بحر لا حدود له ، كلما قصدته غرقت فيه ، وكلما تحدثت عنه قرفت منه ثم حرت فيه ، لا حدود لوصفه ورسمه ، ولأنه حياة و سبيل عيش كان لا معنى لحصره في مفردات من صلبه ، وإن طغى جمال الرسم يأخذ بمأخذ التسلية العابرة ، حتى انحسر ماؤه وصار كالنبع ، تطاله المفردات وتبلغه حدود العين و تحيط به المكتبات و الجوامع ، هذا البحر إنما هو اللغة العربية التي أصبحت ملمح أندلسي ، ترف ومجد غابر يزين متحف التاريخ ، ونحن أخذنا موقف مماثل للذين فصلوا الدين عن الدولة ، فعزلنا " ولو دون إدراك وعبر عبث السنين " اللغة العربية عن الحياة وربطناها بالدين ، متناسين أن عروبتنا قبل إسلامنا وأن الإسلام جاء ليتحد من اللغة العربية ويرسّخها ويقويها لا ليحصرها فيه ، أنا لا أقول أن الأقدمية للغة العربية فدين الله حي من الأزل قبل الإنسان و اللغات ، ولكن أعني بالأقدمية فقط في ذاكرتنا و عرفنا كعرب ، فأخذنا بعبارة " اللغة العربية هي الدين " و أجزم أننا سننجو لو أخذنا بالمعنى الحقيقي لتلك المقولة ، و لا ننكر أن توجه الإنسان الروحي أعمق من كل شيء ، ولكننا على العكس تعاملنا مع اللغة العربية كان على أنها أداة وقالب لوصف الجمال ، مع أن الحقيقة تقول أن اللغة العربية هي الجمال بذاتها ، ولا أعني الجمال اللغوي الذي تطرب له الذائقات ، بل أعني الجمال الحقيقي الذي ترتديه صور الخير في الحياة كالعزة و الفخر و الأمانة و الصدق و الشرف ، ولكن معظمنا يصيغ العجب و ما ترف لجماله القلوب وهو يحمل بداخله روح جوفاء تسخر من حقيقتها الحقيقة ، اليوم عندما أتحدث عن اللغة العربية لا أستطيع أن أشعر بها أنا فقط أفكر بها ، أفكار مجردة لا تروي عطش الحقيقة ، أصحبنا نتعلم العربية لكي نستطيع أن نقرأ القرآن " وليتنا صدقنا " ، فترانا نقرأه و لا ندرك منه إلا الأحكام المباشرة ، ولجهلنا في الإبحار وفنون الغوص تعثرنا كثيراً بالموج .. كثيراً بالحياة ، تكلمنا بشبه لغة حتى عشنا شبه حياة ، أدخلنا على لغتنا الميوعة و الخفة فغدونا مائعين في بحر من التناقضات و الأفكار المتنافرة ، فلم تعد أفعالنا قاطعة كالسيف ولم تعد كلماتنا راسخة كالجبال ، نطقنا بلسان هجين حتى صنعنا مجتمع هجين الثقافة و المبادئ والقيم ، تعلمنا لغة أخرى بهدف معرفة مخططات قومها و غاياتهم وبغرض التوسع المعرفي ، فصارت حياتنا تضج بعباراتهم وشعاراتهم و معتقداتهم المبطنة ، وأصبح العبقري من أبنائنا هو الذي يتحدث بلسانهم ليس ذاك الذي يصدح بالقرآن ترتيلاً و تجويداً ، زحفت لنا ثقافات كثيرة عبر قناة اللغة بلا تنقية ، وصارت لغتهم هي الغاية بذاتها بعد أن كانت وسيلة ، وصنعنا بأيدينا منهم أسطورة و دليل حضارة ، وأضعفنا دور اللغة العربية بعزلها عن الحياة وعن كونها محرك ثقافي ، وحلنا دون توسعها و انتشارها وحولناها مع الزمن جوهرة نادرة يتغنى بها ، وفي الختام أقول " اشوفكم على خير السنة الجاية " وعاد عيد اللغة !