمامة والمواصلة في البناء العلمي 

وهذا لا يغني الإمام عن القراءة الخاصة في متون العلم بجميع فنونه، سواء قراءة فردية خاصةً في بيته بعد استشارة شيخ في المتن المقروء، أو قراءة على شيخ، أو قراءة جماعية مع الزملاء من طلبة العلم 

فيواصل الإمام تدرجه في المتون والفنون؛ سواء قراءة في متن جديد، أم تكرار لمتون سبقت له قراءتها؛ فيكررها لترسخ في قلبه ...

وبالله التوفيق والسداد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتب هذه الأسطر مَن يرجو اللهَ ربَّه أن يصلح سريرته

يوم 25 جمادى الآخرة 1441

19 فبراير 2020.



   نشر في 18 يونيو 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا