ثمانية وخمسون عاما, وهو يحمل عبء هذا الاسم أينما ذهب. ما زالت ضحكات الأولاد وسخريتهم من طريقة لفظه لاسمه تتردد في أحلامه أحيانا. لذا عندما تزوج طلب من زوجته أن تناديه بأبو أحمد, مع أنّ أحمد لم يأتي إلى الدنيا إلا بعد ثلاث سنوات من زواجه.
كم يمقت هذا الاسم, بل يمقت أكثر اليوم الذي يضطر فيه للذهاب إلى دائرة رسمية. يسأله الموظف: "اسمك لو سمحت؟"
يشعر بحرارة في أذنيه المحمرتين من الخجل, ويجيب بصوت واهن: "غِزقي غمّاح." ثم يلاحظ شفتي الموظف وهما ترتجفان قليلا في محاولة لمنعهما من الانفراج للضحك, فيمقت حياته كلها.
على غير العادة, كان رزقي رمّاح سائق سيارة أجرة صامت. يرد السلام على زبونه ولا يفتح فاهه بشيء بعدها إلا إن سُئل. ليس لأنه يكره الحديث ويؤثر الصمت. بل لأنه مجبور على قلة الكلام تجنبا للوقوع في الحرج. فبمجرد أن يفتح فمه ليتكلم, يسمع الطرف الآخر كل حروف الراء في كلامه وقد تحولت إلى غين.
لم يستطع إتقان مهارة تجنب الكلمات التي تحتوي هذا الحرف. ولم يذهب إلى طبيب لعلاج مشكلته. ها هو يقترب من الستين وما زال انطوائيا.. يحسب لنظرة الآخرين ألف حساب.
في إحدى المرات, ركب معه شابٌ يافعٌ ليقلّه إلى مصلحة الأحوال المدنية. طوال الطريق أخذ الشاب يثرثر عن موضوع تغيير اسمه, وأنه سيبدأ اليوم بالإجراءات الرسمية لذلك.
شدّه الموضوع, فسأل وهو حريص على عدم استخدام حرف الراء: "هل ممكن تبديل الاسم؟"
أجاب الشاب:"بالتأكيد إنه حقك الذي يضمنه لك القانون يا عم. لكنها عملية طويلة تحتاج لبعض الصبر."
وصل الشاب إلى وجهته, وقبل أن يترجّل من السيارة سأله رزقي: "قل لي ما اسمك يا بني؟"
"الحالي أم ما سيكون؟"
ابتسم رزقي وقال: "الاثنين معا."
أجاب بمرح: "الآن طه, والجديد إن شاء الله, حسين."
قال رزقي وهو يدرأ ضحكة تريد أن تهرب من فمه: "طه... حسين... يبدو اسما مألوفا!"
"لا أعرف أحدا بهذا الاسم يا عم."
همهم بصوت هامس: "جيل جاهل."
في البيت, أخذ يفكر بموضوع تغيير الاسم. إذا كان هذا شيئا ممكنا بالفعل, فطاقة الفرج قد فُتحت له. دخلت زوجته عليه بكأس القهوة مع الهيل.
قال بدون مقدمات: "اسمعي يا أم أحمد لقد عزمتُ على تبديل اسمي."
"بسم الله الرحمن الرحيم, ماذا جرى لك يا رجل؟ ومم يشكو اسم رزقي"
"لا يشكو من شيء. فقط لا أحب لدغتي الواضحة بحرف الغاء. في كل مغّة أقول اسمي أمام الناس أحس بأني أتيْتُ لأضحكهم."
"الآن تريد تغييره يا رزقي. لمَ لم تفعل ذلك عندما كنتَ شابا! صحيح كما قال المثل.. بعد الكبرة جُبّة حمرا!"
وبعناد غير مألوف قال: "اسكتي. سأبدله ولن يهمني غأي أحد."
في اليوم التالي أعطى نفسه إجازة غير مدفوعة وانطلق باتجاه مصلحة الأحوال المدنية ليسأل عن اجراءات تغيير الاسم. بعد جري طويل بين الموظفين, استطاع أن يعرف كل ماتتطلبه العملية من أوراق رسمية واجراءات. لم يشعر برغبة في العودة إلى البيت, قبل أن يختار اسمه الجديد.
مرّ من مقهى شعبي, فرأى جمهرة من الناس تحتشد حول مذيعة تلفزيونية مشهورة.أصابه الفضول ليعرف ماذا يصوّرون في هذا المكان. ترجّل من سيارته واقترب من الحشد.
ودونما أية أسباب, وقع اختيار المذيعة عليه.
اخترقتْ جموع الناس واقتربتْ منه قائلة: "مرحبا يا عم. هل تود المشاركة في برنامج خمس ثواني؟ سنسألك سؤالا ونعطيك خمس ثوان لتجاوبه, فإن أجبت إجابة صحيحة.. ستكسب جائزة اليوم وهي عبارة عن مئة دولار."
اختلطت مشاعر الفرح لدى رزقي. سوف يراه زوجته وأولاده على التلفاز وسوف يصبح مشهورا في حارتهم. وسوف ينال جائزة قيمة إن صحت إجابته. إنه يوم سعده.
قال بخجل:"طبعا طبعا يا آنسة."
ثلاثة ..اثنان ..واحد ..آكشن.
كان رزقي يوجه ابتسامة كبيرة إلى الكاميرا عندما قالت المذيعة: "والآن معنا مشترك جديد لهذا اليوم. وكما تعرفون أعزائي المشاهدين سأسأله سؤالا وعليه أن يجيب في خمس ثوان." التفتت إلى رزقي وقالت: "اتفقنا ياعم؟"
قال بصوت متحمس وهو يعصر أصابعه: "اتفقنا."
قالت المذيعة بصوت درامي بطيء: "حسنا فليلزم الجميع الصمت رجاء ولا تغششوه. أريد منك يا عم أن تعطيني اسم علم مذكر يبدأ بحرف الراء, ومن أربعة حروف فقط... تذكر معك خمس ثوانٍ فقط."
احمرّت أذناه وهو يجيب:
"غِزقي."
-
نور جاسماسمي نور. عراقية الأصل, أردنية المنشأ, أمريكية الإقامة, وهذا ساعدني كثيرا في التعرف على الثقافات المختلفة وإقامة الصداقات من كل مكان في العالم. أحب الكتابة/ أحلام اليقظة/الرسم/ السفر/ التمثيل/ الغناء/ الأفلام/ التأمل/ وال ...