أسباب الاضطرابات النفسية وانحرافات الشخصية في ضوء الفكر الإسلامي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أسباب الاضطرابات النفسية وانحرافات الشخصية في ضوء الفكر الإسلامي

  نشر في 07 مارس 2017 .

يُرجع العلماء المسلمون الاضطرابات النفسية وانحرافات الشخصية إلى انحراف العقيدة وزيغ العقل واتباع الشهوات وعدم ضبط الانفعالات، أي إلى اضطراب في العقيدة، والعبادة، وفي التفكير والمشاعر والدوافع والسلوك.

وأول هذه الأسباب :

1 – انحراف العقيدة: فهو الانحراف الأساسي في الشخصية، لأن عقيدة التوحيد هي الأساس التي تقوم عليه شخصية المسلم وحياته.

فالإيمان ينسجم مع الفطرة التي خلق الله تعالى الناس عليها، والشرك هو نقيض الفطرة، وبالتالي حين يقع هذا التناقض بين الإيمان والشرك في قلب الإنسان فيتصادم هذا مع ذاك، وينشأ عنه فساد في التصور واضطراب في السلوك، قال تعالى:( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) (الأنعام:82)، فاللبس هو الخلط، والظلم هو الشرك. وبالتالي فإن الذي يؤمن بالله تعالى ولا يخلط إيمانه بشرك، له الأمن المطلق في نفسه وفي مجتمعه في الدنيا والآخرة.

2 – مخالفة الفطرة: إن النفس تعاقب ذاتها عندما يخالف الإنسان الفطرة التي جبل عليها، فالأمراض النفسية مثل القلق والتشاؤم والكآبة والضيق والخوف والحزن المرضيين، هذه المشاعر كلها ناتجة عن مخالفة مبادئ الفطرة، ونقض العهد الذي تعهد به الإنسان، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) (الأعراف:172)، فالإنسان اعترف بوحدانية الخالق وجبل على ذلك، فعندما يخالف ويناقض هذا العهد تعذبه نفسه، ويظهر هذا العذاب بمظاهر متعددة منها: ردود فعل قاسية، وكلمات لا تحتمل، وبضجر وملل وضيق، مما يؤثر على معاناته من ضيق داخلي.

3 – الانحراف وعدم التوازن في:

أ - إشباع الدوافع والشهوات:

حين يختار الإنسان الانسياق وراء الملذات الدنيوية، ويصبح عبداً مطيعاً لأهوائه وشهواته، وينسى الغاية من وجوده، ودوره الذي خلق من أجله، يصبح في معيشته أشبه بالحيوان، بل أضل؛ لأنه لا يستخدم عقله الذي ميزه الله به عن الحيوان، قال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) (الفرقان:43-44).

والناس حين ينحرفون في إشباع شهواتهم لا يسلمون من نتائج هذا الانحراف، بل يصيبهم الاضطراب والضنك في المعيشة الدنيا، فضلا عن العقاب في الآخرة.

يرى الإمام الغزالي أن الصحة النفسية للفرد تتم عند تحقيق ذلك الفرد للتوازن – الذي هو الاعتدال بين الإفراط والتفريط – بين بواعث نفسه، وهي عنده كالآتي:

- بواعث هوى: وهي عبارة عن شهوات وملذات مادية جبلية خلقها الله في الإنسان وأودعها فطرته لحفظ نوعه واستمراره في عمارة الأرض، فتركها كلياً أمر مذموم، والاعتدال في طلبها أمر محمود.

- بواعث هدى: لإشباع حاجات روحه وتحسين حاله دنيا وآخرة، وهي توكله على الله ومحبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وحب القرآن والخوف والرجاء والذكر والشكر.... كما يذكر – رحمه الله – أن القلب المخذول أو العليل هو المشحون بالهوى الخاضع لشهواته تذله وتشقيه ( 1).

وخلاصة القول عند الغزالي أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم النفس ومرضها.

ويبين ابن قيم الجوزية- رحمه الله – دور النفس الأمارة بالسوء في إحداث المرض النفسي، فهي التي تأمر بإشباع الدوافع والحاجات بغير الطريق الذي حدده الإسلام لإشباعها، وتدفعها إلى ذلك قوة الدافع ووسوسة الشيطان، فعنده الصحيح والمريض نفسياً هو من غلب نفسه الأمارة أو غلبته نفسه، يقول رحمه الله في ذلك:" والناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعاً لها وتحت إرادتها. وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، وصارت طوعاً لهم منقادة لأوامرهم"( 2).

ب - ضبط الانفعالات:

أودع الله تعالى الانفعالات في الإنسان لغاية وهدف، ودورها إيجابي في حياة الإنسان إذا ما اعتدلت وبعدت عن الإفراط والتفريط، فانفعال الغضب مثلاً، يساعد الإنسان في الدفاع عن نفسه ومعتقداته عندما تتعرض للمواقف الخطرة الطارئة؛ لكن الغضب إذا زاد عن حد الاعتدال قد يؤدي للاضطراب، وإحداث تغيرات فسيولوجية في الجسم، مما يؤدي إلى حدوث أمراض جسدية ترجع في أساسها إلى أسباب نفسية، مثل: الربو، والصداع النصفي(الشقيقة)، وارتفاع ضغط الدم، وقرحة المعدة..

هذا على الصعيد الجسدي، أما على الصعيد النفسي، فإن الاستمرار في الغضب لمدة طويلة ولأتفه الأسباب، قد يؤدي إلى سوء التكيف مع المحيط.

ولما كان الإنسان غير قادر على التحكم بالمواقف المثيرة للانفعال، إلا أنه قادر على التحكم بالاستجابة السلوكية للموقف المثير.

يرى أبو زيد البلخي "أن لنفس الإنسان صحة وسقم، كما لبدنه صحة وسقم، وصحة نفسه أن تكون قواها ساكنة، ولا يهيج بالإنسان شيء من الأعراض النفسانية (ولا يغلب عليه) كالغضب أو الفزع أو الجزع"(3 ).

ويقرر – رحمه الله – أن الغم أقوى أسباب مرض النفس، وذلك في قوله:" أن الذي يرأس الأعراض النفسانية المؤذية، وهو لها كالأصل: إنما هو الغم، وهو مقدمة لجميعها، وموجود في كل منها، كالغضبان فإنه يغتم من الأمر، ثم يغضب بسببه، وكذلك الجزع والخوف"( 4).

4 – الانحراف في تحقيق غاية الوجود:

إذا انحرف الإنسان بفكره ومشاعره وسلوكه عن تحقيق غاية وجوده، فقد يتمتع؛ ولكنه متاع الحيوان، الأمر الذي يفقده البركة والطمأنينة في حياته، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (محمد:12).

والله تعالى جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان دوراً يؤديه، لتحقيق الغاية من وجود الإنسان على هذه الأرض، وهي العبادة والخلافة وتحمل الأمانة. وإذا لم تقم هذه الأعضاء بدورها التي خلقت من أجله، حصل لصاحبها الألم بحسب اختلال دور هذا العضو أو ذاك.

فالعقل الذي ميز الله به الإنسان عن سائر المخلوقات، له دور يقوم به، يساعد الإنسان لتحقيق غاية وجوده. وقد تصيب العقل عدة أمراض إذا لم يقم بهذا الدور، أو إذا قام به منقوصاً أو مضطرباً، ومن هذه الأمراض: التقليد الأعمى، التمسك بالخرافات وتغلب الوهم، التناقض الفكري، تحريف وتبديل الحقائق، اتباع الظن والجدل من غير وجود أدلة علمية، تعطيل استخدام العقل، والجهل.

أما أمراض القلب بحسب القاعدة السابقة، فهي:

الغفلة عن ذكر الله تعالى، إصابة بصيرة القلب بالعمى، تعرض القلب للارتياب والشك والحيرة، الرين الذي يلبس القلوب من كثرة الذنوب والخطايا، الطبع والختم على القلوب، ويمكن تصنيف أمراض القلب من حيث أسبابها، بأنها:" مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي"( 5).

5 – المشاكل وأحداث الحياة القاسية:

ليست المشاكل وأحداث الحياة هي المسؤولة عما يصيب الإنسان من أمراض نفسية، بل المسؤول هو الإنسان نفسه، وذلك من خلال نظرته ومفهومه لتلك المصائب، فخلفية الإنسان العقدية هي التي تؤثر في استجابته لهذا الموقف المشكل الصعب أو ذاك، ويختلف الناس بناء على ذلك في استجاباتهم لتلك المواقف، فيكون المثير واحداً، لكن ردود الفعل والاستجابة تجاهه متباينة.

وفي نهاية الحديث عن الأسباب الكامنة وراء الأمراض النفسية وانحرافات الشخصية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، رأي اثنين من العلماء المسلمين في ذلك:

أ – يرى ابن مسكويه أن أمراض النفوس واحدة من حالتين:

- أسباب مصدرها الذات، ناتجة عن التفكر في الأشياء الرديئة، تؤدي في النهاية إلى الخوف من الأمور العارضة والمرتقبة(أسباب نفسية).

- أسباب مصدرها المزاج والحواس، ناتجة عن اعتدال في المزاج أو اختلال في عمل الحواس (أسباب جسدية)( 6).

ب – بينما يرى الراغب الأصفهاني أن سقم النفس أو مرضها في رذيلتها، ويعطي جملة أسباب لهذا السقم الذي يؤدي بالإنسان إلى الرذيلة ويبعده عن الفضيلة، ومن هذه الأسباب التي يراها:

- إما أن يكون نقصاً في أصل خلقته ( أي نقص جسمي أو إعاقة جسدية).

- أو عجزاً مركباً في جبلته ( سبب وراثي).

- أو لا يجد هادياً يرشده ( تنشئة أسرية واجتماعية).

- أو لم يساعده عمره في بلوغه (مستوى النضج).

- أو لا يجد مربياً ومعلماً يبعد ضلالته ( تعلم وإرشاد نفسي).

- أو أن تكون ضلالته من جهة نفسه هو، لا من جهة شيء مما سبق (دوافع نفسية داخلية)( 7).

وهكذا، فإن الاضطرابات النفسية وانحرافات الشخصية عند العلماء المسلمين هي في ابتعاد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى وعن طاعته، وإن كانوا قد اختلفوا في جزئيات الأسباب وتفصيلاتها الثانوية.

------------------------------------

1 ) الغزالي، إحياء علوم الدين، ص972-976

2) ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ، ج 1، ص90.

3 ) أبو زيد البلخي، مصالح الأبدان والأنفس، ص511.

4) المصدر نفسه، ص520.

5) ابن قيم الجوزية، الطب النبوي، ص41

 6) ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص89-92.

7) الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، ص99.


  • 3

  • د.فاطمة أحمد عميص
    لبنانية حاصلة على اجازة جامعية في علم النفس وماجستير ودكتوراه في الدراسات الاسلامية ، قسم التأصيل الاسلامي للدراسات النفسية
   نشر في 07 مارس 2017 .

التعليقات

ما شاء الله ، الله يزيدك من علمه ورحمته ويوفقك الى كل خير ويرزقك الذرية الطيبة .
0
عمرو يسري منذ 7 سنة
مقال موسوعي رائع .
بالتوفيق يا دكتورة .
1
د.فاطمة أحمد عميص
شكرا أخ عمرو..دمت بعافية

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا