حين نُقلِّبْ أوراقنا الصفراء..
هيام فؤاد ضمرة..
كثيرا ما تفتح الذاكرة في أذهاننا منافذ مضيئة؛ من عمق غرفها الداخلية البعيدة؛ لتنفض الغبار عن أحداث قديمة لا نودها أنْ تبتعد حدّ الغياب، لا نرغب بالنبش الدفين، فالذاكرة الجميلة في الغالب لا تحتمل إبعاد مخزونها على الأرفف البعيدة، إنها تتقوقع في مكان قريب تحت متناول يد الاسترجاع، ففي داخلنا بقايا لأناس رحلوا وتركوا لأصواتهم صدى في مسامعنا.
كان يوما من أيام نهايات فصل الشتاء، وقد أجهدته طول رحلة باردة غشى فيها الأرض فيض من غدق أسال السيول وأغرق الوديان، وقد بدت الأرض في ارتوائها سكرى تغشاها الخضرة وتطرز وشاحها زهرات شقائق النعمان والدحنون والسوسن بالألوان المختلفة، والأماكن ترخي أطراف ثوبها في أعقابها كفاتنة تستعرض ثوب احتفالها الأنيق، وقد تنبهت فيه الشمس من مرقدها لترتدي معطف دفئها وتبث أشعاعاتها بتراخي متثائب.
تجمَّع فريق الثقافة في رحلة ثقافية خارجية نظمها المنتدى الثقافي لأعضائه المبدعين، وقد حمل كل شاعر حمولته من القصائد ليلقيها على مسامع فريق الرحلة المتذوقين، هناك على شاطئ البحر الميت ليغسلوا حروفهم في أعماق ملوحة مائه، وتتناثر أصواتهم جهاراً بأجمل الصور والتعبيرات الشعرية.
تحركت ثلاث مركبات شخصية تتبعها الحافلة الصغيرة في موكب رائع، ترتفع فيه الأيدي المحيِّية لبعضهم البعض، تصاحبها جوقة الابتسامات كلما تقاربت الحافلة من احدى المركبات، كتعبير متشدق بالألفة والغبطة على حد سواء، وفجأة مال الموكب وتوقف داخل ساحة إحدى محطات البنزين على الطريق إلى بحيرة لوط المالحة، وأعلن عن نسيان أحد المشاركين كانوا فهموا بالخطأ أنه لا يرغب بالمشاركة، وتبين أنه كان ينتظر مرورهم عليه حيث مسكنه في طريق تحرك القافلة، كان ذلك الشخص هو الأديب الشاعر سعد ناصر الدين رحمه الله، رجل كبير بالسن يعاني اختلاط الأمراض، ولهذا لا يجوز أن يحضر بسيارته الخاصة ويتكبد تعب السواقه عبر الطريق مساءاً حين العودة، فعادت إحدى المركبات لإحضاره تقديراً لوضعه وقيمته، فيما بقي الموكب في انتظار عودتهما.
وانضم الأستاذ سعد إلى عربة الشاعر علي السيد التي كنت استقل مقعدها الخلفي، وواصل الموكب سيره نحو وجهته.
قال لنا بحرج شديد وهو يفرك كفيه ببعضهما: كنت خائفا ألا تساعدني صحتي بالثبات خلال الرحلة فامتنعت، لكني أحسست بقوة عجيبة في داخلي حين عرفت بوجود النخب المفضلة مشاركون بالرحلة، فقررت تحدي وضعي الصحي، والتغلب على آلامي والانضمام إليكم.. سامحوني إنْ سببت لكم الإزعاج!
في الواقع كان الأستاذ سعد ممن له حضور الأب الحاني، في قلبه كثير من رحمة ورأفة يمكنك أن تقرأها على قسمات وجهه، يحترمه ويقدره جميع الأدباء والشعراء لدماثته وحسن تعامله وتعاونه، فالطيبون يرحلون ويتركون عطر ياسمينهم بين أصدقائهم، البشر كثيرا ما تغمر أرواحهم احساس الخلود، فيستبعدون الموت والغياب، فتأتي المباغتة لتقطع اتصالهم بالدنيا، هكذ هي سنة الوجود، فالدنيا تستقبلنا لوقت محدود وتودعنا في نهاية المطاف.. لو كنا نتذكر الموت بالشكل اليومي هل كنا سنعرف سر لحظة افتضاض الحياة بالموت؟..
هناك من الناس من تعرج فيهم منازل الحياة بتؤدة، وهناك من يلوح بهاؤهم أينما حلوا فتتفجر لحكاويهم ينابيع الذكرى، وهناك من ترهقهم المعاناة فيأفلون مستسلمين للغياب.
جميل أنْ يحيا الانسان كجدول الماء المنساب عبر مجراه، يستقي ماؤه من نبع متدفق لا ينتهي، ويمنح الأذن صوت خرير مؤنس، هكذا هي الحياة جيل يسلم الراية لجيل، فتبقى الأرض هي الأرض بعمارها وقيامها، والشمس هي من تمنح دائماً النور والدفء، ليس مقدراً لها أنْ تنطفئ، ويبقى الإنسان هو الإنسان بتوارث وجوده، بين كلّ وقت وآخر؛ نودع أناس من حولنا، ويصبحوا مجرد ذكرى تُحكى في جمع من الحضور، أو ذكرى تمرُّ عليك مرّ الكرام فتترحم على أرواحهم.. مَنْ تراهُ سيستحضر ذكرانا ممن عاشرناهم وألفنا صحبتهم على مدارج ومعارج فلك الأيام الدائرة؟
عدنا مِنْ تلك الرحلة المميزة بذكرى جميلة تموضعت في الذاكرة بأدبياتها ومواقف وحكايا لطيفة، وتركت للأسماء لغو أخبارها، لكن القدر على ما تعودناه؛ في النهاية يتيحُ لعبادِه الترَّجل عن الحياة لتستمر بالحياة تدفقات الدماء الجديدة.. رحم الله أمواتنا جميعا ومَنْ غادرونا وقلوبهم عامرة بالضياء.
-
hiyam damraعضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية