إضاءات حول حقيقة التغيير
تغيير
نشر في 03 ديسمبر 2017 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
"قد تطيح مؤامرة بالطاغية ، ولكن ماذا تستطيع أن تفعل ضد عقيدة راسخة ؟" هذا الإقتباس من كتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف لوبون . "المؤامرة" هنا ربما تكون ثورة مجموعة من البشر ضد كيان و ربما تكون صفعة تريد أن توقف مراهقاً عن التدخين أو عن ممارسة بعض العادات السيئة و ربما قَطعٌ لقنوات الإتصال بين عشيقين و ربما سخريةٌ من لاعب غير قادر على الإندماج مع فريقه و ربما و ربما ... ربما يبدو للناظر أنه لا شيء يجمع هذه المواقف في منطقة واحدة من ناحية الموضوع، و هذا صحيح . لكن العامل المشترك بينها جميعاً هو أنها كلها عبارة عن ردود أفعال لمواقف لم نقم بتحليلها أو ليست لدينا القدرة على تحليلها في أحسن الأحوال.
العقيدةُ لغةً هي المصدر من الفعل اعتقدَ يعتقدُ اعتقاداً، أُخذت من العَقد، وهو الشّد والرّبط بقوّة . أمّا اصطلاحاً فيُقصد بها ما ينعَقِدُ عليه قلبُ الفرد، ويَجزم به، ويتَّخذ منه دينًا ومَذهبًا له. حقيقةً كانت هذه هي نقطة البداية التي انطلق منها إمامُ التغيير محمد -صلى الله عليه وسلم- ، و هي تصحيحُ ما انعقدَتْ عليه قلوبُ البشر من تفاصيلَ ربما كانوا يعدونها بسيطة لكنَّ نتائج الإقرار و العمل بها لها أثر كبير و واضح.
هل فعلاً أننا ندورُ في حَلَقَةِِ مُفرَغةِِ دون أن ندركَ ذلك؟ هل بعض التفاصيل جديرةٌ باهتمامنا أمْ نجعلها تَعبرُ دون أن نتفاعلَ معها ونعطيها حقَّها ؟ كيفَ نرصدُ مَوَاطِنَ الخَلَلِ في أنفسنا ؟ من أين بدأت هذه المُشكِلة و إلى أين وصلتِ الآن ؟ ما هو التغيير و كيفَ نجعلهُ جزءاً مِن حياتنا وعَتَبَةُ إنطلاقِتنا بعد سلسلةِِ من التعثرات ؟
في كلّ لحظة دونَ مبالغةِِ نتعرض لتفاصيل متكررة ربما أغلبنا لا يشعرُ بها ، لكننا نرى آثارها في أفعالنا و نلحظ ملامحها في أنفسنا ، تلكَ الكائناتِ التي اتخذَتْ مِنْ أَجسادِنا سَكَناً لَها ، وتَقتاتُ بِأفعالنا.
أحاولُ هنا أن أستَعرِضْ نماذجَ مصغَّرة و بعضَ السلوكاتِ التي نَرِثُها من عمليَّةُ التَفاعل مع الأحداث بِنَفسِ آلياتِ التفكير فتنشَأ لدينا حالةٌ من الجُمود و ابتعادٌ كلِّيٌّ عن حاجتنا إلى التحليل الذي يمثّل المحور الأساسيِّ للتغيير : نرى الأَوساخَ على الأرضِ في كل مرّه ولا نكتَرُثُ لِذلك فنكتسبُ الإتِّكالِيَّة. نضَعُ لأنفسنا في كل مرّه الكَميَّةَ الأَكبر من الطَعام عند توزيعها على الصحون فنكتسبُ الأَنانِيَّة. نأخُذُ مِنْ مَالِ البيتِ دُونَ إِذن فينشأ لدينا حس الإختلاس والسرقة. نزيِّفُ الواقعَ لِوالدينا عِندَ حُصُولِ أي خِلافِِ مع إِخْوَتِنا فنكتسب الكَذِب.
نحَاولُ دائماً التدخل في أمور الآخرين و لا نحترم خصوصياتهم فنكتسب التَطَفُّل. نصرُخُ بصَوتِِ عَالِِ كَيْ لا نسمع الحَقِيقَة فنصبح لا نقبل النُصْح من أحد. نتلِفُ مُمْتَلَكاتِ الآخَرِيْن فنكتسبُ اللَّا مُبَالاة ، و الكثير الكثير من أمثال هذه المواقف التي تطبع شيئاً في داخلنا مع الأيام ثم نقرُّ نحن بذلك فتصبح جزءاً منّا شئنا أم أبينا.
حَقِيقَةً هكذا تَتَشَكَّلُ شَخصِيَّةُ الإِنْسَان يَوماً بَعدَ يَوم و يصبح في نهاية المطاف يرى نتائج أفعاله لكن غير قادر على تحديد السبب وراء ذلك فيدخل في دوامةِ جلد الذات فلا يجد الحل ثم ينتقل إلى إلقاء اللوم على الآخرين و ربما يختار "كبش فداء" ليدفع ثمن تلك الأفعال في كل مرَّة.
مَا أُرِيدُ أَنْ أُوْصِلهُ أَنَّ الأَمَانَةَ ، الصِّدْقَ ، الصَّرَاحَةَ ، حِفْظَ المُمتَلكَاتِ ، إِحتِرِامَ الآخَرِينَ ، قَبُولَ الآخَرِينَ مَهمَا كَانُوا مُختَلِفِينَ مَعَنا ، النَظَافَةَ ، حِفظَ اللِّسَان ... الخ ، لا تُولَدُ مَعَ المَرْء ؛ إِنَّمَا بالتَدرُّبِ عَليها لِتُصبِحَ جُزْءَاً مِنهُ و إلَّا فَسَتَتَشَكَّلُ نَفسهُ مِن نَتائجِ الإِختِبَاراتِ الحقيقيَّةِ التي مَرَّ بِها مَهمَا كانت بَسيطَة ، و سَيُصبِحُ مِنَ الصَعب أَنْ يُعيدَ الِإنسانُ بِنَاءَ ذاتِهِ التي تَرتَكِزُ على مَنظومِةِ السلوكاتِ المُتكرِّرة بالإضافة إلى عدم توفُّر آليةِِ واضحة لتقييم الذات. و هُوَ ليسَ بِالأمرِ المُستَحيلِ كذلك مَهمَا كانَ قَدْ تَقَدَّمَ في السِّن ، وهذهِ خَصيصَةٌ مُدهِشَةٌ مِن خَصائِصِ النَفسِ البَشَريَّة.
و لِحَلِّ هَذهِ المُعضِلَةِ علينا أَن نَقِفَ وَقفَةَ مُصارَحَةِِ مَعَ ذواتنا بدايةً بِطرحِ ثلاثة أسئِلَةِِ مُترابِطَةِِ مُتَتابِعَة :
ماذا نُريدُ مِن أَنفُسِنا أن تُصبح؟ هنا نقف مع نقاط ضعفنا و قوتنا و صورة الإنسان الذي نريد أن نصبح مثله .
أينَ نحنُ الآنَ مِمَّا نُريد ؟ هنا ننظر إلى واقعنا و كأنه على خط زمني مع صورتنا المستقبلية و الفجوة التي بينهما .
ماذا نَحتاجُ لِنُحَقِقَ مَا نُريد؟ هنا نضع خطوطاً عريضة لما نحتاجه بالتحديد كي نتمكن من الوصول إلى ما نريد.
إِذا وَقفنا هُنا بِجدِيَّةِِ مَعَ هَذهِ الأَسئلةِ الثلاثةِ على وجهِ التحديدِ سَنُحَدِدُ مَوَاطِنَ الخَلَلِ والثَغَرَاتِ و سنتمكن من معالجتها في الخطوة التالية و بِذلكَ نَسِيرُ خُطوةً لِلأمامِ نَحوَ نَفسِِ مَرِنَةِِ قابلةِ للتَّشكِيل . هُنا تَنبُتُ حاسَّةُ استشعارِ أخطائِنَا لَدَينَا و ذِرَاعانِ قَويَّتَانِ لِلنُّهُوضِ مِن جَدِيد.لا أَقصِدُ أَنْ نَصنعَ إنسَاناً مِثَاليَّاً خَالِِ مِنَ العُيوبِ و الأَخطاءِ و مُتَتَبِعَاً للعثرات ، بَلْ نَفساً تَقبلُ النُهوضَ بَعدَ التَعَثُّرِ ، نَصنعُ كائناً فِي دَاخِلِنَا يَقبَلُ النِّقَاش ، يَقبلُ أَنْ يَتَغيَّرَ لِلأَفضَل .
حَقيقةً إِرَادَةُ التَغيِيْرِ هِيَ الدَافعُ الأَسَاسيُّ لعمليةِ الإِصلاحِ فِي قَضيَّتِنَا هَذِه . الإِرَادَةُ يَصنَعُها الإِيمان. أمَّا التَغييرُ لِكَي يحصلَ فَهُنالكَ ثلاثُ مراحلَ متتابعةِِ علينا أن نَضَعَها في الحُسْبَان وهي : تَجمِيدُ الوضْعِ الحَاليّ ، يَليها البَدْءُ بِالتَغْييرِ ، ثم الإِنتقالُُ بِالتغييرِ إلى مَرحلة الإستِقْرَارِ و التَمكِين. و فيما يلي وصفٌ بسيط لكل مرحلة :
1 التَجمِيدُ يَعني التَّوَقُّفْ . عَدَمُ الإستِمرارِ و الإصرار . يعني بِداية جَديدَة.
2 خُطَّةُ التَغييرِ تتكون من العمليات و الأهداف التي نريد تحقيقها . و اختيار الأهداف هو ما يحدد طبيعة العمليات ، لذلك لا بدّ أن تكون الأهداف : محددةً ، قابلةً للقياسِ ، قَابِلةً للتطبيقِ ، وَاقِعيَّةً ، مُحدَدَةً بِزَمَنِ بِدَايَةِِ و نِهَايَة . هَذهِ العمليةُ تُمَكِّنُنَا مِن بِناءِ خُطَّةِِ واقعيَّةِِ تَتَناسبُ مَعَ قُدُرَاتِنا البشريَّةِ و تَحتَمِلُ إمكانيَّةَ التَعثُّرِ و البَدْءَ مِن جَديد . و ليست خُطَّةً "مريخيَّةً" تحوي أهدافً بَعيدةَ المَنالِ و تَعجيزيَّةً كَذلك.
3 المتابعةُ و التَقييمُ الدَّورِيُّ بِشكلِِ يَوميِِّ أَو أُسبوعيِِّ أو شَهريِِّ لِلسلوكاتِ سَيُضفيانِ نَوعاً مِن تَذوُّقِ النتائجِ و الإحساسِ بِقيمَتِها و مُقَارَنَتِها مَعَ السابقِ و هذا سَيُكسِبُ الإنسانَ دَفعَةً قويَّةً للإنتقالِ إلى مَرحَلةِِ أُخرى لا مَثيلَ لَها ، إنها مَرحلةُ الإنتِقَال مِنَ الوضعِ الطَبيعيِّ إلى مَا فَوق الطَبيعيّ ، سَتُصبِحُ جَائعاً للإصلاح ، مُتعطِّشَاً للتَّغيير ، هُنا تَبدأ الهَفَوَاتُ الصَغيرةُ بالإضمحلالِ و يَحِلُّ مَحَلُّها كُلَّ شَيءِِ جَميل ، ثِقَةٌ بِالنفسِ أَعلى ، طَريقةُ الكَلامِ تَتَغير ، رُدودُ أَفعالِِ مُنضَبِطَةِِ ، و على رَأسِ النَتَائجِ المُتَحَقِّقَةِ يأتي الإيمانُ بأنه لا يُوجد شيءٌ يُسمَّى مستحيل أَن أَتَغيَّر أو فاتني قطارُ التغيير.
أودّ الإشارة في النهاية إلى أنّ الإبتعاد عن عقدِ المقارنات مع تجارب الآخرين و القياس بأدواتهم سيساعد بشكلِِ كبير في عملية التشخيص و تحديد الإحتياجات الحقيقية للأفراد الذين يقودون عملية التغيير. فما يناسب غيرك ليس بالضرورة أن يناسبك ، و العكس صحيح.
-
Rami Mohammadمدوّن
التعليقات
أرى أن الدافع الساسي للتغيير ليس التجميد للوضع الحالي و انما قلب أوضاع الوضع الحالي على حين غرة و احلال مكانه وضع جديد يتوافق من متطلبات الظرف و حاجة الناس لهذا التغيير لأن العطش للتغيير يعتبر سبب من أسباب احداث التغيير ، ثم كآخر مرحلة فيه تمكين و ليس فيه استقرار لأن أعداء التغيير سيحاولون مرة و مرة و مرة لاحباط عملية التغيير لذلك الحذر واجب ، و سنة التغيير ليس فيها استقرار بل تمكين صحيح و الاستقرار ياتي كآخر مرحلة من مراحل التغيير ليحداث ما يسمى عودة محاربة التغيير من اعداء التغيير .سنة في الكون لاتتبدل
بالتوفيق دائما.