الحياة الطيبة..أي وعد؟ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الحياة الطيبة..أي وعد؟

في فلسفة السعادة، والإشكال الأنطولوجي للسعادة.

  نشر في 22 يناير 2021 .

-أسطورة سيزيف، ومعاناة الإنسان

لقد افتتح الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو كتابه الماتع أسطورة سيزيف بتثبيت جوهر الفلسفة من زاوية وجودية بحتة بطرح تساؤل: هل نكمل، أم ننتحر؟

وهذا نابع عن إيمان الوجودية العميق بسقوط الإنسان، بحسب عبارة مارتن هيدغر، أي أن الإنسان أُسقط في هذا الوجود، بعشوائية، ولا توجد له خطة مرسومة، أو معانٍ مكنونة. وهو قبال هذا الوجود الذي لم يختر يومًا القدوم إليه، لذلك من حقه أن يتساءل بنفسٍ وجوديّ: هل تستحق الحياة بأن تُعاش؟ ثم

إن كانت تستحق، فهل من الممكن عيشها عيشة رضية هنية؟ هل يمكن أن نسحب بساط فردوس السماوات، وننزل ثريا الجنان، لدنيا الأرض هذه، ولثراها الممدود على مدى النظر؟

سؤال السعادة

لقد شغل سؤال الحياة السعيدة بال الفلاسفة في كل زمان، فمنهم من أقره وحدده (كأرسطو، وأفلاطون، وجان جاك روسو)، ومنهم من رفض السؤال من أصله وأنكر كل إمكان للسعادة (كشوبنهاور وأبي العلاء المعري، وإميل سيوران).

ويحكي لنا الفلاسفة اليونانيون والقدامى من المسلمين أن السعادة هي بضاعة ميتافزيقية، أُسها وأساسها: المعرفة. إن المعرفة هي الإشراق الغنوصي للفلاسفة القدامى، والحق أن المعرفة لذيذة، شهية، تبعث ألوان الابتهاج، ويرقص المرء على إثرها على ألحان عظيمة المعنى، غزيرة الوفرة من الحكمة والمتعة العقلية.

ولكن الحق أن هذه اللذة المزعومة محكورة على الخاصة، وقد أتعاظم فوق قدري، وأذهب لغير مقامي، فأقول ناقدًا: هؤلاء الفلاسفة لم يحددوا المعرفة كسر للسعادة إلا لأنها تسعدهم هم، أهل المعرفة، والعشق والوله والتوله بها، لا لأنها سر السعادة لكل امرئ وكل شخص على ظهر هذه المعمورة!

فالسعادة (كما سيأتي لاحقًا) مُشكل عميق، والحق أن النقاش حوله يبدأ من إمكان وجودها من الأصل أم لا.

وفي الحياة الطيبة أقوال كثيرة، نعرض منها اقتراح الفيلسوف أبيقور، والذي ذكر غير مرة أن الموت هو العقبة الوحيدة أمامنا للحياة الطيبة؛ فالموت هو قلق مزعج، وهم مقلق، يهدم لذات الإنسان، ويحوله إلى حيوان خائف وبائس. ولقد عالج أبيقور هذه العقبة بمعالجة معنى الموت في الذهن الإنساني؛ فالإنسان -على ما يبدو- لديه تصور خاطئ عن الموت، فهو يخاف منه باعتبار أنه حدث إيجابي ومجهول، أعني أنه إيجابي من ناحية الفعل. بينما هو -بحسب أبيقور- سلبي كل السلبية، فهو مجرد نوم أبدي فحسب. فلا معنى للخوف من شيء هو لا شيء بالأساس، فلست أنت هناك في الموت لتحزن على موتك، ولست هناك حتى تتعذب أو تتألم، فالموت ليس إلا نوما مريحا دائما، وإغماضة عين لا يقظة منها.

الدين والحياة الطيبة

ولقد تحدث النبي محمد (ص) في القرن السابع الميلادي عن ذلك بقوله بما معناه أن: الميت إما مستريح أو مستراح منه! فالصالح صاحب الفضيلة الأخلاقية هو المستريح، لأن الحياة شقاء بحسب المسيحية والإسلام، وأما صاحب الدنس الأخلاقي، المؤذي لإخوته في نادي الإنسانية، فهذا مستراح منه، استريح من أذيته وفجوره.

ولا يمكن إغفال الدين في مقال فلسفي عن الحياة الطيبة، فإن الدين -بجانب كونه ديناً- يقدم فلسفة ما للحياة، ونظرة كلية للعالم، الذات، والآخر. ولذلك فهو يشترك مع الفلسفة في شقها العملي، فلابد من التحليل الديني لمفهوم الحياة الطيبة.

يقول د. فتحي المسكيني -الفيلسوف التونسي القدير-: "السعادة مشكل وثني". وهذا يعني أنها مشكل لا يخصنا؛ فنحن لم نتعرض كأديان إبراهيمية -وخصوصًا المسيحية والإسلام- للسعادة، فليس ثمة سعادة هنا، وليس ثمة إلا بيت خشبي متهالك، يسكن فيه بنو آدم يومًا، ثم يرتحلون إلى ما بعده. فالسعادة في الثقافة الشرقية بأسرها، والأديان غير الوثنية، هي سعادة أخروية، لا دنيوية. والدين الإسلامي لا يعدك بأي سعادة هاهنا في هذه الدنيا، وقوله في القرآن: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)، فذاك -كما قال غير واحد من المفسرين- وعد له بالحياة الطيبة في الآخرة، لا هاهنا. ولا يفوتنا أن نعلق على كلمة "طيبة"، فهي لفظة باردة، لا توحي بسعادة عظمى، ونشوة كبرى، ولكن فقط طيبة.

وفي وصف الحياة يقول القرآن: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). فهذه هي الحياة في التصور الإسلامي، وليس المسيحي والبوذي والهندوسي بمختلف كثيرا عن هذه النظرة.

بينما في الجهة المقابلة، نجد أن الدين الوثني يقدم بشارة لأصحابه بتحقيق السعادة هاهنا، والاغتنام من الحاضر لذَّاته، كما تغني أم كلثوم، ويشعر الخيام في رباعياته.

ولنا في دراسة فكر الفايكنغ أبرز مثال على تصور الدين الوثني للحياة السعيدة، وتحققها هاهنا، فهي مليئة بالحض على الطعام، والشراب، والنساء، والغزو، واللذائذ الجنسية والحربية، والفخر، والمجد، والشجاعة؛ فهو دين يدعو للحياة بأقوى ما يمكن.

وهذه ليست قصة الفايكنغ وحدهم، ولكنها أيضًا قصة دين اليونانيين القدامى.

الآراء في الحياة الطيبة

ومع ذلك، فهل يمكن لنا فعلا أن نعيش حياة طيبة؟

جان جاك روسو يرى أنه: نعم، يمكن لنا، وذلك عبر الرجوع للطبيعة، والتصرف على الفطرة، والزهد ما أمكن في الحياة، والاقتراب ما أمكن من بيئة الطبيعة وسلوكها.

وأرسطو يقول: نعم، عبر الحياة الأخلاقية الفاضلة، وباكتساب المعرفة.

وربما يقول أحد الحداثيين: عبر تحقيق هدفك، عبر تحقيق الذات في هذا الوجود، أي عن طريق الإنجاز.

ويقول أهل الأديان: عن طريق السير في خط الدين، واتباعه اتباعًا حريصًا.

ويقول الصوفيون والغنوصيون: عبر التعمق في الباطن، ونكران الظاهر، والاقتراب من المعبود، والرقص على ألحان خلائقه الجميلة، وذكره متى ما سنحت الفرص، وهي كثيرة.

فالسعادة مشكل معقد، لا تجد اتفاقات كثيرة فيه بين المفكرين، ولا بين عامة الناس، فلكلٍ طريق، ورؤية للوجود.

لذلك نستطيع أن نقول: قل لي ما رؤيتك للحياة، أقل لك ما سعادتك!

فمن يرى الوجود معرفة، فسعادته في المعرفة. ومن يرى الوجود فنًا، فسعادته في فنه. وكذا من يرى أنه التزام ديني، أو خلقي، فتلك سعادته.

ماهية السعادة

ولكن ما هي السعادة في حقيقتها؟

هل هي الشعور المبتهج؟ هل هي الرضا العام، والسكون والهدوء، دون ألم أو قلق أو ملل؟! أم هل هي تحقيق المكاسب والإنجازات؟ فما هي السعادة بالضبط؟

يبدو أن السعادة -من وجهة نظري- هي طلب الإنسان الحثيث لإشباع حاجاته السيكولوجية، التي هي أكبر من إمكانات الحياة ذاتها.

المُشكل بأن الإنسان خُلق بوعي كبير جدا، ونتيجة لهذا التطور المهول للدماغ البشري، فقد صارت للإنسان حاجات معقدة، وطرق أكثر تعقيدا لإشباع حاجاته؛ ويبدو أن سباق تطور الكائنات تعدى ملعب الحياة، وراح يتمشى في ما وراء حدودها!

وتلك هي رؤية شوبنهاور وأمثاله، بأن أصل المشكلة هي وعينا بالوجود، وقدرتنا على التفكير بالمستقبل لا الحاضر فحسب. فقد جرَّ علينا ذلك القدرة على طرح سؤال: "إلى أين نحن ذاهبون؟" هذا السؤال الوجودي الأزلي، وهذه القدرة على استشراف المستقبل، هي ذاتها التي جعلتنا نفكر في معنى الحياة، ومعنى ما نؤول إليه، وإلى القدرة على القلق، والهم.

الحياة والبحث عن المعنى

عندما نتفقد المنتحرين وأحوالهم، نجد كثيرًا أنهم فقدوا الدافع للحياة، ولنقل بعبارة وردت على ألسنتهم كثيرا: لم يعد للحياة معنى، أو: ليس لحياتي معنى!

إذًا هناك علاقة وثيقة ما بين الحياة الطيبة (إن وجدت) وبين تحديد الإنسان لمعنى الحياة ووجوده.

وإذا أضفنا ذلك للإقرار بحرية الإنسان في الاختيار، فإن ذلك يولد لنا سببًا آخر للشقاء، وذلك ما وضحه سارتر في غثيانه، ذلك الغثيان والدوار الذي يصيب الإنسان، من القدرة المرعبة على الاختيار الوحيد بين اختيارات كثيرة لا تحصى!

ولكنني رغم هذا، واقتناعي به كفلسفة للوجود، فإني مازلت لا أستطيع التصديق بأننا لا يمكن أن نعيش شيئا ما يصلح أن يسمى بالحياة الطيبة. لابد وأن يكون لشيء من هذا القبيل وجود، ذلك هو ما يراودني دائمًا. ورغم أنني لست الآن أستشعر ذلك، ولا أعيش حياة طيبة، فإن هذا يلاحقني دائمًا، مجرد فكرة إمكان العيش شبه الطيب على الأقل.

الدين والفراغ الميتافزيقي

والحق أننا قد نجد مخرجًا ما في الفلسفة الوجودية، التي هدمت الحياة ثم أعادت بناءها بشكل مذهل. وكذلك بلا شك قد نجده في الدين؛ فالدين هو الترياق السحري لأمراض الإنسان الميتافزيقية.

ولكن في عصر تراجع الأديان، وصعود العقل والفلسفة والعلوم، بات من الضروري بناء فلسفة ما على هذا النحو، بحيث تحقق للإنسان الفاقد لأعظم بضاعة ميتافزيقية شيئًا من الاكتفاء الميتافزيقي!

وهم كثيرون جدًا، أولئك المتحررون من الميتافزيقا بأسرها، تجدهم على أعتاب البوذية، واليوغا، وكتاب سر الحياة، وكتب الكارما والطاقة الروحية، ويتعلقون بالباراسيكولوجي والتخاطر وقانون الجذب، وما إلى هذه الأمور التي اجتاحت المجتمع الغربي، وانتشرت بين أقطاب الشابات والشباب العربي اليوم، بحثًا عن إمكانية لملء هذا الفراغ الميتافزيقي الشاسع.

ولست أظن في العموم أن هناك شيئا ما يمكنه أن يسد هذا الفراغ. ولكن شوبنهاور يؤكد بأن الترياق هو الفن، والفن وحده هو المؤنس الميتافزيقي للإنسان الحداثوي.

وهذا صحيح إلى حد ليس بالبسيط، ولكنه لا يصلح سلوانًا لفقد الدين، فإزاحة الدين من بؤرة معنى الحياة، وإقصاؤه من تسلم زمام أمر الدنيا، هو تضحية عنيفة لم نتعاف من آثارها بعد كأفراد ومجتمعات في عصر ما بعد الحداثة!

خصوصية الفرد وخلق المعنى

أقول بعد ذلك كله بأن الحياة الطيبة إن كان لهذا معنى، هي التي يخلق فيها الإنسان معنى ما له فيها، ولا أظن يمكنني أن أرضى عن حياتي دون التفكر في لماذا تُسلب مني، ولماذا أنا هنا وكيف جئت وما إلى ذلك من التأملات الأولية في أصل الوجود الانساني ولوازمه.

فبادئ ذي بدء، الإنسان يرى العبث ظاهرًا في الحياة، ومستشرٍ في ظواهره الكبرى، وذلك الشعور بالعبثية، وصفه ألبير كامو بأنه التقابل الفاجع بين المعقول (الذهن) واللامعقول (العالم) فلما يرى الإنسان ذلك، ولو انتهى إلى القول بالعبثية، لهو كافٍ بالنسبة إلي، لأن يكون موت الإنسان بعد ذلك مطمئنًا، أو مريحًا. أي كأنه يموت وهو يدري، ولو كان يدري بالعبثية فحسب.

فهذا وكأنه امتلاك الإنسان أو حيازته لمعرفة الوجود، فيطمئن وفي جيبه معنى ما، وإن كان هو اللامعنى.

فقد حقق شيئًا ما في معرفة الوجود.

ولكن أؤكد -حتى لا تقع في الفخ- أن هذا هو بالنسبة لي أنا، كقارئ للفلسفة، ومهتم بالوجود من زاوية فلسفية. ولكن الحق أن ما يجعل حياة الناس طيبة يختلف باختلاف الناس أنفسهم. فهناك من تلذ له الموسيقى، ويستحوذ على لبه اللعب على أوتارها، والتأليف لألحانها، والاستماع إلى شجاها؛ فكان ذلك سلوانه في هذه الحياة، ومتعته التي لا كلل فيها ولا ملل. وهذه الميزة هي مهمة، ميزة أن لا تمل! فالملل هو أحد أسباب التعاسة الكبرى في عصرنا الحديث، وفي ذلك يقول شوبنهاور: "الحياة تتأرجح كالبندول بين السأم والألم"؛

فالسأم المهمل في الفكر هو عامل فظيع لبؤس الإنسان الحديث، وفراغ كبير في نفسه.

لذلك نقول بأن لكل امرئ معنى خاصا يخلقه لحياته، ورسالة ما يود تأديتها، حتى وإن كانت تلك الرسالة هي العبثية والتشاؤمية والعدمية.

ولا نغفل بأن هناك من الناس من هو مستمتع في أن لا يكون له أي دور على الإطلاق، ولا يحق لنا أن نقول له: يجب عليك أن يكون لك دور حتى تحظى بالحياة الطيبة!

فهذا ليس بصحيح، إذ هناك من الناس من يرى بأن قمة حياته هي حضور الجلسة الأسبوعية، والجلسة اليومية، التي يتناول فيها الحديث العام وتبادل الأخبار، وانتهينا.

ولا يحق لنا أن نلزمه بالقراءة لسارتر مثلا، أو التحول لرجل دين، أو فنان، أو أكاديمي، حتى يحظى بشيء مما نسميه الحياة الطيبة. فتلك تختلف باختلاف الناس، ومفتاحها ومعيارها هو ميول الفرد الفكرية والاجتماعية، ورؤيته الفلسفية للعالم أيًا كانت، ومزاجه العام.

مفاتيح الحياة الطيبة

رغم هذا المعترك حول إمكان الحياة الطيبة من الأساس، خلص المتشائمون -والمتفائلون من باب أولى- إلى أن هناك نقاطا أساسية للحياة الطيبة، أو الأقل معاناة، وهي في الثلاثة هذه:

١- الحاضر

٢- الندم

٣- التوفيق بين القيم والسلوك.

والأولى: هي فلسفة اغتنام اللحظة وعيشها. والحق أننا إذا عشنا الحاضر، واغتنمنا اللحظة، استرحنا من كثير من الهم والمعاناة. فكما ذكرنا، إن أساس حزن الإنسان وقلقه هو قدرته على استحضار كل من الماضي والمستقبل داخل ذهنه.

والثانية: هي محاولة العيش بأقل ندم ممكن، وذلك عن طريق العيش الحكيم، والخلق الفاضل، واغتنام اللحظة كما ذكرنا، فهذه كلها عوامل تحد من الندم الإنساني، وتجتنب كثيرًا منه.

والثالثة: ينشأ كثير من الصراع النفسي بين حاجات ورغبات الإنسان -الهو بلغة فرويد- وبين الأنا العليا المتمثلة في القيم العامة المثالية لهذا الشخص، وهذا الصراع لا يمكن إهماله، فهو مصدر قلق كبير للإنسان. يجب على الإنسان التوفيق بين قيمه الأخلاقية والفكرية وبين سلوك حياته ورغباته وحاجاته الإنسانية، أي اختلال في ذلك -وخصوصًا في مجتمعاتنا نجد هذا الصراع- فإنه يسبب صراعًا نفسيًا مزعجًا!

ومن هنا ننفذ إلى دور الفلسفة في حل هذه النقطة الثالثة بالذات.

-فضيلة الفلسفة

الحق أنه بعد أن رأينا بعض مقولة الفلسفة في الحياة الطيبة وإمكانها، ومدى تضارب الأراء، وتعدد الزوايا للنظر في هذه المسألة الشائكة الهامة، وبعد أن طرحنا مفاتيح الحياة الطيبة، يحسن بنا الآن أن ننظر لحقيقة الفلسفة، ومدى تأثيرها في صنع الحياة ذاتها، وكيف أنها هي التي كونت لنا عصورنا، وسلوكنا، وسياستنا ودولنا ، ودساتيرنا، وفكرنا.

الفلسفة لها دور تاريخي مشهود في صناعة الفرد المتفلسف خصوصًا، ثم القراء القارئين لهذه الفلسفة.

فالفلسفة هي محاولة من نخبة البشرية للتفكير في أهم المسائل الوجودية والإنسانية على الإطلاق، ومن ذلك ينشأ السؤال الميتافزيقي، والسؤال الأخلاقي، والسؤال الطبيعي.

فالحق أن الفلسفة -وهذه ميزتها- هي محاولة للبرهنة على ما تقول، فهي لا تترك شيء من غير برهان، وهذا مهم جدًا، فالطريق -خصوصًا في الأخلاق- إلى تحويل الفكرة إلى عمل يُعمل به، فإنها تحتاج إلى الترسيخ في العقل الباطن، وهذا الترسيخ لا يمكن أن يكون دونما براهين يلقنها الإنسان نفسه مرارًا حتى ترسخ في عقله الباطن، وثم تتكرس عن طريق الممارسة.

ويجد الباحث في المشكلات الأخلاقية الفلسفية، والمتأمل لعصره وطبيعته وظروفه، يجد بأن الأخلاق معقدة للغاية، ومسألة شائكة وليست بالبسيطة، وبأنها بالفعل تحتاج إلى علاج فلسفي، أولًا في تثبيت مصدرية الأخلاق، لماذا نحن أخلاقيون، ولماذا يجب علينا ذلك؟ ثم ثانيًا في ماهية الأخلاقي من غير الأخلاقي، ثم ثالثًا أساس الاحتكام إلى تقرير ما إذا كان هذا أخلاقي أو غير أخلاقي. أي ما هو الأساس في ذلك؟ العقل؟ التاريخ؟ الدين؟

ونجد بأن الفلسفة تدخل في عمق أسئلة الإنسان كما ذكرنا، فلذلك كانت مهمة للغاية لكل من يعاني قلقًا وجوديًا، أو مسًا من الحيرة، أو شغفًا مجنونًا بالحقيقة، أو رغبة في معرفة كيف تعامل نخبة البشرية مع أكثر الأسئلة إلحاحًا.

الفلسفة والمجتمعات والأنظمة

هذا من جانب الفرد، أما من جانب المجتمعات، والدول والأنظمة، فإن الفلسفة قادرة بحق على صنع التاريخ والدولة والمجتمع.

ولنا في الفلسفة الماركسية أوضح مثال، فماركس وحده استطاع أن يلهم الملايين، وأن تُشيد على أعتاب حبره اتحادًا عظيمًا، وهو الإتحاد السوفيتي، وأن تشيد روسيا والصين وغيرهم أنظمةً وأفكارًا وفلسفة اجتماعية على صعيد ماركسي تمامًا! لقد استطاعت الفلسفة أن تخلق دولًا، وتنظم مناخ تفكير المجتمعات، وبل سلوكها الأخلاقي والسياسي والاجتماعي!

وقد استطاعت الوجودية أن تكون فلسفة عمومية للمجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية كما هو معروف، فأصبح الحديث -الوجودي- هو حديث القهوة اليومية في مقاهي باريس ولندن وسائر أوروبا!

لقد فقد الإنسان الأوروبي أنذاك أمله في الإنسان، وأصابه يأس شديد، فراح يلتمس في الوجوديين والعدميين مساحةً للتنفس الفكري والنفسي.

-الفلسفة، لمن؟

الحق أن الفلسفة رغم أن القارئ لها قد لا يخرج منها إلا بمزيد من الحيرة، إلا أنها في أعماقها تحمل إجابات للإنسان، إجابات تجعل الإنسان يحس بأنه أمسك بخيط ما من خيوط هذه الحياة التي جئناها ولا ندري عنها شيئًا، وتنطوي الفلسفة على منهج حكيم عاقل للتعامل مع المسائل الميتافزيقية والأخلاقية والسياسية، على اختلاف تيارات الفلسفة، وتنوع تياراتها.

فالفلسفة هي لذلك الفرد الذي أقلقت مضجعه الأسئلة، وحيرته الهوة المرعبة بين الهو، والأنا العليا، وهي الترياق الجليل، والمتنفس العظيم، والأنس الجميل، لكل صاحب عقل وفكر، وأدب وشعر.

-ما هي الفلسفة؟

الفلسفة هي الأرض التي تصنع التاريخ، العالم، الدول.

الفلسفة أملنا الأخير، في عالم ملغز غريب، مليء بالسر المكنون.

الفلسفة هي أول محطة لنا، لفهم معطيات العلوم الكثيرة، واستكنان مدلولاتها العجيبة، والتحليق في نظرياتها، وخلق مناهجها.

الفلسفة بإختصار هي الأرضية التي لولاها، لم يكن لعالمنا الحديث وجود قط.

كانت الفلسفة هي خالقة عصر النهضة، وهي التي أشعلت عقول الناس، وهي التي غيرت مسار التفكير بعد أن كان قرونا طويلة سارحًا في قصور الفكر، غيرت المسار لأن تكون الحقيقة عبر مناهج العلوم الطبيعية، تلكم النقلة العظيمة في التفكير، لم تكن إلا على يد الفيلسوف وحده، وكذا حقوق الإنسان، والأنظمة العامة، ونظام العقوبات، وطريقة نظرنا للماضي والتاريخ.

إن أعظم إزاحة حصلت في القرون المنصرمة، هي تلك الإزاحة للتفكير الأرسطي، وحلول مكانه التفكير الكانطي، فقط بهذا التحول، كانت القطارات، والسيارات، والمطبعات، والتكنولوجيا.

كان كل العصر الحديث، كانت هدية الفلسفة للبشرية جمعاء.

المراجع:

-قصة الفلسفة-ويل ديورانت

-شوبنهاور، سلسلة عقول عظيمة

-دراسات في الفلسفة الوجودية-عبد الرحمن بدوي

-أسطورة سيزيف-ألبير كامو

-فلسفة الموت-أمل مبروك

-القرآن الكريم

-صحيح البخاري

-شوبنهور-عبد الرحمن بدوي

-معنى الحياة-مقدمة قصيرةجدًا



  • يوسف المبارك
    شاب قارئ في مجالات الفلسفة والدين والعلوم والتاريخ والأدب. مهتم بالتنوير والتجديد الديني، بيولوجي الدراسة، فلسفيّ الهوى، ديني الوجدان.
   نشر في 22 يناير 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا