الوبــــاء .. الــــذي منحنــــي المعنــــى .. بقلــــم / نــــورا محمــــد . - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الوبــــاء .. الــــذي منحنــــي المعنــــى .. بقلــــم / نــــورا محمــــد .

  نشر في 28 مارس 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

وبين ليلة وضُحاها تبدل الحال إلى نقيضه ! .. 

وبين لحظة إطمئنان وإن كانت مشوبة بقليلاً من الإضطراب وبين الفزع الأكبر إختلف الوضع وتغيرت الصورة , وبعد أن كانت دقات عقارب الساعة تشدو بلحظاتها ودقائقها أصبحت بكماء ! , فما من زمن الآن يُحسب وما من نشوة يمكن أن تتحق في ظل هذا الخواء , خواء نفسي , خواء فكري وتشتت إنساني ! ..

كانت الأيام تنفضي تباعاً بسلام , حينما تتصاعد الأزمة حتى تصل ذروتها يمكنك أن تُلقب يومك بأنه " عادي " , بل وبهذا قد تمنحه بعض القيمة ! , تستيقظ وأنت بكامل لياقتك وإن كان جسدك يتحلل تعباً ذهنك يتضور إرهاقاً , وبهمة ضعيفة تُجاهد نفسك حتى تُلقي به خارج غرفتك في محاولة للإفاقة السريعة , تجر خلفك خطواتك وتجرك المسئوليات أيضاً نحوها , وبعد فترة تجدك دون إرادتك مُلقياً خارج منزلك وكأنه لفظك كما يلفظ الجسد العضو المزروع فيه , تتأقلم على الوضع يوماً بعد يوم , وتُصارع يومك بين تقلباته , تارة تضحك وتارة يشتد بك الغضب , تارة تُثرثر وكأنك لم تكتشف اللغة إلا تواً وتارة تجد أن الصمت هو أسلم الحلول أمام تفاهة عالمك , تارة تفيض على دُنياك بأفكارك الرنانة وتارة تبحث عن " قشة " تُنقذ عقلك من سباته المفاجئ ! ..

وبعد أن تُعانق طفلاً وجدته يغرق في بكاءه في أحد الطرقات كما لو أن عاقبته أمه نتيجة طلباته المتزايده المُلحة " التي لا تساوي شيئاً أمام متطلباتنا الآن " , وتشهد مشهداً أخر أثار فيك الغيظ والحنق وودت لو إقتلعت فؤادك حتى تهدأ ثورتك قليلاً وتخمد .. تعود من جديد لعالمك الصغير , تعود من حيث أتيت , وتُعاني ما جاهدته صباحاً ولكن الآن لرحلة العودة , لإلقاء جسدك النحيل الفاني ورأسك التي تكاد تنفجر مما واجهته خلال يوماً واحداً وفقط ! , وقبيل أن تطبق جفونك تجد رسالة من أحدهم يطلب منك إجابة عن السؤال الأهم على الإطلاق بالنسبة له والذي لا يعني لك شيئاً على الإطلاق .. كيف كان يومك ؟ , فلا تنتظر أن تُفتش عن إجابة مختلفة عن كل مرة , بل تقذفها في وجهه دفعة واحدة .. عادي ! .. ولكنه في حقيقة الأمر .. لم يكن عادياً أبداً ! ..

ففي صباح اليوم التالي .. يكون إستيقاظك مختلفاً , ولأول مرة خلال تاريخك تستيقظ على معنى مختلف , بشعور مختلف , بحياة مختلفة ! ..

فأنت الآن تنتظر أن يعود بك الزمن إلى ذلك اليوم العادي كما زعمت , كما شعرت , كما عايشت , أن تستيقظ وأنت على يقين تام بأنك لن تُعاني سوى الرغبة المُلحة في العودة إلى نومك من جديد , الخطوات التي تجرها خلفك بظهر مُنحني وجدت أنك قد اشتقت لها بالفعل ! , والصداع الذي نهش رأسك كل ليلة وكنت في محاولات مُستميتة منك للقضاء عليه حتى تفسح مجالاً للراحة بأن تقتنصك لفترة من الزمن أخذ عقلك الآن يبحث عنه هنا وهناك ! , دقات ساعتك تتلهف بأن تجدك تنظر إليها بين اللحظة والأخرى لضيق ما تواجهه وتنجزه خلالها من أعمال , الآن أنت مجرد مشاهد ! , تشاهد لحظة شروق شمس النهار بتمعن وتودعها في الغروب , رغبتك في الراحة أصبحت مقززة , فقد حصلت على ما أردت وما لم ترد حتى ! , سقف غرفتك أصبحت على دراية بأحواله أكثر من درايتك بأحوالك أنت ! .. والهذيان لم يعد بالأمر البعيد عنك الآن ! ..

حجر منزلي .. أم أنه حجر عن الحياة ؟! ..

أيام تمر على أزمة 2020 الكبرى ! , شبح يتنقل بين قارات العالم ويقتنص ما يود إقتناصه من أرواح وينهش ما يود نهشه من أجساد جعل الكوكب بأكمله يختبئ خلف جدرانه الأربع , أبواباً مُحكمة الغلق , نوافذ موصدة لا تسمح للضياء بأن يتخللها , طرقات أصبحت كالصحراء الجرداء التي لم تكن تهدأ لحظة من شعوب الأرض , تتفاقم الأزمة ومعها يتفاقم الخوف بداخل البشرية بأكملها , تتمحور الأحاديث عما يحدث في دول العالم , فالآن سؤالك لي " كيف حالك " أصبح يُثير الإشمئزاز والنفور ..

فكيف تُحيد الحديث عما نعاصره الآن ؟! , هل أنت تُعاني أقصى درجات الهذيان لكي تفتح معي نقاشاً عن أمراً أخر ؟! , أين عقلك من هذا ؟! , كن ما تكن ولكن لا تُحدثني عن أي شئ سوى ما نمر به الآن وإن كان مأساوياً ! .. 

وهو الوباء الحقيقي بصدق ! .. 

فأن نُضيق على عقولنا الأفق ونحصر فكرنا كله في مساوئ الحدث هو الفيروس الذي لا يمكن السيطرة عليه , لا تُضاهيه أقوى وأقسى أمراض الإنسانية , فهو لا يُصيب الأجساد فيُضعفها ويُهددها بالفناء , بل هو يُصيب النفس , يُصيب الوعي ! ..

سلبيات الحدث .. هي إيجابياته !

أتذكر تلك اللحظة التي إنشققت فيها عن الحياة وعدت لكيانك الأصلي ؟ , إنشققت عن الحياة وعن زمنها الذي لا يتركك تلتقط أنفاسك قبل أن يفرض عليك مسئولية جديدة لتُنجزها قبل أن تتحرك عقاربه للحظة التالية وفقط نظرت لذاتك , فقط رأيتك كما يجب أن ترى , دون تزييف أو تجميل , نظرت إلى ما يعج بداخلك من أفكار ورغبات وتوجهات , وحيوات .. نعم حيوات , فأنت لا تُعايش حياة واحدة , أنت تحيا في كل لحظة تمر ألف حياة أخرى ! , فماذا عنك الآن ؟ , ماذا وجدت داخلك وماذا تود أن تجد ؟ , ضاعت فرصتك في إيجاد ذاتك منذ زمناً بعيد حينما جرفتك الحياة بتيارها العنيد نحو أمورها الدنيوية , ولكن .. أنت الآن تُعاني من الوحدة التي لا تنحصر في مفهومها السلبي , بل قد تكون نعمة منحها الله لك لكي تُلقي نظرة على ذاتك من جديد , تُحدد أين تكون وأين ترغب أن تكون , وهل ما أنت عليه هو ما طمحت عليه أم أنه مجرد تحصيل حاصل ؟ , هي الوحدة المُنجية وليست الوحدة المُهلكة , فقط ما عليك سوى أن تُدرك هذه الحقيقة ..

ثم ماذا عن غذاء عقلك؟ ..

ماذا عن المعرفة التي صارعت أمواج الجهل التي ألقيت بها فيه دون رحمة منك بحالها ؟! , فقط تهتم بغذاء البطون ولكن .. ماذا عما يمنح عقلك حيويته وتجدد بريقه وإختلافه ؟! , أين هو من مخططاتك ؟ , أين هو من ترتيباتك القادمة ؟ , نعم الآن قد حان موعد إنقاذه من بحور الضياع , وإنقاذ المعرفة من التبدد , وهو الأمر الذي يرجع إليك وفقط , أنت المسئول الآن عن هذه المهمة , وهي أيضاً من إيجابيات الوضع الحالي .. فقد تحررت من قيود العمل , الدراسة , الروتين , الحياة التي لا تُحسب بأنها حياة وبحق وإنتشلك الكتاب من فراغك القاتل وبين حروفه استعاد عقلك شربته من جديد بعد أن عانى دهوراً عديدة من ظمأه ..

وحتى قبضة ضيق الوقت تحررت منها ..

الآن .. أنت تستطيع النظر لساعتك وأنت تفكر كيف تنتهز اللحظة القادمة , فما من ضغوط تنتظر كما كانت من قبل , أدركت ألآن الوقت , أصبحت اللحظة التي تمر تنسلخ من جسدك إنسلاخاً وتستطيع أن تلمس أثرها , ومن قبل كنت تتذلل لها بأن تبق وألا ترحل , تحاول بكل ما تملكه من طاقة وقوة أن تُبقيها , فبلحظة واحدة منها يمكن أن تخسر كل مناصبك إن تأخرت قليلاُ عن إنجاز عملك , والآن بلحظة واحدة منها تستطيع تغيير العالم بأكمله حولك فهي الآن من تتذلل لك بأن تنظر إليها وتقوم بإستغلالها , فبعد أن كان الوقت مجرد قضاء حاجة , قضاء مصلحة , أرقام تتبادل , واليوم الذي حسبته عادياً إتضح فيه المعنى , وجدت فيه القيمة والوجود , تنسمت فيه معنى الحرية , فأنت الآن حر مما كان يعيق خطواتك في طريق إكتشافك لمعنى وجودك , تحررت من قيودك أنت أيضاً , قيودك الأنانية التي لا تطمع سوى في أن تسلبك معاني إنسانيتك , الآن أنت بكامل معانيها ..

ظهرت الرحمة في أجمل صورها ..

ظهرت معاني التراحم والعطف بين كل الطبقات , أصبح الوباء هو المحرك الأساسي للود والمحبة , اتصلت روابط الدم من جديد , بعد أن كانت الصلة هي التفكك و العدم .. 

هل أنت بخير ؟ , كيف حالك ؟ , كن بأفضل صحة لأجلنا ..

كلها كلمات دبت الحياة بداخل قلوبنا من جديد بعد أن كانت مجرد حروف تُقال دون أن نشعر بها وبقيمة معناها , وبعد أن ترك الأبن والديه وكأنه لم يعرفهم يوماً ما , الآن وفقط .. شعر بقيمتهم , وجد أنه بدونهم مجرد خيال لا وجود لهم سوى الضياء الذي يعكسه , وهما معنى الضياء له , أحكموا قبضتهم سوياً وتكاتفوا من جديد , ترابطت الأسرة في مشهد عجيب لم يشهدوه من قبل , فقد سلبت الحياة معنى الترابط فيما بينهم بسبب سرعتها الجارفة لهم .. الكبير يطمئن على الصغير , والصغير يعطف على ما هو أصغر منه وإن كانت نملة ! , أصبحت البشرية متعاونة بعد أن تفرقت لدهور ودهور في مشهد تحكمه الأنا وفقط ! .. فلا فرق يُذكر الآن بيني وبينك , أنا وأنت في " مركب واحد " .. فإما أن نعبره سوياً أو نغرق سوياً , ولكن عبوره والنجاه منه يتطلب أن نعي معنى الرحمة فيما بيننا والحق أننا لم نعي معناها إلا بهذه الأزمة .. فهل لازلت تراها أزمة سلبية حتى الآن ؟! ..

والصلة مع الله .. هي المكسب الأكبر لنا من هذه المرحلة  ..

أنت الآن تتضرع إلى الله حتى يُزيح البلاء , حتى يكشف عنا هذا الهم , هذا الضيق , يرتفع دعاءك إليه النابع من روحك , وبعد أن تستمع لما يُخبرنا به واقعنا من أحداث متتابعة متلاحقة لا تهدأ لحظة ولا تمن علينا بأن تتوقف فتمنحنا إستراحة بسيطة مما نعاصره من أزمات تجدك تقولها بقلباً مُطمئن , يفيض بالرضا , بل ويتذوق معاني الإيمان : الله قادر على تفريج الكرب .. وجدت الإيمان من أقسى لحظات الألم والخوف  ..

أدركنا قيمة الحياة .. 

أدركنا معنى أن نكون إنسان , ميزه ربه بأعظم الخصال وخلقه في أحسن تقويم ..

أدركنا ما معنى أن تكون بصحة جيدة , أن تستيقظ دون أن تفزعك نشرات الأخبار بإحصائيات عالمية جديدة توحي لك بنهاية العالم وأنت لا حول لك ولا قوة أمامها سوى أنك تختبئ ! .. 

أدركنا معنى أن تُلامس أناملك الأرض , أن تتنسم هواء عالمك دون أن تتردد في أن تلتقط أنفاسك منه مخافة أن تتنسم الوباء بدلاً منه .. 

أدركنا قيمة الشمس ! , نعم الشمس التي لطالما هربنا من أشعتها الحارقة وسأمنا من التعرض لها ومن حرارتها القاسية , الآن أصبحنا نطمح بأن نتمايل أسفل وهجها ولو للحظة دون أن نضطرب من فكرة الخروج من المنزل ! .. 

نظرنا للمرآه ورأينا ملامحنا الحقيقية بعد أن كانت وتيرة الحياة تتسارع دون أن نرانا وبحق , أدركنا أن لتلاحمنا قيمة , لتراحمنا معنى , وبأن الحياة لا تميز بين الغني الذي يمتلك من القصور أفخمها ويتلذذ بوصف ما يملكه من جاة وسلطة , وبين الفقير الذي يمتلك كل شئ سوى الحياة وحمة البشر حوله به , فكلاً منا يمر الآن بنفس الضائقة , وكلاً منا يحتاج لنفس جرعة الأمن والسلام ..

فكم من مصيبة حلت وحسبت أنها المأساة الكبرى ! , حسبت أنها الناهية لوجودك , المتحكمة في مصيرك والمهلكة لإتزانك , وعلى ذلك لم توجه أنظارك إلا لسلبيات الموقف , ولكنك لم تلتفت للجوانب الأخرى , لم تنفعل لحقائق أكثر إدهاشاً عما إنفعلت به , فقط ما عليك سوى أن تنتظر ولا تحكم على الصورة قبل أن تكتمل , وعلى اللوحة قبل أن تُلون , فنظرتك لها وهي باهتة تُفقدها معناها , ونظرتك للحالة دون وعي يفقدك معناك ويحكم عليك بالموت وأنت لازلت على قيد دُنياك ..

هي صفعة قوية إلينا حتى نعود لإنسانتينا من جديد .. نعود إلى خالقنا , نُدرك قيمة النعم التي بين أيدينا ونُدرك من نكون .. فثمة معاني تستتر خلف المشهد , تستحق أن نُلقي عليها نظرة , نظرة فاصلة في تاريخنا ..


  • 10

   نشر في 28 مارس 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

اسلوبك في الكتابة مميز وفيه ابداع راااقي ومقال معبر ومؤثر
2
نورا محمد
أنا بشكرك على كلماتك الجميلة .. شرف ليا :)
Abdou Abdelgawad منذ 4 سنة
عرض رائع للمشهد بكافة خلفياته الانسانية وبحق اذا لم يستفد الانسان من المحن التى تمر عليه فلم يفهم رسائل الله فى كونه ليعود لانسانيته ويعود للتفكر فى سبب خلقه تحياتى وارجو لكم كل التوفيق .
2
نورا محمد
أشكرك أستاذي لكلماتك الطيبة , بالفعل الأزمات هي مرآة الإنسانية , صدقت وأصبت في وصفك وتعبيرك .. كل الشكر لك :)
Mohammed | محمد منذ 4 سنة
أحسنتي الكتابة والمقارنة والتشبيه !
2
نورا محمد
أتشرف بكلماتك وشهادتك الغالية أستاذ / محمد .. كل الشكر لك ولذوقك العالي .. دُمت بكل خير وسلامة وسعادة .. شكراً جزيلاً :)
مقال مؤثر
2
نورا محمد
تُسعدني شهادتك أستاذتي وأختي الغالية .. أشكرك كل الشكر على قرائتك وكلماتك التي أعتز بها كثيراً .. حفظك الله غاليتي :)
اتفق معاكي .. يمكن تكون فرصة لعودة الإنسان للإنسان .. بقالنا كتير دايرين في السواقي
2
نورا محمد
بالظبط .. إحنا بنفقد إنسانيتنا بالتدريج واللي بيحصل دلوقتي مش أكتر من مجرد " قلم " لوعينا وإدراكنا علشان نقوم ونفوق تاني .. أنا بتفق معاك جدااا وبشكرك على تعليقك الجميل أستاذ / طارق :)

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !


مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا