غربة مشاعر
يبتسم في وجهها .. يسلم ورقته الأخيرة، يعانقها بقوة وهو يشد عليها. لقد وصلنا متأخرين جداً .. كانت بوصلتنا معلقة في رقبتنا لكننا كنا رغم ذلك تائهين. الحب وحده لا يكفي كي يستمر العطاء ..
نشر في 11 أكتوبر 2018 .
أنا لست أنانية أبداً، لست جشعة ولا ناكرة للحب .. أنا كنت ورقة في دفتر مذكراتك، ورقة في تاريخك الذي لن يغادرك. أنا امرأة لا تعرف أن تكذب، عيناي تفضحان غيرتي، ودموعي تفضح ألمي، رغم أنني صبورة .. صبورة إلى الحد الذي كنت أرغم فيه نفسي على الابتسام في وجهك رغم أني قلبي ينزف دمعاً، صبورة لدرجة أنني كنت أعاقب نفسي عندما أجرحك رغم أنك كنت تجرحني. ربما كانت طريقتي في التعبير عن حبي وغيرتي فقيرة .. لكنني لم أبخل عليك يوماً بالحب ..
لكنك استنزفت هذا الحب، ولست نادمة على تضحياتي، لكنني كنت أدافع عن وطن ليس وطني، وأنا بلا وطن .. فلست خائنة ولا عميلة لأي طرف، لكنني خنت ذاتي معك عندما دافعت عن غيابك، عندما قررت أن أكون الستارة وليس الجدار، عندما كنت الصدى ولم أكن الصوت.. تأمل جيداً هذه الملامح، هذه ليست قسوة ولا لؤم، إنها بقايا انكسارات .. بقايا رصاصات دخلت في القلب ولم تخرج .. بقايا دموع تجمدت ولم تسل .. تأمل جيداً هذا الصوت .. إنه ليس صراخاً، وليس فيه مقامات .. إنه نشاز لكلمات لم تخرج كي لا تجرح، لحديث بقي مكتوماً لسنوات ..
لا تلمني على أنني كنت أتظاهر بالقوة وبداخلي كل هذا الضعف، فهذا الضعف هو قوتي، هو وسيلتي كي لا أكره، كي لا أحقد .. هذا الضعف هو وسيلتي في أن أسامح، في أن أسير دون أن أحطم ما تبقى من شعور ..
لا تنظر إلي من خلال ضباب الوداع، فالوداع مؤلم جداً، لهذا كنت دوماً أودع من أحبهم برسائل، لأنني ضعيفة جداً أمام العناق، أمام الأبواب، في المحطات، تحت المطر .. مع الموسيقا التصويرية لمشهد اللقاء الأخير. لكنني هذه المرة سأبقى حتى هذه اللحظة، سأودعك وأنا أحتضنك، سأقول لك كل شيء كتمته داخلي لسنوات .. سأعترف لك كم مرة لعنتك بيني وبين هذه الجدران، كم مرة قررت فيها أن أهجرك وتراجعت، كم مرة طعنتك في خيالي .. كم مرة قتلتك في أحلامي ..
تتقدم نحوه ببطئ، تفتح يده وتضع يدها المرتجفة، يريد أن يقبلها فتبعد شفتيها عن شفتيه وتضع يدها على وجهه تتلمس ملامحه كضريرة لا تبصر. لكنها في الحقيقة تبصر الألم في عينيه، تبصر الانكسار في رعشة يديه، تبصر الضياع في صمته .. لم تكن تنتظر منه أن يعترف لها بأنه سيكون غريباً من بعدها، بأنه أخطأ كثيراً في حقها، بأنه كان سيتغير لو أنها تجرأت واعترفت له بكل هذا من قبل .. لكن حقيبتها التي حزمت فيها الذكريات قبل الأمتعة كانت تدل على مدى إصرارها، على أن قرارها هذا لم يكن قراراً مرحلياً، لم يكن تهديداً ولا توسلاً ..
يبتسم في وجهها .. يسلم ورقته الأخيرة، يعانقها بقوة وهو يشد عليها. لقد وصلنا متأخرين جداً .. كانت بوصلتنا معلقة في رقبتنا لكننا كنا رغم ذلك تائهين. الحب وحده لا يكفي كي يستمر العطاء ..
كم كنا جباريين في تجاوز آلامنا، كم كنا قساة في حق أنفسنا، واليوم نحن نسقط كأوراق الخريف الصفراء. لكننا لسنا نادميين على أي لحظة حب عشناها، بل إن كل لحظة بيننا رغم المعاناة كانت ذكرى مميزة، ذكرى لن يسامح أحدنا نفسه إن تخلى عنها أو أقصاها في ذاكرة النسيان.
لأجل هذا الحب أريد أن أرحل عنك وأنا مصممة على ألا أعود، سنكون دوماً ضعفاء أمام الاشتياق، أمام كل ذكرى جمعتنا سوية، كل طريق مشينا عليه معاً، كل نكتة ضحكنا عليها سوية .. لكننا سنكون أقوياء كفاية كي لا نعود.
هذا الفراغ لن يملى بالسطور ولا الكلمات، هذا الفراغ سيبقى وفياً مهما سكن الغرباء فينا، سيبقى هنا مكانك .. على هذه الزاوية من الأريكة، على هذا الكرسي .. عند هذه الزاوية من السرير. ستبقى نظرتك معلقة في عيوني، ولمستك في يدي، وسيبقى عطرك يثير بي ذات الحماس، سأبقى وفية لكل ما عشناه سوية .. مهما امتلأت هذه الذاكرة بالأحداث!
الثوب الأحمر أبقيته في خزانتك بين ملابسك، وزجاجة العطر التي لم يبق فيها الكثير أبقيتها بين زجاجات عطرك. والكتاب الذي وعدتك أن أقرأه لك سجلته بصوتي في غيابك وحفظته بين أسطواناتك. لا تعذر غيابي بعد هذا فلم تعد مضطراً لأن تحمل همي، وأنا .. أعدك بأنني سأكون بخير. بأنني سأمسح كل الرسائل التي سأقرر إرسالها ..
يهم واقفاً.. يفتح النافذة ويراقب خطواتها وهي تسير مبتعدة، تقاوم التفاتها نحو النافذة التي لطالما وقفت قبالتها تنتظر عودته، تقاوم رغبتها في العودة إليه واحتضانه لمرات ومرات ..
كان كلاهما يبتسم في وجهه للمرآة رغم الألم. كلاهما يردد العبارات التي حفظها عن الآخر، يضحك لمواقف الآخر الساخرة، يحتضن رائحة الآخر بما تعلق منها على ثيابه. الحب لا يموت يا صديقي .. لكنه الوقت .. يا له من وقت خبيث، ونحن أضعف بكثير من أن نكون في صراع معه.. هذا جرح لن يندمل، لكن سيبقى أثره محفوراً في الذاكرة، والوفاء للفراق أمر مهم كما هو الوفاء للمحب.
الإخلاص .. عندما ترحل قبل أن تخون انتقاماً، أن تغادر قبل أن تجرح. أن تكون قوياً كفاية لأن تصنع ذات جديدة، لأن تعيش أنت .. أنت الجدار وأنت الصوت. أنت اللحن .. والمقام .. ثم بالنهاية كي تعيش يكفي أن تكون أنت .. أن تتحرر من قيودك حتى لو كان ذلك القيد هو الشوق، أن تخلع قفل السجن حتى لو كان هو الأمان ..
وسيبقى النسيان طعمه مر، والرحيل بقسوة البقاء مؤلم. . . وسأبقى أكتب لك وعنك ولن تقرأ لي ولن اقرأ لك.. أيها الوطن .. أيها الغريب .. أيها القريب البعيد ..