ألقى جسمه المتهالك على فراشه في نزل " تاكفاريناس" الكائن وسط المدينة العتيقة. كانت لديه رغبة جامحة في النّوم و الرّاحة، إلاّ أنّ هواجسه و أفكاره الغريبة كانت تمنعه دائما من متعة النّوم حتّى في حالات الإرهاق الشّديد.
كلّ غرف النّزل كانت متشابهة، إلاّ أنّ الغرفة 17 كانت هي المحبّبة إلى نفسه ، ظنّا منه أنّ رقم 17 كاد أن يغيّر مصيره و مصير جهته ووطنه، لولا تعرّض الثّورة لعمليّات تحويل وجهة متنوّعة و اغتصابات متواترة و عنيفة.
كان يشعر بالمرارة التي شعر بها حنّبعل و يوغرطة و تاكفاريناس و محمّد علي الحامّي و كلّ الثوّارالذين تعرّضوا للخديعة و الخيانة و الغدر.
قام من فراشه ، و أشعل سيجارة علّها تخلّصه من هواجسه التي باتت تسيطر على كيانه المحطّم.
أصبحت الهواجس لا تغادره منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التي اعترف العالم الغربي بنزاهتها، و التي شهدت بعد الفرز الدّقيق و الشفّاف للأصوات سقوط شعارات الثّورة و دوسها بالأقدام الملوّثة للمتاجرين بعقائد و أحلام البؤساء و المهمّشين.
ثمّ طفق يتصفّح ملفّه الذي لم يكن يغادر إبطه منذ اندلاع الثّورة، و الذي حوى كلّ الشّهائد العلميّة و الوثائق و المستندات التي من شأنها أن تمكّنه من شغل محترم ينقذ عائلته من البؤس الذي تفاقم و اشتدّ بعد إعلان دستور الثّورة الجديد.
فجأة، رنّ هاتفه بأغنية " هلا هلا يامطر" المحبّبة إلى نفسه، ليقطع سكون الغرفة الرّهيب و ينقذه من هواجسه المتسلّطة:
- أهلا من معي؟ !
- ألو" شادي نوّار" !!
- نعم أنا " شادي" تفضّل...من معي؟ !
- أنسيت صوتي؟ !
- عذرا لقد اختلّ كياني بعد الثّورة و أصبحت أشكو ضعفا في الذّاكرة.
- لازلت شابّا يا شادي !
- لقد هرمنا بسرعة بعد الثّورة...ألا تريد أن تقول لي من أنت؟ !
- أنا "فهمي رضوان" رفيق دراستك في المعهد...كيف يمكن لك أن تنسى صوتي؟ !
- آه...أهلا فهمي...كيف حالك؟
- أنا بخير و أنت؟
- لست بخير.
- أعلم جيّدا الظّروف الصّعبة التي يمرّ بها الوطن، و لكن لا تيأس، فأنت من حاملي شهادة الدكتوراه في الفلسفة.
- لولا الأمل الذي يحدوني لما انتقلت إلى العاصمة من أجل البحث عن عمل...و أنت هل أتممت دراستك في الجزائر.
- نعم و عدت إلى وطني لأفتح عيادة في العاصمة.
- مبروك أخي...هل أنت هنا في العاصمة؟
- سآتي غدا و أودّ مقابلتك، لقد اشتقت إليك صديقي، فأين أجدك ؟
- أنا أيضا اشتقت إليك ، تجدني في نزل تاكفاريناس في المدينة العتيقة...
- أعرف مكانه سوف أهاتفك عند وصولي...إلى لقاء قريب صديقي شادي.
لقد تخلّص شادي خلال هذه المكالمة القصيرة من بعض هواجسه ، و هاهو يعود إلى الفراش، مستعما إلى قطع من الموسيقى الهادئة المخزّنة في هاتفه الجوّال، علّه يفوز ببعض الدّقائق من النّوم. و أخذ في مطالعة رواية " البؤساء " لفكتور هيغو اشتراها بثمن زهيد من سوق الكتب القديمة، إنّها من أشهر روايات القرن التّاسع عشر، التي تحدّثت عن الظّلم المجتمعي الذي تعرّض له المهمّش جان فالجان ، الذي سجن لمدّة تسعة عشر سنة لأنّه سرق رغيف خبز.
لقد أحسّ شادي أنّ عبارات فيكتور هيجو الجميلة و الصّادقة قد هوّنت عليه مأساته ، و قد تيقّن بعد قراءة جزء بسيط من الرّواية أنّ الثّورة الفرنسيّة لم تحقّق أهدافها إلاّ بعد عقود من المعاناة و المآسي المتتالية.