النبي موسى شهيد التوحيد - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

النبي موسى شهيد التوحيد

فرويد وسيكولوجية التاريخ

  نشر في 10 ديسمبر 2023  وآخر تعديل بتاريخ 02 مارس 2024 .

في كتابه "موسى و التوحيد"، يبتدأ سيغموند فرويد طرحه، من خلال مقاربة سيكولوجية للتاريخ، بفكرة صادمة مفادها أن موسى شخصية مصرية، فالكلمة موسى نفسها هي مصرية تعني الطفل. يقرن فرويد قصة ميلاد موسى بشخصية سارجون الأكادي، مؤسس بابل حوالي 2800 ق.م. الملاحظ أن نفس نمط القصة يتكرر مع شخصيات تاريخية أخرى كقورش، رومولوس، أوديب، كارنا، باريس، برسيوس، هيراقليس، وجلجامش، الخ. يؤكد فرويد على أن أصل خرافة موسى مصرية حيث أُنذر فرعون، عن طريق حلم، أن إبن إبنته سيشكل خطرا عليه في يوم من الأيام وعلى ملكه. ولهذا أمر فرعون بأن يلقى الطفل فور ولادته لمياه النيل. أنقذ اليهود موسى وربوه كأنه واحد من صلبهم. في رأي فرويد، تم تعديل خرافة موسى لدوافع دينية وقومية صرفة. كان موسى، بالتالي، في أصله مصريا نبيلا جعلت منه الأسطورة شخصية يهودية.

يؤكد فرويد على أن الديانة اليهودية تعود بجذورها إلى الدين المصري بإمتياز. بالرغم من تاريخ مصر الديني المتنوع والمتعدد الآلهة (Polytheistic)، فقد شهد تاريخ الحضارة المصرية، بالضبط في عهد السلالة الثامنة عشرة، أي في حوالي السنة 1375 ق.م، ملكا شابا عرف في الأول بإسم أمنحوتب الرابع ثم غير بعد ذلك إسمه إلى أخناتون. كان أخناتون طيلة حكمه، والذي دام 17 سنة، يدين بدين التوحيد (Monotheism) ويرفض ديانات التمائم، والسحر، والطقوس التي تمثلت في معبودات عديدة من أهمها ديانة أمون (إله المدينة ذي رأس الكبش)، رع (إله الشمس ذي رأس الصقر)، وديانة أوزيريس (إله الأموات).

حاول اليهود طمس العقيدة القديمة، وذلك، كما يقول فرويد، عن طريق الإنسلاخ الكلي من فكرة الخلود أو وجود الحياة بعد الموت الذي كانت تشكل أساسا لكل ديانات مصر القديمة. موسى وهب دينا جديدا للعبرانيين، ووطد أيضا عادة الختان المصرية الأصل التي سيكون لها الباع الأطول في تمييز الشعب اليهودي عن باقي الشعوب و الأعراق، وتثبيت فكرة "شعب الله المختار". يجدر هنا الإشارة أيضا إلى أن سبب كراهية اليهود للخنزير يعود إلى قصة خرافية مفادها أن الاله «ست»، الخنزير الأسود، قد جرح الرب «حوريس».

لعل موسى كان في الواقع نائبا لأخناتون على الإقليم الواقع عند الحدود المصرية (أرض جاسان) والذي كان تعيش فيه بعض القبائل السامية منذ أيام الهكسوس. فمن هذه البقعة الجغرافية ومن بأس هذه القبائل المهمشة أراد موسى أن يخلق شعبه الجديد. كان موسى شخصية حربية، كما يروي يوسيفوس مع تعديل طفيف، له مآثر عدة في الحبشة، إضطره حسد ومكر الفرعون الجديد، حورمحب، وحاشيته على الهجرة والخروج من مصر، باحثا عن تعويض لما شهدته العقيدة الجديدة من طمس وتهميش.

موسى كان أجنبيا غريبا لا يفهم لغة العبرانيين، لا يستطيع التواصل معهم دون وسيط أو مترجم (موسى كان "ثقيل الفهم و اللسان" سفر الخروج - الإصحاح الرابع). كان اليهود قبل الدين التوحيدي يعبدون إله يدعى يهوه، هذا الإله هو إله البراكين إقتبسه العبرانيون من قبيلة المديانيين العرب المجاورة. يؤكد فرويد على أن أصل ديانة العبرانيين هي ديانة موسى التوحيدية، لكنه يضيف أنه، على إمتداد 800 سنة بين "الخروج" التوراتي وتدوين عزرا ونحميا للنص التوراتي، حدث توافق رجعي أدى إلى العودة إلى الديانة الموسوية الأصلية.

يفترض فرويد، و هي النقطة التي أثارت جدلا كثيرا، أن اليهود قد قتلوا موسى؛ الشخصية المؤسسة والزعيم الروحي. فقد تمرد اليهود يوما ما على موسى وإغتالوه وألغوا ديانة اتون كما فعل المصريون تماما. ما حدث بعد ذلك هو أن العبرانيين إنصهروا مع باقي القبائل المحيطة بهم، وهناك في منطقة خصبة تسمى قادش، إعتنقوا تحت تأثير المديانيين العرب ديانة إله البراكين، ديانة يهوه، وقاموا بعد ذلك بغزو أرض كنعان.

يسمي فرويد الفترة التي تلت إغتيال موسى بفترة "الكمون"، فهي فترة تميزت بسقوط العقيدة الموسوية وإنحطاط قيمة الطقوس والعامل الأخلاقي لدى العبرانيين. لقد شكلت فترة الدين الموسوي ما يسميه فرويد "بالمأثور"، هذه الفكرة لم تنقضي، بل ترسخت في اللاوعي الجمعي للعبرانيين على إمتداد قرون طويلة وتجلت في اخر تمظهراتها، في رأي فرويد، في مفهوم الخطيئة الأصلية المسيحي، حيث تبرز بكل وضوح الجريمة التي إقترفت ليس فقط بحق موسى، بل بحق الذات الإلهية (مفهوم الإله الأب كأول مظهر من مظاهر السلطة والأخلاق) والتي لا سبيل إلى التكفير عنها إلى بالموت وحده. المجموعات البشرية، يؤكد فرويد، تحتفظ بإنطباعات الماضي في شكل مأثورات وبقايا ذاكرية لاشعورية.

يميز فرويد بين "الأنا الحقيقي" وال "هذا". ال "هذا" هو أقدم من الأنا الذي إنفصل عنه تحت وطأة الظروف الخارجية. في ال "هذا" تتصارع غرائزنا الجنسية البدائية، حاملة معها سيرورات تطورية لاشعورية خلفتها تجارب أسلافنا. ينتمي المكبوت إلى ال "هذا"، ويخضع بذلك لقوته وسطوته. يستنتج فرويد أن البشر قد عرفوا في الماضي أبا بدائيا وأنهم قتلوه شر قتلة.

يشعر الإنسان بحاجة ضرورية إلى سلطة عليا تسيطر عليه وتسير أموره. يفسر فرويد هذه النزعة بفكرة "الإنجذاب نحو الأب"، هذا الشعور ينقل إلينا منذ طفولتنا مأثورا دمويا ومأساويا، فكرة مفادها أن الإنسان فيما مضى قد قتل الأب الأسطوري وتغلب عليه. هذا الأب البدائي قد عاقب أبنائه فيما مضى بالختان، حيث كان كل من يقبل بهذا الرمز تحت السيطرة والمشيئة الأبوية، حتى ولو كان سينشأ عن ذلك أسوأ الآلام وأشنع التضحيات.

خلاصة كتاب فرويد أن الدين التوحيدي الموسوي لم يمارس أي نوع من السلطة على العبرانيين إلا يوم تحول إلى مأثور. يوم أعطى موسى العالم كله فكرة إله واحد، فإنه في الواقع لم يأت بشيء جديد، وإنما أعاد للحياة حدثا قديما ومأثورا يرجع إلى الأزمنة الغابرة من تاريخ الأسرة الإنسانية، حدث غاب عن الذاكرة الجماعية للبشرية منذ أقدم العصور.


  • 1

   نشر في 10 ديسمبر 2023  وآخر تعديل بتاريخ 02 مارس 2024 .

التعليقات

تحليل مثير يجعلنا ننظر إلى كتاب "موسى والتوحيد" من زاوية جديدة. شكرا لمشاركتك هذه الرؤية معنا.
0
إلياس شتواني
تحياتي لك صديقي.
Achraf Bachri منذ 5 شهر
مقال هام و مفيد جدا.
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا