فقط افتحوا عيونكم.. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

فقط افتحوا عيونكم..

فقط افتحوا عيونكم..

  نشر في 21 شتنبر 2017 .

فقط افتحوا عيونكم..

هيام فؤاد ضمرة.. الأردن..

عجبت من أمر الحياة كيف تسير في وطني!.. فهل تترجل المروءة؟..

عندما أخذتني قدماي ذات عصر يوم إلى قلب المدينة النابض بالحياة، مدفوعة بالحنين لاستذكار الأماكن القديمة المرتبطة بذاكرة فترة شبابنا الأولى، حين كنا نتحرك بوسائل المواصلات الجماعية ما بين أماكن سكنانا والمدارس.. حيث الناس هناك هم أؤلئك البسطاء الذين لا تأسرهم السيارات الشخصية داخل غرفها المعدنية الفارهة، ولا لامست وجوهم اندفاعات هواء التكييف فيها، فيما تنبعث الأغاني الأجنبية من جهاز الراديو أو التسجيل فيها.. بل هم العامة من الناس ممن ينتشلون رزقهم بجهد وصعوبة فيما يشيحون وجوههم عن سقم الزمان، وتسير حياتهم وفق حسابات دقيقة مرهقة فتضيق الصدور على ما اختزنت من أمور

رحت أجوب الأرصفة المكتظة بالمشاه، وعيوني ترقب وجوه الناس المنشغلة بالتسوق أو بالانتقال من شارع إلى آخر وفقا إلى خارطة أعماله ومتطلبات احتياجاته، سرت في شوارع مدينتي عاصمة الغلابة والميسورين في آن معا، تماما كمثل أي عاصمة عربية تعيش هوج الطفيليين وعسر الفقراء وشبق الميسورين، هالني ما قرأته عيناي في الوجوه المكفهرة، وجدت كل الوجوه حولي عابسة ومنطفئة تماما، لا يكاد أحد من المارة يلحظ وجودي إلى جانبه، بل لا يكاد يحس بحركة الحياة حوله، لا تشد فضوله تلك البضاعة المعروضة بفيض كثيف وألوان زاهية تسرُّ الناظرين، وتكبحُ فوضى النزق، الجميع يسير كأنه دمية مبرمجة، جميعهم منشغلون بحالتهم الداخلية حد الاستغراق الموجع، مُترعي الهموم، يمشون على نظام البرمجة العقلية على ما تعودوا عليه بالاتجاه الذي خبرته ذاكرتهم، فتبرمج مع الوقت عقلهم عليه، وأصبحوا يسيرون بحركة دينامكية، شعورهم يستدل اتجاهه دون لزومية إعمال العقل، وكأن العقل يمارس حالة غياب وسفر للبعيد، انفصال ذهني مستغرق مع المكان والمحيط، يعرفون ما لهم وما عليهم وكأنهم راضون بالحرمان، منخرطون مع أنماط ارهاقات الحياة، اعتادوا السير بثقل حملهم الكؤود وأكتافهم المرتخية المتوائمة مع ظهرهم المكدود، حين التذمر ما عاد يجديهم حبسوا ألسنتهم داخلهم حلوقهم، واستجاروا برب أدركوا كرمه وهو يمنحهم الصبر مشفوعا بالأجر

رحماك إلهي يا من بيدك اللطف والعدل، ما الذي حلَّ بعقول الناس وأذهانهم؟ هل تبدلت بشريتهم ونفسيتهم وأشكالهم في هذا الزمان؟ أم تبدلت المدينة بحبها للحارثين بأقدامهم طرقاتها؟

كان طفلا يتبدى البؤس متجذرا في عينيه، يتسول بصوت خفيض ونفس مكسورة، ما عدنا نرى مثل هذا بالمتسولين الجدد بعدما باتوا يوظفون أنفسهم بالتسول ويتدربون على فنون استدراج الدنانير من جيوب الرحماء، فما الذي حل بهذا الصغير وما الذي أمات فيه الحياة بهذا الشكل

شغلني أمر هذا الصغير فاتخذت زاوية قصية أرقبه منها بعدما اشتريت كوباً من اللآيس كريم رحت أتناوله ببطئ شديد، أعترفُ رغم إغراء النكهة أني ما كنت أستطعمه، كنت أتجه بكامل اهتمامي ناحيته، فقد انتابني إحساس قوي أن أضراس الحياة قضمت من انسانيته الكثير.. حين كان يطاله اليأس من كرم أهل العطايا كان يستكين إلى جدار حجري ليستل مزمارا من البوص ربما هو من صنعه ويعزف عليه معزوفة حزينة كأنما يبث همومه من خلالها، والمارة هم نفسهم المارة لاهون عنه وعن الحياة نفسها فلم تعد أذنهم تسمع ولا أعينهم ترى، في انشغالهم طأطأة الخنوع وقد راوغتهم الدنيا حتى أنهكتهم

طلبت علبة أخرى من الآيس كريم وهممت بالتحرك ناحيته، لكني تراجعت فجأة وأنا أسائل نفسي: بأي حق أقدم لجائع آيس كريم المرفهين لأزيد بؤسه بؤساً؟ اتجهت نحو مطعم قريب يعلق سيخا ضخما من الشاورما أشجت رائحته أنفي، ليصيبني التردد والتساؤل من جديد: أتراني أيضا سأظلمه لو أنه ذاق طعمها؟

لكني طلبت أربعا من السندويشات واقتربت منه وسألته: أتسمح لي أن أشاركك الغذاء؟ نظر في وجهي متفحصاً وسائل يلمع بعيونه (مترغرغاً) لست متيقنة أهو الدمع أم البريق؟

قابلني صمته بحيرة، فافترشت زاوية العتبة الرخامية لأحد المحلات وشددته من طرف قميصه ليفعل مثلي، فاستجاب على تردد، ناولته كيسا به سندويشتين واحتفظت بالكيس الثاني وتناولت سندويشتي ورحت التهمها وعيوني تتابعه، تناول هو الآخر سندويشه وهم بتمزيق غطائها الورقي لكنه تراجع كمن تذكر أمرا للتو، وأعاد السندويشة إلى الكيس وأغلق عليها، فتساءلت باستغراب ماذا تفعل ألا تريد مصاحبتي بالأكل؟

رد الصبي بخجل: اعذرني عماه أفضل الاحتفاظ بها لأتقاسمها مع إخوتي!

فتوقفتُ عن الأكل وقلت له بحماس: حدثني عن قصتك وأمر إخوتك!

نظر في وجهي بانكسار والدموع هذه المرة تنهمر بلا تردد، كأنما تبعثرت فيه ذاته وانسل وجعه من أعماقه، ربَّتُ على كتفه وشددته إلى صدري، وعجبت من أمر مشاعري البليدة كيف تحركت بأبوة لم أذقها بحياتي، وأحسست بقلبي يستشعر الشفاء، قال وسط دموعه: اشتقت إليها كثيرا وأخشى أن تعامل معاملة سيئة!

سألته بفضول طفل: من هي؟؟ عمن تتكلم؟

قال: أمي!.. لقد سجنوها ولم يرحموا طفولتنا، وحين حاولوا إرسالنا متفرقين إلى دور رعاية الأطفال تبعا لأعمارنا قررت خطف أخي وأختي وهربت بهم عن العيون ولجأت بهم إلى خرابة مهجورة، نتناوب أنا وأخي حراسة أختنا فيما الآخر يحاول القيام بعمل شريف متاح، فإن لم يتسنى ذلك يتسول قوت ذلك اليوم، اتفقنا أن نجعل التسول آخر حلولنا!

صرخت: وأباك.. أين أبيك

فانهمرت من جديد دموعه، ففي صحراء اليتم تضيع معالم الأبوة ويموت كل شيء: دُهس تحت دواليب ناقلة ضخمة.. هرسته في لحظة ضالة أثناء عمله بالميناء، وأمي من بقايا حرب طحنت مع الحياة أرواح أهلها فبقيت وحيدة يجففها الكرب، وأي بؤس تأتيه رياح العدم سرعان ما يحبل بالنكبات، فشل مشروعها في الخياطة واستحق القرض السداد، فحق عليها السجن

إيه يا مدينة الأموات، الذئاب تعوي خلف بؤس الفقراء، وهذا الجوع لا يرحم، ينسخ من الموت أمواتا تقسو عليهم الحياة، فافرغي قبح وجهك في الجراح ودعي القيح يطفو على سطح الأفق البعيد علَّ العيون ترى ما الحياة تحول دون رؤياه

ليس رعايتي هؤلاء الأيتام وأمهم وحدها من أفاض في رزقي وأثرى خزينتي، بل رحلتي إلى قاع المدينة العامر دوما بالمآسي أثار مكنون الرحمة داخلي فهاجت عزيمتي للعطاء وانهمرت أنهار اجتهاداتي لأجعل الرحلة ديدني الدائم لالتقاط البؤساء بعيدا عمن اصطبغوا بألوان الزيف وأحدثوا النشاز

فلا توقفوا خيركم بحجة المستغلين، فهذا الزمن ملوَّث حقا بالفاسدين والملوثين بالزيف والمنخرطين بالغش، لكنه أكثر فيضا بالبؤس والبؤساء، فقط افتحوا عيونكم وانظروا حولكم على أرصفة قيعان المدن، واسعفوا أرواحكم وأرواحهم بفعل الخير


  • 2

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 21 شتنبر 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا