مقصلة الدّجل: داء السّكّري...بيدك النجاة
نشر في 01 نونبر 2020 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
ملاحظة: هذه قصة حقيقة.
السّاعة تشير إلى 11 ليلا.
المكان: قاعة الإنعاش الطبية.
عيون ذابلة من السهر، و وجوه شاحبة من التعب، تبتسم حينا لتداري الألم، وتسرح أحيانا في الفراغ وهي تتأمل كل ما يجري حولها. لم يسعفها الحظ لتنعم بلحظة استراحة، فها هو باب الإنعاش الطبي يفتح كما الإعصار، ما جعل الطاقم الطبي يستجمع قوته لاستقبال الحالة القادمة.
هو رجل في الثامنة والأربعين من عمره، أب لثلاث أطفال، أصغرهم يبلغ من العمر 5 سنوات، وأكبرهم يبلغ 15 سنة، عامل بإحدى شركات الخياطة، والمعيل الوحيد لوالديه وأسرته الصغيرة، أذكر أن اسمه كان “مصطفى”.
أحس مصطفي بألم في بطنه من أيام، لم يكترث له، فهو الأب القوي، والرجل الذي لا يحب أن تشار إليه الأصابع بالضعف. لكنه لم يستطع الليلة إخفاء ألمه لأنه هذه المرة كان حادا ومستمرا، مصاحبا لقيء و تعرق شديدين.
دخل مصطفى قاعة الإنعاش من أجل فحص إستعجالي، تخطيط قلبه يشير إلى ذبحة صدرية متقدمة جدا، 5 دقائق بعد التشخيص، بدأ مصطفى يعاني من ضيق تنفس حاد، إنه فشل القلب الحاد بسبب انسداد الأوعية الدموية الرئيسية للقلب. الارتباك يملأ الأجواء، الأطباء و الممرضون يعملون على إسعافه. 5 دقائق أخرى.. توقف قلب مصطفي فجأة، فبدأ الطاقم بعملية الانعاش القلبي- الرئوي، بين من يضغط صدر مصطفى ليبقي على عمل القلب، ومن يركب أنبوب القصبة الهوائية من أجل التنفس الاصطناعي، وبين من يعطي الأدوية عبر الاوردة.
كانت عيون الجميع مركزة على جهاز تتبع تخطيط القلب، مصطفى رجل شاب، و معيل لأسرتين، يجب أن يعود، يجب أن يعيش، هناك أمل، سيعود النبض بإذن الله.. وعاد النبض أخيرا، و تنفس الطاقم الطبي الصعداء.
قصة مصطفى في تلك الليلة لم تنته بعد، فالذبحة الصدرية كانت عنيفة وقد أدت لتوقف القلب للحظات، ما يجعل حالته غير مستقرة رغم عودة النبض.
قبل استكمال القصة أيها القراء الأعزاء، دعونا نعد قليلا لنقطة البداية وحتى قبل وصول مصطفى لقاعة الانعاش الطبية.
ترى ما سبب جلطة القلب التي باغتت مصطفى؟
تخبرنا زوجة مصطفى أنه لم يكن يعاني من أي مرض، كما أنه لم يكن مدخننا. فتبادل الأطباء النظرات فيما بينهم، أيكون قدر مصطفى عاثرا لهذه الدرجة؟
– “لحظة، لحظة أيها الطبيب… زوجي – على ما أذكر – كان يعاني من السكري، لكنه توقف عن أخذ الدواء منذ أزيد من السنتين، أخبرني أنه شفي منه.”
– تبادل الأطباء نظرات استنكارية مجددا.. سكري؟ و شفي منه؟
– “متى كان آخر مرة رأى فيها مصطفى طبيبه يا سيدتي؟”.. لم تكن تذكر.
عرفنا بعدها أن مصطفى أحس أنه بصحة جيدة وأنه لا يشعر بتعب ولا أي أعراض، توقف عن أخذ دوائه بعد استشارة أحد أصدقائه الذي كان يعمل عشابا. أخبره هذا الأخير أنه شفي هو نفسه من مرض السكري ببعض الخلطات المميزة، فأصبح مصطفى يشتري تلك الخلطات من عند صديقه، خصوصا أن ثمن الأعشاب كان يناسبه جدا مقارنة بأثمنة الدواء. لم يعد مصطفي يهتم بعدها، لا بزيارة طبيبه ولا بمراقبة مستوى السكر في دمه. كما أنه لم يعر اهتماما لآلام كان يحس بها في بطنه حتى اشتدت عليه الليلة.
سؤال: هل يمكن القول بأن داء السكري هو ما تسبب في جلطة القلب عند مصطفى؟
** ** **
– ما هو داء السّكّري؟
هو مرض مزمن، و عندما نقول مزمن يعني أنه مرض مصاحب لصاحبه دائما من يوم تشخيصه، لابد أن يستمر في معالجته وتتبع تطوره باستمرار تحت إشراف طبيب مختص.
– هل حقا يوجد داء السكري؟
طبعا، هناك نوعان من السكري، الأول يمس الأطفال وأصحاب الأعمار الصغيرة، ويكون بسبب نقص في إنتاج الانسولين من طرف البانكرياس. أما النوع الثاني وهو الأكثر شيوعا، فيمس أشخاصا في سن متقدمة ويكون في البداية بسبب مقاومة خلايا الجسم للانسولين، ما يمنع استعمال السكر المتواجد بالدم من طرف الخلايا وبالتالي ترتفع نسبته في الدم، لكن بعد مرور الوقت يتطور الامر إلى نقص في إنتاج الانسولين.
– ما أهمية الأنسولين للجسم؟
بشكل مبسط، لقد خلق لنا الله في الجسم أعضاء وأجهزة تعمل في انتظام مبهر. ويعد البانكرياس العضو المسؤول عن تعديل مستوى سكرالكلوكوز داخل الجسم، من خلال إنتاج هرمونين أساسيين، وهما الأنسولين والذي يقوم بتخزين السكر المتواجد في الجسم للحفاظ على تركيز سكر الكلوكوز في مستوياته الطبيعية في حين يقوم هرمون آخر معاكس وهو الغليكاغون باستخراج سكر الكلوكوز المخزون من أجل استعماله في حالة حاجة الجسم إليه.
– ما أهمية الحفاظ على مستوى سكر الكلوكوز داخل الجسم متوازنا؟ وما المشكلة إن بقي مستواه مرتفعا في الدم؟
هنا مربط الفرس. قد يكون سكر الكلوكوز هو مصدر الطاقة الأهم والأسرع استعمالا من طرف خلايا الجسم، لكن وجود خلل في استعماله وتخزينه يؤدي إلى ارتفاع مستواه عن الطبيعي في الدم وهنا يكمن الخطر.
فعندما يتجاوز السكر مستوى معينا في الدم، يتم استغلاله من طرف الخلايا في مجموعة من التفاعلات تنتج عنها تركيبات مضرة خاصة بجدار الأوعية الدموية (endothelium) الدقيقة لمختلف الأعضاء، ما يتسبب عنه ما يسمى بـ Diabetic microangiopathy وكذا الأوعية الدموية الكبيرة فيتسبب بما يسمى بـ Diabetic macroangiopathy.
– ما معني مضاعفات الأوعية الدموية الدقيقة Diabetic microangiopathy؟
تشمل :
- تلف العين أو ما يسمى باعتلال الشبكية (Retinopathy) وقد تصل المضاعفات حد فقدان البصر (ويعد السكري أول سبب لفقدان البصر في سن ما قبل ال60)
- اعتلال الكليتين (Nephropathy)، ويترتب عنه فشل كلوي نهائي وهو أهم سبب في تصفية الدم بتقنية الدياليز.
- ثم الاعتلال العصبي (Neuropathy). ويترتب عنه وهو أكثر شيوعاً في القدمين واليدين (وعادة ما يُوصف بأنه إحساس حارق أو خدر ووخز، إضافة إلى صعوبة اكتشاف إصابات القدم، والتي قد تتطور إلى إصابات خطيرة قد تصل إلى البتر – لا قدر الله -. كما يمكن أن يحدث ضرراً للأعصاب في مناطق أخرى من الجسم بسبب الاعتلال العصبي اللاإرادي فيؤثر على المثانة، والجهاز الهضمي، والأعضاء التناسلية.
– ما معنى مضاعفات الأوعية الدموية الكبيرة أو Diabetic macroangiopathy؟
تحدث مضاعفات في الأوعية الدموية الكبيرة مع ارتفاع السكر في الدم لدى مرضى السكري، وتشمل الأوعية الدموية الخاصة:
- بالقلب ما يتسبب في النوبات القلبية (Heart Attacks)، وتكون هذه النوبات صامتة حتى تباغت بمضاعفات متفشية جدا في أوساط مرضى السكري غير المتوازن كفشل القلب وقد تؤدي إلى السكتات القلبية وبالتالي الوفاة.
- السكتات الدماغية (Strokes) وقد تؤدي لشلل نصفي أو أحيانا إلى الوفاة حسب حدة السكتة.
- عدم كفاية تدفق الدم إلى الساقين والتي تسبب مرض الشرايين المحيطية (Peripheral Arterial Disease).
– ما هي المضاعفات الأخرى لداء السكري؟
نذكر:
- ماء العين البيضاء (Cataract)، ماء العين الزرقاء (Glaucoma)
- فرط الاسمولية اللاكيتوني وهو حالة مستعجلة، تترتب عن ارتفاع نسبة السكر وجفاف الجسم بسبب التبول الكثير وفقد القدرة على الشعور بالعطش. تكمن الخطورة في هذه الحالة في تعرض المريض لغيبوبة.
- الحُماضٌ الكيتونِيّ وهو حالة مستعجلة، تحدث عندما يصبح ارتفاع سكر الدم شديداً والسبب في ذلك يعود إلى أن خلايا الجسم عندما لا يصلها الجلوكوز تقوم باستخدام الكيتونات وهي أحماض سامّة كمصدر للطاقة، ويتطور الحماض الكيتوني عندما تتراكم الكيتونات في الدم. هذم الأحماض هي سامة للجسم تؤدي إلى غيبوبة السكري Diabetic coma أو حتى الموت.
- ارتفاع الاصابة بالالتهابات البكتيرية خاصة منها التهابات المثانة والفطرية أيضا.
– هل يمكن التحكم في داء السكري بالرياضة والتوقف على أكل السكر فقط؟
يتم تشخيص داء السكري بقياس مستوى السكر في الدم بعد صيام يدوم 8 ساعات وبقياس خزان السكري في الدم hba1c. يقرر الطبيب المعالج غالبا وضع المريض تحت حمية خاصة وهو نظام غذائي منخفض بالدهون والسعرات الحرارية، مع تغيير عاداته اليومية واعتماد رياضة المشي أو رياضات أخرى تساعده على نقص الوزن.
تتم مراقبة نسبة السكر بعد الخضوع لهذا النظام الغذائي لمدة يقررها الطبيب بعدها إما تكون هذه التدابير الغذائية و الحركية كافية لخفض نسبة السكر في الدم فيطلب الطبيب من المريض الاستمرار على هذه التدابيرمع مراقبة مستمرة لمستوى السكر، إما أن تكون غير كافية و يستدعي الأمر وضع المريض تحت الدواء المناسب له لمساعدة الجسم على خفظ نسبة السكر في الدم و تفادي تلف الأجهزية و ظهور المضاعفات.
– هل يمكن الاستغناء عن الدواء واستعمال أعشاب خافضة للسكر؟
الجواب هو: لا. لا توجد أعشاب تقوم بعمل الأنسولين ولا بخفظ نسبة السكر في الدم لمستواه الأصلي. لذلك فأكبر خطإ هو الاستغناء عن الدواء، والأكثر من ذلك الاستغناء عن المراقبة المستمرة لمستوى السكري في الدم.
– هل يشفى مريض السكري يوما؟ وهل ظهور المضاعفات أمر ضروري عند مرضى السكري؟
قلنا أن السكري مرض مزمن.. لكن بالمراقبة المستمرة لمستوى السكر بعد الالتزام بالحمية والحركة والدواء المخصص سيؤدي ذلك بإذن الله إلى اعتدال نسبة السكر في الدم، وبالتالي تأخير ظهور المضاعفات إلى أبعد حدود و قد لا تظهر تلك المضاعفات أبدا. و قد أثبتت الدراسات أن ظهور المضاعفات رهين بنسبة خزان السكري hbA1c واعتداله.
– ماذا إن كنت أشعر بأني بخير ولا تظهر علي أي علامات إعياء؟ هل آخذ الدواء فقط لأن نسبة السكر مرتفعة؟
نعم وأكيد، لأن داء السكري السائد من النوع الثاني يكتشف غالبا بعد ظهور مضاعفات، خاصة منها الجلطات الدماغية وجلطات القلب وكذا الفشل الكلوي. ولهذا إن كنت ممن من الله عليهم وعرف بدائه مبكرا قبل ظهورأي مضاعفات فهذه نعمة من الله وجب شكره عليها باتباع التعليمات الطبية احتراما لمن وهبك الحياة واحتراما لنفسك ولمن حولك من أهلك.
** ** **
لنعد لقصة مصطفى.
لمتابعة تتمة القصة، و معرفة ما آلت إليه حالة مصطفى، المرجو إتمام قراءة الفقرة الأخيرة من المقال بالضغط على الرابط التالي.