أن تُحبّ وطناً مريضا !
نشر في 06 نونبر 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
صعب حد الإبتلآء أن تكون مُغرما بوطن مُنهك .. تتأمله فتكتشف أنه غير قادر على مُبادلتك الحبّ .. تجدُه قادرًا على كل شيء إلاّ على أن يكون كتفا فتضع رأسك عليه و تُفرغ أثقالك عليه و تُنشد النشيد الوطني و أنت تضع يدك على قلبك من الإمتِنان و الوصل إليه !
أن تكون مُلطّخا بحبّ وطن مريض .. معناه أن تكون مُستعدا للوقوع في حبّ مُستحيل ، أن تكون مُستعدّا لاستبدال ماء وجهك ببعض الوحل و أن تضع على عاتقك تحمُّل ويلات الحبّ من طرف واحد ..
أن تكون متورّطا بحبّ الوطن معناه أن تلعن جفاءه بداخلك و تُعلن على كلّ من يتطاول عليه أمامك حربا أشدّ ضراوة من حرب البسوس ،معناه أن تهجُوه كما كان يتهاجى جرير و الفرزدق ، و ترثيه كما رثى جرير وفاة الفرزدق !
أن تكون مُدانا بحبّ الوطن معناه أن تضع آمالك جانِبًا و أنت تشاهد أن أحلامك تتقلّب بين لفح اليسار و حلف اليمين .. و أنّ تكتشف متأخّرا كتلميذ غبيّ أن اللعبة لا تحتاج نهاية لأنه لا قواعد تحكم البداية فيها من الأصل ..
و لأنّ حبّ الوطن جُرم حلال و لأنّ صدق أحزابنا لا يحتاج التزكية بشهر أبريل و لآ الوعود على طريقة القدِّيسين .. ننام على أمل و نستيقظ لتخبرنا سكرتيرة الوطن أنه ذهب في إجازة مفتوحة ، و أنّ انتظاره واجب قوميّ ..
فالوطن عندنا ليس حدودا جُغرافية و لا رُقعة مشروعة على الخريطة .. إنّه شيء يختلطُ بمرارة بحمضنا النّوويّ و يصير سُكّرا معقّدا حين نرضعُه من أمّهاتنا دون أن ندري أن لا طُعم له و أنه لذيذ رغما عن كل ذلك ..
إنّ حبّ الوطن داخلنا غريب .. إنه حتى لا يستجيب لقوانين المنطق و لا لجاذبية المعنى في علم الجيولوجيا الحديثة .. إنّ الدهشة من هذا الوطن استثناء لأنك لا تستطيع أن تُغمض عينيك راضيا عنه و لا تستطيع أن ترحل بنفس الوقت تاركا إيّاه وراءك ..
إنه يسكن مناطقا مأهولة بداخلك و يلتصق بعناد يسار صدرك .. رغم أنّه يُسجّل باستمرار الرّيادة في رصيدك من الخيبات ..
دوما ما كنت أتساءل كيف يُمكن أن أقع في حبّ وطن لا زال المُواطن بالشارع يقع بالحُفر بسببه ؟
لم يدرّسونا بالمدرسة تراجيديا الوقوع و لا الدّراما حين يصاب الوطن بوعكة صحّية ، لقّنونا فقط طقوس الولاء للوطن ..و أحيانا كثيرة كنت أنصت للنشيد الوطنيّ و أضيع باحثة عن شيء لآ أفهمه فيه ،كانت أستاذة اللغة العربية بالصفّ الإبتدائيّ تنهرني أن أُنشد ككلّ التلميذات بجانبي ..و يوما أخبرتُها أني أحفظُه لكنّي لا أفهمه ، حملقت فيَّ بدهشة خمسينيّة و أفهمتني أنّ المُهمّ إنشاده لا فهمه ..
جاءت الأولمبيات و ربح هشام الڭروج و كان يبكي و النَّشيد يُدوّي ، ظننتُها فرحة الفوز أو رُبّما كرونولوجيا اللحظة ..
كبُرت و اكتشفتُ بعدها أنّنا قد نبكي من حُبّ الوطن كما قد نبكي من خذلان الوطن ..
و أن تجدك لازلت تُحبّ الوطن رغم أنك تقيّأته و أحييت حدادهُ و دفنته في أبعد رُكن بداخلك ..معناه أنّ الوطن محظوظ بك !
لحُبّ الوطن حضور شاهق .. لن يرثه أحفادك من بقاياك الجينيّة و لن تُدركه أبصار الخونة و لا بصائرُ قشدة المجتمع المُكتنز بحسنات الكوليسترول ..
حبُّ الوطن خارج عن كل التعقيدات اللغويّة لمُركّباته .. هو الخطيئة و الفضيلة بالآن ذاته .. هو الإمتداد الحيّ لذلك البخور الذي يتحلّل في الهوآء فلا تملأُ خياشيمنا سوى رائحته !
-
السعدية بن التيس ( صحيفتك فملأها بما شئت )علمية التخصص .. أدبية الشغف !