إن الروح مفهوم خالد، متجاوز للحس والمادة وعالم المتغيرات، فهو كامن في نفوسنا وفى الحياة والوجود، وهو أيضا مفهوم كامن فى الكلمة، أو يمكن القول إن الكلمة بحد ذاتها هى الروح.
فى قوله تعالى: { وعلم آدم الأسماء كلها } قول له دلالاته ومعناه، فالإسم ليس منفصلا عن المسمى وليس اللفظ بخارج عن موضوعه، فالموضوع ليس له معنى لوجوده إلا بالإسم، فاللفظ ليس مجرد تعريف للشئ بل هو خلق لهويته وتصنيف لوجوده، وإلا يصبح الشئ بدون إسمه مجرد ظواهر كمية وحالات فردانية غير محددة أو معرفة، ففى تماثل الألفاظ مع الموضوعات، تجرد الكلمة ظواهر الوجود من حالتها المتغيرة والمتداخلة وتخلدها فى عالم من الصور الذهنية كصور أفلاطون .
إن أصل الكلام هو صرخة إنفعالية ولاإرادية، تعبير عن حالاتنا وإحتياجاتنا المتغيرة وتفاعلا مع موضوعات المحيط الخارجى، لتتحول تلك الصرخة الأولى إلى عادة نتيجة التكرار، فتصبح كلمة لها إستقلالها الخارجي والموضوعي متفق على مدلولها بين جماعة من البشر، و الكلمة الأولى بسيطة وغير مركبة، مكونة من حرفين أو ثلاثة، ولعل كلمة أب أو أم مثال على هذا، فالأب و الأم هما أول من يتفاعل معهما الطفل فى المراحل الأولى لوجوده، فكلمة بسيطة مكونة من حرفين كأب و أم ناتجة من رغبة الطفل فى التعبير عن حالته و اندهاشه بكلمات بسيطة سهلة الحفظ و التعلم. ومع تعدد الموضوعات وتجاربنا الخارجية، تتعدد المصطلحات والتعابير، وبما أن موضوعات عالمنا غير مستقلة عن بعضها البعض، فهى مترابطة إرتباطا سببيا ومشتركة فى عناصر تكوينها، كذاك صناعة الألفاظ ليست مستقلة عن بعضها البعض، فمن أجل أن نعبر بمصطلح جديد عن تجربة جديدة أو موضوع جديد، نحتاج إلى مرجع من الألفاظ و الدلالات التى نعرفها مسبقا لتعريف الموضوع الجديد، وبالتالي تصبح عملية صناعة اللغة، عملية إشتقاقية، فمدلول اللفظ القديم إذا تشابه مع مدلول جديد غير معرف، يشتق اللفظ الجديد من اللفظ القديم، المتشابهان فى مدلولهما.
يصبح المجاز هنا عملية ضرورية فى صناعة اللغة، فالمجاز معرفة إستنتاجية من الممارسة الإعتيادية للغة، فوصف مدلول بدال مغاير إستنادا إلى التشابه بين مدلول الدال و المدلول الموصوف، عملية لغوية نتيجة لإفتقارنا إلى دال مناسب يعبر عن ما نريد أن نصفه بصورة تقريبية و مختصرة، ومع الوقت وبحكم العادة يتحول الدال القديم إلى إسم ملاصق للمدلول الجديد .
إن تعقيدات اللغة وتطورها لا تقتصر عن كونها أداة وظيفية للتواصل بين البشر بل كونها نابعة من رغبتنا المشتركة فى إضفاء معنى على مظاهر الوجود و تجاربنا الحياتية المشتركة، فلفظ (كان) فى تعبيره عن لحظة منتهية فى الماضي ورغم أن لحظة الحدث ولحظة القول، لحظتان منفصلتان فإن الكلام يخلد الماضى من خلال حلوله فيه، ومن هنا تنشأ ذاكرة تاريخية، فالتاريخ هو تخليد لحدث فى الماضى فى مكان زمان ومكان محدد ونقله من حالة وجود منتهي إلى وجود حاضر باستمرار فى صيغ الكلام.
وتختلف الذاكرة التاريخية المشتركة عن ذاكرة الشخصية للفرد، فكلاهما يعبر عن الماضى وكلاهما يحيل إلى صور ذهنية، ففى الذاكرة التاريخية تعبر الكلمة عن صور من الماضى يتفق فى مضمونها مع اختلاف فى تخيلها، فالكلمة هنا هى الوسيط الوحيد بين الحدث المنتهي والفرد المتخيل للحدث الذى لم يحضره، أما فى الذاكرة الشخصية فإن حياة الفرد وتجاربه الشخصية هو المكون الوحيد لتلك الذاكرة، فليس الكلمة بالضرورة هو الوسيط المباشر بين الحدث والصورة، فالأحداث اليومية تخلق إنطباعات وصور فى ذهن الفرد يختلف تأثيرها وفقا لحالات الفرد النفسية وتفاعله مع المحيط وأهمية الحدث ذاته، فبعض المواقف تخلق إنطباعات وصور يصعب التخلص منها حتى لو أراد صاحبها ذاك و بعض الصور الأخرى تظهر مشوشة و مبهمة حتى لو حاولنا تذكرها. وتشترك الذاكرة الشخصية للفرد مع الذاكرة التاريخية الجمعية في بعض الأحداث إن اختلف الاثنان فى تصورهما، مع حاجة الثانية إلى الكلمة كوسيط لتصورها، وفى حالة الذاكرة الشخصية، وبينما تعبر فيه الصور عن الحتمية الخارجية وتأثيره الجبري علينا، تعبر الذاكرة التاريخية عن الحرية الفردية وسيادة البشر على الأشياء من خلال اللغة.
تمثل الكلمة مضمون الوجود، والوجود لا يمثل إلا من خلال كلمة تعبر عنه، فالكلمة لا تمارس دور الوسيط بل الإنسان هو الذى يؤدي هذا الدور بين الوجود وتمثله فى الكلام، وإلا يصبح الوجود مجرد ظاهرة حسية خالية من ماهيتها المتعينة، والإنسان نفسه لا يستطيع إدراك ذاته إلا بالكلام، فماهية الإنسان مرتبطة بكونه حيوان ناطق، وإذا نظرنا للماهيات الأخرى للإنسان كونه كائن إجتماعي أو كائن عاقل أو كائن شاعري، فسوف نجد أنه لن يستطيع التعبير عن تلك الهويات إلا من خلال ممارسة الكلام، فإذا إعتبرنا تلك الهويات موجودة بالقوة فإنها تخرج من القوة إلى الفعل عن طريق الكلام، فالكلمة فى تماثلها مع ذواتنا و الوجود، تتسامى هى نفسها كفكرة، فتتماثل بذاتها مع فكرة متعالية أخرى وهى الروح.