مر تاريخ الفلسفة بمحطات كبرى، فمنذ بزوغ فجر الفلسفة في أرض اليونان إلى يومنا هذا، كرست الفلسفة إهتمامها بالإنسان. ومن هذا الإهتمام تفرع بحر من المفاهيم و الأطروحات،و الأفكار حول مختلف محددات الوجود البشري كاللغة، الثقافة،التاريخ،و الفن...بتعدد المحطات الفلسفية فتبقى الحبقة الحديثة من أهم الحقب الفلسفية. فإذا كان مبحث الأنطولوجيا ( سؤال الوجود ) هو الذي هيمن على الفلسفة اليونانية، و إذ كان إشكال الحكمة و الشريعة هو الذي سيطر على فلسفة القرون الوسطى و خاصة الإسلامية، فإن مبحث الإبستيمولوجيا ( المعرفة ) هو الذي هيمن على الفلسفة الحديثة. فماهي الفلسفة الحديثة؟ و ما هو أهم عامل ساهم في ظهورها؟ و ما هو أبرز صراع فكري عرف فيها؟

    إذا أردنا تعريف الفلسفة الحديثة فلن تكفينا الأوراق و ستجف الأقلام، إذ لا يمكن إختزال هكذا حقبة في مفهوم مركزي واحد ، و إن فعلنا ذلك فكأننا نقول بأن كل فلاسفة الحداثة لهم نظرة واحدة و هذا خطأ. لذلك فأضعف الإيمان يمكننا القول كتعريف للفلسفة الحديثة بشكل موجز و مختصر إنها تلك الفلسفة التي جاءت لتحرير الإنسان، و إعادة الإعتبار له بصفته كائن عاقل مفكر بعد أن إضطهدت و إحتقرت الكنيسة عقله.

   كأي حقبة فلسفية، فمن الضروري أن يكون هناك عامل رئيسي سبب في ظهورها. فإذا كان سبب ظهور الفلسفة اليونانية هو رفض الحكماء السبع للفكر الأسطوري ( الميتوس )، و عدم قبولهم بتفسير الوجود بما هو غير موجود بتعبير جون بيير فيرنان، بل بإستبدلوا الفكر الأسطوري بفكر علمي، منطقي، و وضعي ( اللوغوس )، و إذا كان سبب تجلي فلسفة القرون الوسطى و الفلسفة الإسلامية هو تأثر فلاسفة تلك الحقبة بالفلسفة اليونانية، خاصة أفلاطون، و أرسطو، فإن الفلسفة الحديثة بزغ فجرها إثر الحركة الإنسية و هي ثورة فكرية، علمية، أدبية، و فنية ظهرت بأوربا خلال القرنين 15 و 16م و تسمى أيضا بعصر النهضة أو الأنوار. قاد عصر الأنوار عدة ثورات علمية و فكرية و أدبية و فنية. لنبدأ بالثورة العلمية التي كانت إبان هذا العصر، يمكن القول أن قلب و تجاوز كوبيرنيكوس لفلك بطليموس و فيزياء أرسطو حدث كبير، فلم يعد الإيمان بمرزكية الأرض على حساب الشمس، بل أصبح العكس فالشمس هي مركز الكون، أما الأرض و باقي المجموعة الشمسية فهي كواكب تدور حولها. و بهذا قلب كوبيرنيكوس الطاولة على السلطة الكنسية  و عرضه ذلك لعقوبات. ثاني حدث يتجلى في حركة الإصلاح الديني البروتيستانتي التي قادها كل من مالاتن لوثر، و كالفان، و تمثل تحولا في المعتقدات الدينية حيث ستزدوج مع المعتقد الإجتماعي. تدعو هذه الحركة إلى إعادة الإعتبار للإنسان بإعتباره جوهلر العالم لإمتلاكه العقل. بعد حركة الإصلاح الديني تأتي الإكتشافات الجغرافية و التي لا تقل أهمية عن ما سبق، تزعمها كيرستوف كولومبوس، حيث تظهر الإكتشافات الجغرافية سيطرت الإنسان على الطبيعة. و أخيرا إختراع المطبعة على يد الألماني يوحنا غوتانبيرغ. ساهم هذا الإختراع في توفر الكتب بوفرة و بثمن في المتناول، كذلك كان لها الفضل في طبع و تنقيح الثراث الوناني و الروماني. و أخيرا تلك الثورة الفنية التي قادها الفنان التشكيلي الإيطالي ليوناردو دافينشي من خلال عدة لوحات فنية له أهمها و أشهرها على الإطلاق لوحة الجوكاندا أو الموناليزا.

   بعد الطلاع أبو الحداثة الفكرية الفيلسوف رينيه ديكارت على هذا المتن الفكري الأنواري، أصبح ديكارت مقتنعا في فترة مبكرة مثل فرانسيس بيكون، بأن الإحتياج العظيم في الفلسفة هو صياغة منهج دقيق و مثمر للبحث،  فبنى فلسفة عقلانية بإمتياز، تعتبر العقل آداة الوصول إلى الحقيقة، و العقل عند ديكارت نور فطري لا مادي و جوهر يستخدمه الإنسان في معرفة ذاته و معرفة العالم. و وضع قواد المنهج أو ما يصطلح عليه المنهج الشكي الديكارتي وهو مجموع الخطوات العقلية الصارمة المتبعة في بناء الحقيقة، ما يعني أن الشك في وسيلة و ليس غاية، يتوقف عند بلوغ الحقيقة.  يتكون المنهج الشكي الديكارتي من أربع قواعد وهي: الشك أو البداهة: وهو غياب اليقين، و عدم القدرة على التصديق، و يعتبر من عمليات التفكير القائمة على السؤال ، إذ يقول ديكارت أنه "على الإنسان أن يستخدم الشك ولو مرة واحدة في حياته، إذ لا يجب أن أقبل إلا ما بدى لي بديهيا.". و قد شك ديكارت أفكار الطفولة و التربية، ثم شك في شهادة الحواس، و شك في إستدلالات الناس العقلية، و أخيرا شك في قضايا الرياضيات. 

ثاني قاعدة في المنهج الشكي الديكارتي هي التحليل: و يقصد به تفكيك و تقسيم المشكلة أو الفكرة إلى أجزائها و وحداتها الصغرى عن طريق الإنتقاد من المركب إلى البسيط، ومن الكل إلى الجزء.

المرحلة التي تلي التحليل هي التركيب: وهو عملية عكسية للتحليل بمعنى الإنتقال من البسيط إلى المركب، ومن الجزء إلى الكل.

و آخر قاعدة في المنهج الشكي هي الإحصاء و المراجعة: تتم بالعودة إلى المراحل السابقة للتأكد من أننا لم نغفل شيئا.

   كان ديكارت دائم الإقساء للبعد التجريبي أو التجربة في كتاباته، فبما أنها من الحواس و الحواس تخدعنا حسب ديكارت فإن التجربة لا يمكنها أن توصلنا للحقيقة.

   لكن في إنكلترا ظهر فيلسوف إسمه جون لوك وهو مؤسس الفلسفة التجريبية التي شكلت أول نقد لديكارت و عقلانيته، إذ سينظر لوك للعقل ليس على أساس أنه مبدأ فطري كما إعتقد ديكارت بقدر ما أنه معطى تجريبي، فالعقل عند لوك صفحة بيضاءتخط عليه التجربة و المعارف و المعلومات و الإنطاباعات، و رأى لوك أن مهمة الفيلسوف الأولى هي أن يعد قائمة للمعرفة التي نحصل عليها مباشرة عن طريق الحواس.

  وفي ألمانيا ظهر فيلسوف إسمه إيمانويل كانط معروف بمدرستع النقدية. حاول هذا الأخير التوفيق و الجمع بين عقلانية ديكارت و تجريبية لوك إنطلاقا من إعتباره أن المعرفة و الحقيقة لا نصل إليها بالعقل وحده و لا بالتجربة وحدها بل هما معا. يقول كانط: "المبادئ الفطرية بدون حدوس حسية تبقى عمياء، و الحدوس الحسية بدون مبادئ فطرية تبقى جوفاء.".

   لعل هذه الفكرة في تقدرينا لم تطفئ نار الصراع الفكري بين ديكارت و لوك، بل كانت مطلق التفكير الفلسفي المستقبلي خاصة في إشكالية الفلسفة و العلم.

  المصادر و المراجع:

1 تاريخ الفلسفة الحديثة ل وليم كلي رايت.