كيف يكون الإنسان مقفلاً على ذاته وهو منفتح اليوم على العالم بفضل وسائل الإتصال المتاحة لكل صغير وكبير على هذه الأرض ، وبفضل سهولة التنقل في أرجاء المعمورة ! إنها إزدواجية تجعل من صاحبها مكمناً للبؤس والشقاء ، وإن تعلّل بالقول : أن مافي هذا العصر من قتل وتدمير وظلم وبطش يسلب من الإنسان صفاء نفسه وسلام روحه ، ويرديه فريسة للشناعة المستحكمة فيما حوله ، ويجعله غير قادر على المحبة والتعايش مع الآخرين .
مع العلم أنه مامن إنسان يعيش بمفرده في جزيرة معزولة أو صحراء فارغة ، إن المجتمعات البشرية في عصرنا هذا وليدة مدنيّة عريقة ، فهي قائمة على نظام مؤسساتي متشابك ، لا بد للإنسان من أن يكون عنصراً منتمياً إليه ، لذا لابد له من التعايش مع الآخرين ،لا بد من تبادل الخدمات والمعلومات والأنشطة ....وفي ظل ضرورة هذا النظام التبادلي أليس جديراً به أن يعمر قلبه بالحب ، الحب الذي -وحده - يمكنه القضاء على الشناعة والظلم والفتك ، الحب الذي يستطيع مواجهة كل ذلك ، لا الكره والانزواء .
إن تاريخ البشرية مليء بالحروب والدماء والويلات ، ولا يكاد يختص بشعب دون غيره ، وهو أيضاً عامر بالحب والشعر والفنون والعمران ، بالحب استطاع الإنسان التخلص من قباحة الكراهية ، وبالحب استطاع أن يعمر الكون متعاوناً مع أخيه الإنسان ، فإن نحن تعلمنا أن نحب الآخرين نستطيع أن نتعلم ونكمل ما ينقصنا ، حتى وإن كانت تفاصيل صغيرة ، أوليست التغاصيل الصغيرة هي من يضفي إلى يومنا بعض الجمال ! أن نحب الآخرين الذين هم ( غيرنا ) أي المختلفين عننا في المعتقد أو العرق أو الشكل واللون أو الفكر .... لأننا جميعاً أبناء البشر ، أبناء الأرض ، منها أتينا وإليها نعود .
ما ألطف تلك السيدة العجوز التي صادفها الأديب نيكولاس كازنتزاكيس وهو في طريق رحلته الأولى في اليونان ، كانت السيدة راجعة من الكرم وفي يدها سلة مغطاة ، اقتربت منه مبتسمة وكشفت الغطاء عن التين وقدمتها إليه قائلة ؛ تفضل كُل يا بني . فسألها الأديب مندهشاً : هل تعرفينني يا أماه ؟
أجابت : كلا . لكن أنت إنسان وأنا إنسان وهذا يكفي .
لقد أمر الله بحب الإنسان لأخيه الإنسان في كل الأديان ، وقد فضّل الإنسان على كافة مخلوقاته فمنحه العقل والوجدان ، ونهاه عن ظلم أخيه الإنسان ، وهذا هو الحب الخالص دون قيد أو شرط . كما عند الفيلسوف الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي :
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني .
( فليحب أحدكما الآخر ، ولكن لا تجعلا من الحيب قيداً ، بل اجعلاه بحراً متدفقاً بين شواطىء أرواحكما . )
هكذا أوصانا جبران خليل جبران . فلنكن كما يجب أن يكون أحفاده .
------------------------------------------------
-
خولة رمضاندرست اللغة العربية وآدابها، عملت في الكتابة والنشر. نشرت المقال والبحث والقصة في عدد من المجلات والصحف العربية. مثل مجلة دراسات عربية والمعرفة والوحدة. ومن الصحف السفير والمستقبل والمدينة