يتساءل بعض الناس عن سر شهرة الامام أحمد بن حنبل ويتعجب الآخرين من زهد بن حنبل ورجاحة عقله وجميعنا يعرف جيدا أن شجاعة الامام هي سر رفعته وعظمته ، فقد ذخرت كتب التاريخ بذكر سيره وأخلاقه حتى ذاع صيته في شتى أصقاع الارض .

كانت محنة بن حنبل هي ثباته على الحق واصراره على الدفاع عن ايمانه و عقيدته ، فلم ترهبه صولة حاكم أو عداوة عالم أو عزلة في سجن بل زادته الخطب قوة وجلد .

لقد ولد الامام أحمد بن حنبل في في بيت كريم من بيوت بني شيبان في بغداد في ربيع الأول 164هـ ،وشاء الله أن يتوفى والده قبل مولده - فقامت أمّه برعايته وتنشئته وحرصت على تربيته كأحسن ما تكون التربية، وعلى تعليمه فروع الثقافة التي كانت سائدة، فحفظ القرآن الكريم، وانكبّ على طلب الحديث في نهم وحب، وقد تتلمذ على يد قاضي القضاة أبي يوسف و الإمام أبو حنيفة النعمان.

لم يكن بن حنبل متشددا كما يدعي الجاهلون والرويبدة ، بل كان ييسر الفقه ولا يعسره بدليل تحريره للعقود وجعلها أكثر مرونة بتحليله لبيع العربون و إجازة البيع بحرية مطلقة دون الاعلان عن الثمن مما يعمل على تحرير الاقتصاد وإنعاش الأسواق .

إدعاء فئة من السفهاء بتشدد بن حنبل يعود بالاساس إلى محاولتهم المستميتة لتشويهه لكونه كان ثائرا ضد الاستبداد وكارها لنفاق العلماء ، فقد كان من القلة القليلة الثابتة على الحق في زمن المأمون عندما زين للحاكم العباسي سوء عمله وتحدث بما لا يعلم معتقدا أنه الحاكم الديني الذي أرسله الله للعالمين رغم أن الاسلام لا يعرف الإكراه أو الكهنوتية ولا ينبغي لأحد مهما بلغ منصبه أن يجبر الناس على العقائد والفكر ولا يوجد وظيفة شيخ في الاسلام ولكن المسلمين يقولوا شيخ لمن كبر سنه وزاد توقيره مثل شيخ الاسلام بن تيمية .

لن تعرف مدى ثبات وتضحية الامام بن حنبل إلا عندما تتعرض للمحن والحروب وما يلبث الناس أن يتصارعوا في خضم تلك الخطوب وقد تصل النزاعات بينهم إلى التباس الحق والباطل مما يؤدي والحال هكذا إلى تمايز الخبيث والطيب ، حيث يتمايز الخير عن الشر مثل اختلاف الليل والنهار ومثلما ينتعد المشرق عن المغرب . إنها فترة التمحيص وتقلب القلوب وتبدل الأحوال حتى تطحن القلوب وتظهر معادن الناس ، فيثبت أهل الحق ليركبوا سفينة النجاة ، ويتذبذب أهل الباطل حتى يغرقوا في أعماق الظلمات .

اتباع الحق ليس سهلا ، لأن السير عكس الأمواج يحتاج إلى قلب شجاع وإرادة مؤمنة بقضاء الله وقدره مهما كانت العوائق والمهالك ، وقد كان بن حنبل أهل لها لأنه لم يخشى مكر سلطان جائر لأنه كان يعلم أن الله يمكر للحق حتى يظهره ويجعله منيرا شديد الجلاء . قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . الآية 30 سورة الأنفال

لم يكن الأمر هينا على بن حنبل كما يعتقد الجهلاء ولكنه كان شديدا لأن الدولة العباسية كانت ما تزال في أوج مجدها لأن الدول الاسلامية كانت ذات منعة وقوة فلم يكن المسلمين بالضعف الذي يمكن ان نلمسه في عصرنا الحديث ، بل كان المسلمين أصحاب بأس ونفوذ على مستوى العالم ، ومن جهة أخرى كان العلماء المسلمين على قدر عالي من العلم والتفقه في الدين ، ورغم ذلك لم يثبت في تلك المحنة إلا قلة قليلة جدا هم( أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريرى، وسجادة ) فقام إسحاق بن ابراهيم قائد شرطة بغداد بحبسهم وتهديدهم بالتعذيب، فاستسلم سجَّادة والقواريرى فخرجا من السجن، ولم يبقى الا اثنين هما ( ابن حنبل ومحمد بن نوح ) فأخبرهما قائد الشرطة أن الخليفة المأمون استشاط غضبًا، وأمر بحملهما إليه مقيدين وأقسم أن يقتلهما بيده وتم حملهما من بغداد إلى طرسوس حيث كان الخليفة هناك وقتها وقد مات محمد بن نوح في الطريق وقبل أن يصل الإمام أحمد كان الخليفة المأمون قد توفى .

قبل أن تتحدث عن إمام المحنة حاول أن تضع نفسك في موقف يتقارب مع ما مر به وستكشف حتما عن مدى النفاق في اعماقك ولن تجد أية مبررات تقف بها أمام الخالق يوم القيامة ،أما علماء الفقه الاسلامي الآن فحدث ولا حرج .

هل تعلم أن مجاهدي القسام الذين يملأون بصورهم سمع وبصر العالم على كل الشاشات الفضائية هم حقا خلفاء ابن وتلاميذه ، فقد ثبت المجاهدين على أرض الشام ولم يضعفوا ولم يستكينوا ، فقد تسلحوا بالايمان واستعانوا بالقوة الالهية فلم تخيب عزائمهم ولم يهوى صمودهم .