تقليب النرد فيما يخص الفكر واليد - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تقليب النرد فيما يخص الفكر واليد

حوار فلسفي لمحاولة فهم فلسفة قولتتين فلسفيتين

  نشر في 05 ماي 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

"فلتسامحني أولا، وتأكد من أنك سامحتني مسبقا لما سيحل بك لاحقا" كلمات قلتها لصاحبي، فأمطرني بنظرات متوجسة تحملق علّها تجد منطقا في ما يدور حولها، لم تجده على ما أظن فما خلت سبيلها إلا بالتسليم، وقال لي صاحبي "قد سامحتك، فلـتقل ما عندك" قالها وبدا التحدي ظاهرا على محياه والحماس يخترق عيناه، فَـرَاقَ لي الأمر وتقدمت في طرحي قائلا "لا يختلف عاقلان على أنك ذات واعية تفكر" قال "لا شك في ذلك" فقلت "ولا يختلف بيولوجي وفيزيائي على أنك ذات بيولوجية تتمتع بوجود فيزيائي ملموس" أشار برأسه موافقا فأكملت "إذن، فلتقل لي بما أنك كائن له يد، ما الذي يربطها بتفكيرك؟" لمحت بين حاجبيه عقالا يُظهِرُ مدى استغرابه للأمر فوضحت - قائلا - قبل استفهامه عن مقصدي "لنفرض أنك عاصرت فيلسوفا يطلق عليه أنكسيغوراس وسمعته يوما يقول : "الإنسان يفكر لأن له يد" .. ما كان ليكون رد فعلك ؟" نظر إلي صاحبي وقال "ما كنت لأقول شيئا، لأني لا أملك شيئا لأقوله أصلا" قلت "كفاك تقاعسا وشغل عقلك قليلا معي، لنفرض الآن أنك عاصرت أرسطو وسمعته يقول : "للإنسان يد لأنه يفكر" ما كان لك أن تقول ؟ ولتفكر قليلا قبل أن تقول ما كان بإمكاني شيئا لأقوله" وبالفعل أخذ صاحبي وقتا يفكر فيه يقلب أعينه في اتجاهات مختلفة ويجعل من يده وسادة لجمجمته، وقاطعته تركيزه فجأة وقلت مستفهما "ما الذي يجعلك تتخذ هذه الوضعية ؟ أي أنك تجعل من يدك سندا لرأسك ؟ لست بمفردك، فكامل البشر وأغلب الفلاسفة والمفكرين يمثلون هكذا وضعية أثناء اقتطافات لهم؟" قال لي – وقد عرف مقصدي – "الأغلب للصواب أنها تدليل على فعل التفكير، إذا لم تكن توهيما له وتصنعا به. وربما – علي سبيل المزاح – هي سند بالفعل لرأس يحمل مخا يلعب دور الأساس البيولوجي لعقل مجرد يثقل كاهله فيمارس ضغطا يجعل الجمجمة في حاجة لمتكئ تستند عليه أثناء ممارسة العقل لفعل التفكير. وهنا تحدث المفارقة المفترضة، لأنها أصلا نابعة من تلك الفرضية الغبية ومن ذاك التدليل الساذج. والناس تفكر بدون يد، كما أفكر الآن فيما أقول ويداي مرتاحتان في جيبي تلتمس حرارة في هذا البرودة. كما أنك لن تتوقع من سارق أمامك - محط أعينه جيب نقودك – أن يفكر كيف يقوم بمراوغته حتى يتمكن منك وهو يشهر يده ويُبْدِي وضعيته المريبة تلك وسط حشد من الناس يتصرف بشكل عاد." وهنا راق لي مزاج صديقي ودقة تحليله، فعلمت أني حقق مبتغاي من جعله يتحمس ويمحص النظر فيما يجري أمامه. فحييته تحية عسكرية متبوعة بأخرى نضالية وسلمت عليه سلام المسلمين واستودعته الله وأنا أقول له "ليكن موعدنا غذا، وإذا لو نتوصل لمقصد الفيلسوفين اليوم، غذا سنصل بإذن الله. فقط احرص على أن تفكر عميقا في الموضوع لكي نقارع حججنا غذا" فبَارَكَ القضية وافترق السبيل.

"سلام عليك يا صاحبي، وعليكم السلام يا أخ العرب" تحية بيننا نحن الرفاق، فكلانا كان مهووسا بالمعرفة، فكما كان صاحبي يحب مطالعة تاريخ العرب، كنت أنا شغوفا بالفكر والفلسفة. وكلانا كان سيّدا في مجاله وبلقاءاتنا الدائمة، توسعت دائرة معارفنا بمنطق المشاركة.

نظرت لعيني صاحبي ولمست فيهما حس الحصافة فأدركت أن في الأمر شيئا، ووكلته للدهر كي يكشف عنه. ثم بادرني بالسؤال "ما في جعبتك اليوم يا صاحبي؟" ردّيت "لتكشف لنا أنت أولا" قال "لا والله أنا من بادرت فلا تطمس نور فكرك وأدلي لنا بما يملأ دلوك" قلت "مرحبا بأخ العرب، ما مرادك اليوم ؟ استرسال لما جرى بالأمس عن يد وتفكير؟ أم فتح نقاش جديد عن التفكير والتغيير؟" قلت كلماتي وإذا بي أرى حذقتا عيني صاحبي وسع قطرها كأنما سمع شيئا غريبا عليه، فتجاهلت الأمر منتظرا رده حتى قال "نسترسل ما مضى" أومأت بطأطأة رأسي موافقا لما جرى واستهلّيت قولي "من الله ألقي عليكم أفضل السلام، أحييكم تحية الأناس الكرام، وأقول لكم من خالص قلبي وطيب خاطري: أتمنى أن تكونوا بخير ما يرام" قاطعني ضاحكا "وكأنك تلقي محاضرة يا صاحبي، تواضع معنا، فلا نصل لمقام يجعلنا نصاولك في فهم بليغك من الكلام، يُخيَّل إلي أنك أعرابي تلوك لسانك فتجود بكلام فصيح كأنك من أهل الحجاز أو من أرض الأهرام" قهقهت ضاحكا وأعجبني الحوار فتقدمت فيه متحديا "فكما تعلمون أيها القوم، استوقفنا نقاشنا بالأمس عن مسألة تسبب وجع رأس. مسألة عن علاقة من فكر بيده، ونحن نحاول نقد فعله. فأصل الإشكالية فيلسوفان قديمان نظّرا بدون توضيح وهدفنا وراء ذلك تدقيق الفهم وممارسة ما أمكن من التصحيح" أعجبني رد فعل صاحبي والابتسامة المتألقة على محياه فاسترسلت في طرحي "وبما أننا لم نتمكن منها في ما مضى، أملنا فيما يمضي، وبعد أن تأكدنا من بلادة الطرح القائل بأن وسادة اليد دليل على ممارسة فعل التفكير، لابد من محاولة فهم جديدة تمكننا من استوعاب هاته المقولات الفريدة" قال "اتركك الآن من زخرفة الكلام، وآتنا بما أنعم الله عليك من الأفهام" قلت "أمرك طاعة يا أخ العرب" ثم عادت ارتسمت تلك الجدية على ملامحه وأقدمت في قولي "لابد وأنك تعرف سارتر؟" قال "ومن لا يعرفه، فيلسوف الوجودية من كرهت عبثيته وتأففت من غثيانه" أدهشني كلامه وقلت "وتعرف أيضا أنه صاحب مقولة: وجود الإنسان يسبق ماهيته؟" قال "آه أكيد" قلت "إذن لو أسقطنا هذا على إشكاليتنا وأعطينا لليد صفة الوجود وللتفكير صفة الماهية، ربما نتوصل لشيء. خصوصا وأن ديكارت عرف الإنسان بالفكر، والتفكير من الفكر، كما قال الكوجيطو: أنا أفكر، إذن أنا موجود. وهذا تدليل واضح على سبق الوجود عن فعل التفكير، فالوجود لا يُدرَك إلا بالتفكير، إذن يمكن أن يصح القول بأن الإنسان يفكر لأن له يد كما قال أنكسيغوراس .. فلو لم يكن يتمتع بوجود متجسد في جسد متكامل النظام دقيق الإحكام، ما كان ليفكر أو ليفكر في التفكير أصلا، لأن آليات التفكير تقتسم لجزئيين، أحدهما مجرد لا يمكن إثبات وجوده إلا بآثاره، والآخر هيكلي - متمثل في المخ - بدونه ما كان للعقل أن يمارس حقه وواجبه" لفتُ نظر صاحبي وأكمَلَ عليَّ قولي "نعم أصبت، فالإنسان لم يكن مخيرا في مولده أو مقاييس جسمه قبل وجوده، لذلك فالقول بأن له يد لأنه فكر فيها وفكر في شكلها قول يشوبه خلل على قد فهمي. وحتى إن جاز القول ولُزمنا بأن قول أرسطو صائب في هذه المسألة، لا يمكن إسقاطه إلا على عالِـم فقد يده في أحوال الدهر فاجتهد لنفسه وتمكن من ابتكار يد آلية مستغلا معارفه، فقاسها على قده وبمتمنياته، هنا كان الإسقاط سالما، لأنه فكر في يده قبل أن يوجدها، وحسب له إنجازه بأن تحكم في وجوده" قلت "نعم، قدمتَ مثالا مثاليا، وما نعرفه عن طبيعتنا أن وجودنا سبق وعينا، وهذا لا يخدم الطرح الأرسطي في زمانه" قال ساخرا "دعنا نعلي من شأنه، فلأرسطو على البشرية كبير الفضل بأن سطر لها منطقا جعلها تميز بين الخرافة وما سواها" قلت "حسنا، هذا ما في جعبتي، ماذا عن خابيتك؟"

قال وهو يتنحنح "كما تعلم يا صاحبي، فأنا أعشق دراسة التاريخ، وبالخصوص تاريخ العرب" أومأت برأسي موافقا له ثم استرسل "وربما تعلم عن ما تمناه العرب لأربعة عشر قرنا" قلت "ماذا؟ بلوغ الحق المطلق؟" قال ضاحكا "هذه أمنية البشرية أكملها من الأزلية إلى الأبدية. ماذا بخصوص العرب بالذات؟" قلت "لا أعلم، قلي أن يا أخ العرب" قال ساخرا "علم نافع يعمل به" صُدمت وكأني أسمع كلاما غريبا علي وما هو إلا دعوة رددناها بدون تيقن في صلواتنا، وبدون إحساس ندعو بها ربنا وهول قصدها يغيب عن إدراكنا. ثم قلت "نعم أصبت، والله كم أشذ غفلتنا" فقال "لربما فهمت قصدي" أومأت برأسي وقلت "نعم، نعم، أكمل طرحك" وقال "بما أنك أدركت أن هذه القولة تشمل مفهومين ضخمين: مفهوم العلم ومفهوم العمل أو الشغل، فإذا أمكن ربط هذين المفهومين بطريقة ما مع طرحي الفيلسوفين، جاز ربط التفكير بالعلم أو بمسببه، وأمكن تمثل اليد برمز عمل ما يجعلنا نربطها بالعمل أو بآليته. وهنا تعاد صياغة الإشكالية وتصبح كالآتي: الإنسان يعمل لأنه يفكر، أو يفكر لأنه يعمل .. وهنا تتشعب الطرق لبلوغ الأفق. فآت ما عندك يا صاحبي وشغلّي منطقك" فضحكت ضحكة خفيفة وبدأت كلامي متحمسا "ولما لا يا أخ العرب؟ فقط يجب أن ننتبه لصياغة الطرح ونحوه، فكل صيغة تتحمل أوجها عدة للشرح" قال "صغ ما تشاء وكما تشاء" قلت "إن جاز تصريف القولة، فينبغي لها أن تكون كما يأتي : هل الإنسان فكر بمجرد أن باشر العمل ؟ أم أنه عمل بمجرد أن فكر ؟" قال باسما "ممتاز، أكمل شرحك" قلت منتهزا "أي شرح سأكمل؟ الفكرة وصلت، فلتشرحها إذن، فأنت صاحبها" فقال "سمعا وطاعة، أما بخصوص سبق التفكير عن العمل، فالشأن يختلف حسب تعريف التفكير وموضوعه.

فإذا قلنا أن التفكير تدليل على الوعي فقط. والوعي إحساس ومسؤولية، وجزما لن يكون العمل بوعي كالعمل دونه. فالعبد من يعي معنى الحرية وقيمتها، لا يستوي مع الذي يظن العبودية حريته وقدره الأبدي. لربما تجد الأول يعمل ويكن الحقد وينوي الغدر لسيده، بينما تجد الآخر يخدم سيده بكل طاعة ورضى ويحس بأن ذاك واجبه، حتى وإن كان سيده يعامله بقسوة. بينما تجد الأول الذي يدرك معنى الحرية لا يتنازل عن مطلبه وإن كان سيده يأبى إلا أن يعامله بمطلق الإحسان والرحمة، لأن إدراكه بما هو مسلوب منه لا يقارن بما هو ممنوح له. ولو سبق اطلاعك على قصة وحشي في رواية "قاتل حمزة" لأدركت بيت القصيد.

أما إن عرفنا التفكير كآلية للتخطيط فلنا هنا قولان يختلفان باختلاف الشغل:

فإن قلنا أن الشغل يستلزم تخطيطا مسبقا، - كدراسة سوق مثلا لأجل تأسيس مقاولة، أو تحديد خطوات هدف معين لأجل تحقيقه، أو التفكير فيما أقول لك قبل أن أقوله، أو فيما أكتب قبل أن أكتبه، أو على الأقل محاولة إيجاد أسهل الطرق لسرقة جيب عجوز قبل سرقته. – جاز القول بأسبقية التفكير عن العمل وحُسبت نقطة لأرسطو لأنه القائل "للإنسان يد لأنه يفكر" فلو لم يفكر في عمله ما كان ليقوم به، وهذا ساقط بالنسبة للعمل الفوضوي الذي يترك للقدر حق تقدير مسائله.

وإن قلنا أن الشغل لا يتطلب تفكيرا أو تخطيطا قبل القيام به، تعادل الفيلسوفان. قاطعته قائلا "نعم أصبت، وكمثال على ذلك، طالب يجتاز امتحانا والوقت غلبه، فإذا به يفكر ويخطط ما أسهل الطرق وأنجعها ليحصد نقاطا، فتجده تارة يتجاوز هاته لصعوبتها، ويتجاهل الأخرى لاستحالتها، ويسرع في هذه لسهولتها. وكل هذا في إطار هدف مبلغه اختصار الوقت ولقط النقاط." قال "هو كذلك، وأيضا عندما تراه يحملق في من حوله راجيا وَحْيًا، فإما ينزل عليه من أحد أصحابه، أو يسقط على رأسه كالحجارة من مراقبه" قهقهت ضاحكا واسترسل في قوله "دعنا من الهزل الآن، ولنسقط قضيتنا على عصر من خلقوها. فالأغلب للقول أن المهن وقتئذ كانت تحتمل الخيارين، وربما اختلطا في واحدة. فالفلاح من خطط لحرث أرضه اليوم وإذا به يجد صعوبة بسبب غياب أحد معاوينه، تراه يبحث عن آخر وكل هذا في إطار تخطيط ثان لحق التخطيط الأول بعد أن حدثت عراقيل. لكن الأرجح أن التفكير بعد العمل لا يحصل إلا في حالات التحايل وما يقاربها.

قلت بعد توقفه "هذا ما لديك؟" قال "بارك الله في ذلك" قلت "أغفلت أمرا مهما" قال مستغربا "ما هو؟" قلت "قضية اللاوعي" قال مستفهما "هذا ليس من أطروحتي، وإن أدليتَ به، حُسب لك، لا علي" قلت "حسنا، إن ما يظهر لي أن قضية ردود الأفعال اللاإرادية أمر فيه الكثير حتى يقال، فـنَصِيحُ حين نخاف فجأة، أو نهرب إذا أدركنا الخطر صدمة، أو نلزم وضعية الدفاع عن النفس حمية، وعديد من الأمور مصدرها الفطرة أو غريزة البقاء، فهي من تجعلنا نقوم بكذا أفعال وأفعال، لنظل في الجانب المؤَمّن من الحياة. وإن تريثنا قليلا حتى نفكر بذكاء، كان الذكاء أن ندع الغريزة تقوم بشغلها." قال مكملا "وكذلك الحدس، فهو يتأسس على مثل هاته الحالات الضيقة، ولا يكون هنالك وقت للتفكير حينئذ، فيقوم اللاوعيُ بدوره ويَتركُ الوعيَ يدرِكُ الأمر بعد فوات الأوان"



  • 10

   نشر في 05 ماي 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

مقال غني فلسفيا واسلوب متميز في السرد و النقاش
شكرا خالد
0
M.Logos منذ 9 سنة
موضوعك جميل جداً, بالرغم من ان الافكار فيه عميقة جداً وقد يستصعب فهمها , لكن بطرحك الرهيب وصلت الافكار بشكل واضح وسلس.
بوركت.
0
Khalid Freikech
شكرا لك أخي الكريم ولتعليقك القويم. حياك الله

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا