ركبت ظهر السفينة وأنا أحمل علما ما كان له أن يُطوى تحت الأنقاض
أو تحمله رؤوس الفساد أو تحميه أصوات خافتة لا تعرف للنور طريقا...
علمي يرفف بين أعلام كثيرة جميعها تريد أن تعانق أجسادا هزيلة وأصواتا
بُحتْ خلف الأسوار...
همست في أذن من بجواري الذي جاء من بلاد بعيدة اقتربنا من تحقيق الحلم...
ردّ عليّ بلغة فهمت منها القليل: اشتاق إلى رؤية إخواننا ... هذه المياه شهدت بطولات أجدادنا...
وإذا بصوت عال : أيها السادة قطعنا شوطنا كبيرا ولم يتبق إلا القليل فاستعدوا وفقنا الله جميعا...
فقلت لصديقي:
- تُرى هل يمنعوننا ؟
- لا تستبعد شيئا على هؤلاء الملاعين، أحفاد القردة والخنازير...
- إن شاء الله سوف نصل ونكسر الحصار أمام العالم أجمع.
ونظرت بعيدا بعيدا وأراني قد اقتربنا، حاولوا منعنا وأمام إصرارنا وأضواء الكاميرات دخلنا نرفع الأعلام، تتسابق أرجلنا التي تتعثر بين الأنقاض لاحتضان الأطفال التي علت البسمة أجسادهم الشاحبة... أصوات زغاريد النساء ترن في أذني، الله أكبر الله أكبر نرددها ولا نسمع غيرها، وبقايا أشجار الزعتر والزيتون ترسم الأمل في إعادة الإعمار... نقبل أيادي العجائز ورؤوس الأبطال ونرسم بسمة قلب مكلوم أمام آهات الجرحى ودموع الثكالى...
فجأة عمت الفوضى سفينتنا، أصوات القذائف أيقظتني من حلم الانتظار الطويل... قوارب تقترب وصوت القذائف يخترق الآذان تقابلها صرخات النساء وصيحات لا حول ولا قوة إلا بالله، واشرأبت العدسات تصور هذا الجرم التاريخي... سقط بعض أخواني تعلوهم الدماء ، الكل يهرول يمينا ويسارا، تعثرت بقدم صاحبها يردد بصوت تخالجه الدموع: لا إله إلا الله وإذا بصديق رحلتي فقلت وأنا ألملم جرحه: لا تخف سننجو إن شاء الله ، فردّ علي وابتسامة لم أر مثلها قط تغمر وجهه: هنا جاهد آبائي هنا فتحوا هنا انتصروا هنا نالوا رضا ربي هنا قادهم محمد الفاتح... لقد نجوت يا صديقي، لقد نجوت... لا إله إلا الله...
خرجت روحه وهو يرددها... ودموعي غطت وجهه الوضاء... وإذا بجنود يقتحمون ظهر السفينة فقفزت على أحدهم أحاول شفاء غليلي وكأنني وقعت بين أذرع أخاطب غذاؤها البشر....
استفقت على صوت يمجه لعاب الغدر والوحشية، وعلى وجه خنزير تغطي نصف وجهه أنياب مصاصي الدماء ، والأغلال تكبلني ... فرفسني برجله :
- ماذا جاء بك إلى هنا؟
- ما الذي جاء بك أنت إلى بلادنا؟
جرني آخر من قيدي...
- هذه الأرض ليست أرضك ولا بلادك.
- ولا أرضك التي ورثتها عن أمك...
انهالوا عليّ وإذ بي في غرفة ضيقة مع وجوه مشرقة ألفتُ بعضها على ظهر السفينة ، ألقوا بي بجوار رجل يغطيه الشيب ينبعث النور من لحيته المضيئة التي تخالطها الدموع فقلت مواسيا: سنرحل يا أبي فرد عليّ بصوت حزين: أنا لا أبكي أسري ولكن أبكي أخواني الذين علّقوا الآمال علينا ولم نستطع الوصول إليهم... فأسكب الدمع من عيني.... فاعتدلت على أريكتي في غرفتي المكيفة وقلت لنفسي ليتني كنت معهم.