بيانست (9) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

بيانست (9)

عندما نقتل البراءة بكل حب ..

  نشر في 12 يونيو 2019 .

قد تمط الحقيقة حتى تصبح رقيقة و لكنها لا تنكسر أبدا، و دائما تطفو على سطح الأكاذيب، كما يطفو الزيت على الماء

                             (ميغيل دي سيرفانتيس – دون كيخوت)

The truth may be stretched thin, but it never breaks, and it always surfaces above lies, as oil floats on water.

                                             (Miguel de Cervantes - Don Quixote)

                                                          -المجرم-


                        ثمانية آلاف و سبعمائة و أربع و سبعون يوما على الأرض ..

1) اسمي يحيى .. أنا طبيب ..

جلس (يحيى) على مقعد في بهو الفندق القريب من ملاعب (رولان جاروس) في باريس .. وضع ساقا على ساق و هو يتأمل الرواد من حوله أثناء إنتظاره لزهرة الكاميليا الحمراء أن تأتي إليه .. بذلة (Blue Black) تبرز طوله الفارع و جسده الرياضي .. رائحة (Givenchy Gentlemen only) تملأ حدود هالته و أنوف المارين بجواره .. فتاة فرنسية جميلة تنظر إليه بعيون زرقاء لمح الإعجاب فيهما و هي تبتسم له .. إبتسم مجاملا قبل أن يحيد ببصره ناحية مجلة موضوعة أمامه قاطعا أي إتصال بصري يجعل ما يدور في ذهنه يحدث!! … نعم هو ليس قديسا طاهر النفس .. شهوته و أفكاره القديمة تأتي إليه طوال الوقت و خاصة حينما تأتي الفرصة إليه .. فرصة جميلة ذات عيون زرقاء و شعر أسود ناعم .. بالتأكيد ستكون المغامرة معها ذكرى رائعة .. كان ذلك يناسب (چوناثان) القديم .. الطبيب الوسيم الثري الذي لا يتوانى عن فرص المغازلة مع أي فتاة جميلة .. لكن الأمر لم يعد كما كان .. لقد تغير بالكامل طوال ثلاثة أعوام كاملة تدريجيا .. أولا هناك تلك السمراء غجرية الشعر حادة الطباع و اللسان تملأ جوانب قلبه بالكامل .. (رهف) .. علاقته بها تتراوح بين الجنون و الملاحم و الأساطير .. (رهف) .. هي كعكة عيد الميلاد كل يوم في العام .. (رهف) .. بركان إنفجر في قلبه و روحه و عقله و لا تتركه حممه لحظة واحدة لينساه ..أخذ يدندن بكلمات أغنية من أغانيه المفضلة

Girl you're so one in a million

You are

Baby you're the best I ever had

Best I ever had

And I'm certain that

There ain't nothing better

No there ain't nothing better than this

(Me-Yo – One in a Milion)

و هو لن ينسى ماحدث عندما فقد عقله و تركها يوما من أجل فتاة فرنسية أيضا سابقا .. من أشد لحظات حياته ظلمة عندما إبتعدت عنه و رفضت الرد عليه و على مكالماته .. و لن يعود لتلك الظلمة من عالمه مرة أخرى .. و ثانيا .. تلك المغامرات لم تعد تناسب (يحيى) .. كانت أصعب خطوة في علاقاتهما و الأشد عليه عندما سار نحو المسجد الكبير في (نيويورك) بساقين مرتعشتين من الجيلاتين و يعلن أنه يريد الدخول في الإسلام .. للحق هو لم يفعل ذلك لإيمان بداخله و لكنه فعله من أجلها .. و لكن الترحاب الذي شعر به .. كلمات الشهادة و هو ينطقها .. كل ذلك لمس شيئا بداخله جعله يشعر بالعجب من نفسه .. لأول مرة يشعر بمعنى وجود روحانيات في حياته بعد أن عاش كل حياته لا يُؤْمِن سوى بالمادة .. لأول مرة يشعر بمعنى إشباع الروح بعد أن أتخم جسده لسنوات .. تكفل أحد رواد المسجد بأن يعلمه ما يحتاجه من الدين و متابعته .. حاول الخلاص منه في البداية و لكنه وجده يشجعه و يساعده بوجه بشوش و طباع دمثة جعله ينصت لكلماته فعلا و يتبع إرشاداته .. وجد نفسه بلا وعي ينتمي رويدا رويدا لهؤلاء القوم .. غير إسمه إلى (يحيى) و تباينت ردود أفعال من حوله من ذلك التغيير .. ثارت أخته و إستقبله أبواه بقلق من يخشى أن يتحول إبنهم إلى إسم أخر في قوائم الإرهابيين و تقبل أصدقائه الأمر ببرود و عدم إهتمام .. و للعجب أنه لم يكن يوما بروتستانتيا (Protestant) حقيقي و لا حتى عائلته بل كان أقرب إلى العلمانية (Secularism) و كذلك هم .. و حقيقة .. لم يهتم أحد عندما لم يكن يذهب إلى الكنيسة أو يقولها صراحة أنه مؤمن بعدم وجود إله .. لكنهم إهتموا عندما أبلغهم بإسلامه!! .. دافع بإستماتة عن قراره أول الأمر لأنه كان بداخله يعلم أن ذلك يقربه من زهرة الكاميليا الحمراء .. ثم إشتدت إستماتته بدافع العند الذي طالما إشتهر به و بقبلة لم يعرف لها مثيلا زلزلت بها (رهف) أعصابه و سيقانه .. إلا أنه في الأخر كان يدافع بحافز داخلي لم يعرف له سببا بعد .. في العمل لم يحدث إسلامه فارقا ضخما لأنه ظل بالنسبة إليهم دكتور (تشابمان) .. عام مر منذ أعلن إسلامه ذهب خلاله إلى عائلة (رهف) و طلب منهم (رهف) رسميا .. كان الأمر كحلم غريب .. سخيف .. مثير .. جن جنون (كريستينا) و حاولت إقناع والديه بإثنائه عن خطته .. وقف والده معه و وقفت والدته إلى جانب (كريستي) .. في النهاية ذهب و قابل عائلة (رهف) .. خالها و صاحبته الإيطالية و أمها .. و أختها .. إرتبك عند مشاهدة أختها إلا أنها لم تتعرفه أو تتعرف عليه أمها .. إسمه الذي كان حاضرا في حادثة تصادم (فرح) و أصابها بالصمم تلاشى من ذاكرتهم .. ذلك ما شجعه و (رهف) على الخطو نحو حلم الرباط المقدس بلا توجس .. خالها الوحيد الذي كان يدري بالأمر كاملا و لكنه قابله بالترحاب .. مر اللقاء الأول ثقيلا و إضطرار (رهف) إلى القيام بالترجمة بينه و بين أمها و خالها و أحيانا صديقته .. (فرح) تعرف الإنجليزية و تقرأ الشفاه لكنه يشك أنها تستطيع مجاراة سرعته في التكلم و لهجته النيويوركية .. كان اللقاء الثاني أخف وطأة .. قبل أن تتم المباركة و يضع دبلته الذهبية حول إصبع (رهف) و تضع بدلة بلاتينية حول إصبعه ..

Is it the look in your eyes?

Or is it this dancing juice

Who cares baby

I think I wanna Marry you

(Bruno Mars – Marry You)

كاد أن يقع في خطأ عندما هم تقبيلها أمامهم و لكن نظرة الذعر في عيني (رهف) و نظرة التحذير في عين خالها و صديقة خالها جعلته يتراجع .. لازالت طباعهم و عادتهم بالنسبة إليه غريبة لكنه جاهدا يحاول مجاراتهم .. منذ ذلك الحين و هو يطارد (رهف) حول قارات العالم الخمس .. يتسلل اليأس منها إلى قلبه أحيانا فيتذكر رحيقها و رائحتها و ضحكتها و عبيرها و و و و و .. فيجد قلبه و عقله و روحه يهرعون إليها قبل جسده .. حاول إتمام الزواج لكنها كانت تصدمه دائما بأنها لا تستطيع أن تترك أختها في ذلك الوقت .. هذه المرة .. يعتقد أن لديه الحل النهائي لهذا .. لكن سيتطلب الأمر أن تقتنع (رهف) أولا قبل أن يحاولا إقناع أهلها .. ظهرت فجأة (رهف) في مجال رؤيته و قبل أن يقول شيئا قفزت (رهف) فوقه مكبلة عنقه بذراعيها و محتضنة ظهره بساقيها .. قبل أن ينسال شعرها الثائر دوما كستارة حجبت وجهيهما عمن حولهما و هي تمضغ شفتيه بقبلة طويلة حارة .. حملها هو من ظهرها و هو يبادلها القبلة مبتسما ..

Well you done done me and you bet I felt it

I tried to be chill but you're so hot I melted

I fell right through the cracks

And now I'm trying to get back

(Jason Mraz – I’m Yours)

إبتسمت و شفته السفلى بين شفتيها قبل أن تطلق سراح رقبته و ظهره و تقف على قدميها و تحتضن وسطه و هي تريح رأسها علي صدره و تقول بلهفة

- أوحشتني كثيرا .. أفتقدك بشدة

إحتضن هو رأسها مداعبا شعرها و هو يقول مبتسما

- لم أعرف أنه مسموحا لي بتبادل القبل و الإحتضان قبل الزواج

ضحكت و هي تبتعد عنه فجأة و تنزع يدها من حول وسطه

- نعم .. نعم .. غير مسموح .. لذا لا أحضان أو قبلات حتى نتزوج

- تعالى هنا (Come on) .. أنا أمزح يا فتاة

ضحكت بشدة هذه المرة قبل أن تجلس على مقعد قريب من مقعده لتجلس عليه .. إنحصر طرف فستانها عن ساقيها حين وضعت ساقا فوق ساق و هي تحتضن يديه فلم يتمالك نفسه من أن ينظر إليهما و هو يقول مبتسما

- أرى عضلات ساقيك قد إزدادتا قوة و بروزا

- هل تعنى أنهما رجوليتان مثلا؟؟

نظر إليها متعجبا كلمتها إلا أنه لمح نظرة لعوب في عينيها و إبتسامتها فضحك و هو يقول

- إذن سينتحر نصف فتيات العالم ليكون لهما ساقين رجوليتين مثل ساقيك

قالها و هو ينظر بلمحة سريعة إلى زرقاء العينين الفرنسية فلمح الضيق في ملامحها و هي تنظر لهما

- Liar Liar Pants on fire

- تعلمين أنني لست كاذبا .. أنا فقط أعشقك ..

إبتسمت في خجل عرفه من إحمرار وجنتيها قبل أن تقول بصوت واهن مازح

- لا قبل .. لا أحضان .. و لا كلمات غزل و حب قبل الزواج

- موافق .. دعينا نتزوج الآن !! لا يوجد أجمل من أن نتزوج هنا في باريس و نقضي شهر عسلنا هنا !!

بهتت إبتسامتها تدريجيا عندما ألقى جملته .. لم تجب .. نظرت بشرود إلى الجالسين حولها في بهو الفندق قبل أن تتنهد و تقول

- أنت تعرف إنني أرغب بذلك الآن قبل غدا .. قبل حتى الساعة القادمة .. لكن أنت وحدك دون سواك تعرف لماذا لا يمكننا الآن ..

إبتسم و يضغط على كفيها برفق و يقول في حماسة

- أعتقد إن عندي حل هذه المرة

- حل ؟؟ -قالتها بحذر-

- نعم .. تجربة علاجية جديدة .. أعتقد أن تناسب طبيعة إصابة أختك

- أين؟؟ -قالتها بلهفة-

- في الولايات .. لكنها ستكون مكلفة قليلا …

- لا تهتم بالمال .. المال لا يهم على الإطلاق في سبيل عودة سمعها -قالتها بلهجة حازمة-

- و كذلك نسبة الخطورة فيها عالية قليلا …

نظرت إليه بوجوم قبل أن تترك كفيه و تتراجع يظهرها للوراء ضامة ذراعيها أمام صدرها

- إشرح لي ..

نظر إلى الأرض لثانية قبل أن يملأ رئتيه بشهقة طويلة و بطيئة ثم يخرجها و هو يقول

- (رهف) أولا عليك أن تتأكدي أنني لا يمكن أن أؤذيك أو أؤذي أحدا قريبا منك أو حتى أفكر في ذلك ..

هزت رأسها موافقة و عينيها شاردة .. أخذ نفسا أخر عميقا قبل أن يقول

- مبدئيا .. أختك لا تسمع لأن عصبها السمعي أصابه التلف نتيجة إصطدام رأسها بقوة .. السماعات العادية لن تناسبها لأنها تحتاج أن يكون العصب سليماً .. الحل هو إيجاد وسيلة بخلاف العصب لتوصيل الصوت إلى الدماغ .. العملية عبارة عن زراعة آداة في جانب المخ و هذه الآداة تعمل على تحفيز الخلايا السمعية مباشرةً في جذع الدماغ .. و كذلك يتم زرع ميكروفون خلف الأذن .. يتواصل الميكروفون باآداة عن طريق وصلة خارجية يمكن نزعها و توصيلها .. النتيجة .. أن الصوت ينتقل من الميكروفون إلى مخها مباشرة عن طريق الآداة متجاوزا الأذن الداخلية والعصب السمعي التالف .... تخيلي الأمر كوصلة خارجية تم إضافتها لتخطي العضو الأصلي المصاب .. يطلقون على العملية زرع جذع الدماغ السمعي (Cultivation of the Auditory Brainstem) ليست تخصصي كما تعرفين .. لكن زملائي أخصائي السمع (Audiologists) متحمسين لها للغاية .. خطورتها أنها عملية متعلقة بالمخ و السمع و يقوم عليها فريق كامل من الجراحين ..

- هل من نتائج مؤكدة حولها ؟؟

- حتى الآن نسب النجاح عالية من حيث قدرة المرضى على تميز الأصوات و التعامل مع الغير سمعيا و لا أعرف أي أرقام عن وفاة أحدهم نتيجة العملية .. عمليات المخ في أمريكا نسب نجاحها عالية عامة ..

نظرة الشرود في عينيها لازالت مستمرة و إن تلألأت دمعتان في عينيها .. كان يعرف أنها تجلد نفسها كل يوم و كل لحظة على ما حدث لأختها .. لا يلومها .. لكنه كان يشعر بالشفقة لما تقاسيه .. صلابتها و مرحها الظاهر دائما هو وحده يعلم دون العالم كله الصرخة الخائفة المدفونة تحتهما .. إقترب منها و أحاطها بذراعيه ضاما جسدها نحوه .. لو إستطاع لأدخله في صدره و لجعل ضلوعه مأواهما و لجعل مخدعها الأبدي حيث تنتمي .. بداخل قلبه .. وصلتها مشاعره فلم تقاوم و إستسلمت لذراعيه.

Take my hand, take my whole life too

For I can't help falling in love with you

(Elvis Presley – Falling in love with you).


                             تسعة آلاف و تسعة و خمسون يوما على الأرض ..

2) الصدمة ..

جلست (فرح) في حجرتها على متربعة على فراشها تستمع إلى بعض الموسيقى من مشغل الإسطوانات .. ما زالت لا تصدق أنها تستمع إلى الأصوات مرة أخرى .. الآن فقط آفاقت من غيبوبتها .. الآن فقط الكابوس الذي طاردهما في وعيها و نومها فارقها أخيرا .. أخذت تتلمس مشغل الإسطونات بأطراف أصابعها كأنها تتلمس الموسيقى نفسها .. وضعت يدها على مخرج الصوت فشعرت بالإهتزازات على أطراف أناملها .. أغمضت عينيها و هي تستشعرها قبل أن تمسك بوصلة سماعتها المثبتة خلف رأسها و تنزعها من مكانها .. إنطفأت فجأة الأصوات من العالم و غرق كل ما حولها في الصمت .. مدت أناملها مرة أخرى على مخرج الصوت في مشغل الإسطوانات و أغمضت عينيها و هي تستشعر إهتزازات الغشاء الخارجي له .. بدا شبح إبتسامة يغزو شفتيها قبل أن يزداد تدريجيا .. مازالت قدرتها من إستشعار الموسيقى من الإهتزازات تعمل بكفاءة .. من كان يخبرها أنها ستخوض كل ما خاضته خلال هذا العام لإتهمته بالجنون التام .. ظهور (مصطفى) و عودتها للعزف على آلته .. ثم تمكنها من العزف بأسلوب مختلف عن أسلوبها القديم و الذي فوجئت أنه أبهر الجميع .. أثارت ذكرى (مصطفى) في نفسها راحة و إشتياق .. ذكراه كانت كالإشتياق إلى الشمس في قلب الشتاء و الإشتياق إلى رياح الشتاء الباردة في قلب الصيف .. إنها تفتقده و إن كانت تخشى الإعتراف بهذا .. لكنها تستطيع أن تقول بأريحية أنها تثق به .. ما زالت تذكر كيف كان الجدل واسعا بعدما جاءت (رهف) بنبأ العملية من (يحيى) .. أمها كانت أول المعارضين .. الذعر كان يشع من عينيها كتسرب مفاعل (تشيرنوبل) (Chernobyl) .. يلوث كل من حولها بالخوف و القلق .. لم ترى أمها قوية التأثير هكذا طوال عمرها إلا في خوفها هذا .. تراجع خالها و تراجعت (رهف) و (خلود) .. صمدت (أليساندرا) أمامها إلا أن هذا لم يكسبها إلا إزدياد عداوة أمها .. الوحيد الذي طلبت رأيه (فرح) و الذي وثقت في رأيه أكثر من أي أحد أخر كان (مصطفى) .. مازالت تذكر نقاشهما حول العملية .. مازالت تذكر مجهوداته لتوفير كل المعلومات و نسب النجاح .. مازالت تذكر كيف خاطب أمها و أقنعها .. و هو كما هو .. بخجله الفاتن و دمث أخلاقه و منطقه البسيط .. (هل قالت خجله الفاتن؟؟) .. في النهاية رتب (يحيى) كل شئ .. سافروا جميعا إلى أمريكا .. دفع المعهد الموسيقي التكاليف الباهظة كلها .. قبل أن تكتشف أنه جراء إقناع (مصطفى) للمديرة و التي حاربت بنفسها من أجلها !! .. .. بعد نجاح العملية و بمجرد أن سمحوا لها أن ترى أهلها فوجئت بأن (مصطفى) عاد إلى كندا بعد أن إطمأن إلى نجاح العملية !! لم ينتظر ليحادثها .. لم ينتظر ليهنئها .. و الأهم بالنسبة لها .. لم ينتظر لتسمع صوته !! كانت بداخلها ترغب بشدة أن تسمع صوته .. على مقدار فرحتها بقدرتها على السمع مرة أخرى و بسماع صوت كل من حولها .. (رهف) .. أمها .. و الأصوات الجديدة مثل خالها و (أليساندرا) و (يحيى) .. إلا أنها بداخلها حزنت لعدم سماع صوت (مصطفى) أكثر صوت رغبت في الإستماع إليه .. فجأة شعرت بنبضات عقلها تطرق رأسها من الداخل تحاول ثقبه .. جاءت ألام الصداع النصفي الذي هرب من كابوسها و ظل مرافقا لها فجأة كعادته مؤخرا .. لعنة أبدية دفنت طلاسمها عميقا بين ثنايا عقلها .. أمسكت برأسها بشدة و كتمت أنفاسها و ضمت شفتيها بقوة إلى بعضهما البعض كي تسجن التأوهات بداخلها .. دقائق و بدأ يهدأ تدريجيا و تستعيد تنفسها ببطء ..

كانت تلهث بعد المجهود الذي بذلته لقتل الألم .. أطلقت ببطء تنهيدة عميقة و أمسكت هاتفها المحمول .. وضعت إبهامها على زر الفتح فقرأ بصمة إصبعها و ظهرت المحتويات على شاشته .. قفزت إلى محتوى الصور على الهاتف .. أخذت تقلب فيهم حتى توقفت عند صورة تظهرها بجوار (مصطفى) و (خلود) و جهازه الموسيقي .. إستخدمت أصابعها لتكبير الصورة حتى ملأت الشاشة بوجه (مصطفى) فقط .. يبتسم إبتسامته الخجول و ينظر إلى الكاميرا بتواضع .. ذقنه نصف حليقة .. عينيه فيهما صدق الأنبياء و طهارة القديسين .. أعادت الوصلة إلى موضعها خلف رأسها و وضعت السماعة هلالية الشكل خلف أذنها فعاد صوت الموسيقى القادمة من مشغل الأسطوانات فبهتت .. كانت الموسيقى التي تسبح في الأجواء حولها هو لحنها الذي ألفته على نغمات صوت (عمر) .. لحنها الأخير قبل الحادثة .. تسارعت أنفاسها .. مازال ذلك الجزء الأصعب من الكابوس الذي بقى معها للأبد .. نظرت إلى صورة (مصطفى) على شاشة هاتفها المحمول ثم أغلقته في ضيق و تأنيب من ضميرها .. قامت من على الفراش و إتجهت إلى خزانة ملابسها .. فتحتها و أخرجت منها صندوقا صغيرا حملته و هي عائدة إلى الفراش .. نزعت غطاء العلبة و أخرجت من العلبة صورا لها مع (عمر) .. أخذت تمرر أناملها علي وجهه و نغمات و مقاطع لحنها تتردد في أركان الغرفة تشعر معها أنها تسمعه هو شخصيا .. ليته كان هنا الآن .. ليتها تسمع صوته مرة أخرى .. ليتها تشعر بملمس يديه مرة أخرى حين يحتضن كفيها .. أو بملمس شفتيه على ظهر كفها عندما كان يطبع عليها قبلة حانية .. نقطة ماء سقطت على الصورة فإصطدمت بها و تناثرت إلى عشرات النقاط الصغيرة .. إنتبهت إلى أن عينيها تدمعان في صمت و تسيلان على الصور .. جففت الصور بكف يدها و و مسحت الدموع بكف يدها الأخر من عينيها .. قبل أن تستمع إلى طرقات على الباب فتنظر إليه و هي تسأل الطارق الدخول .. فُتِحَ باب الحجرة لتجد (آليساندرا) زوجة خالها تدلف مبتسمة و هي تقول بالإنجليزية

- كيف حالك عزيزتي ؟؟

- ( أليساندرا) !!

قالتها(فرح) بإبتسامة واسعة قبل أن تثب من على الفراش و تتبادل الأحضان و القبلات على الخد مع (أليساندرا) .. قالت (آليساندرا) بلهجة مرحة و هي لا تزال محتضنة (فرح)

- شئ جيد أنني لا أضطر الآن إلى ترك هذا الحضن الدافئ لأجعلك تشاهدين شفتي

ضحكت (فرح) قبل أن تقول

- إشتقت لكم يا رفاق .. أخيرا عُدتم من شهر العسل !!

- انتي تعرفين (سلاه) جيدا .. يحب أن يعطي كل شئ حقه

قالتها في نبرة دلال لم تخطئها أذني (فرح) فإبتسمت في خجل .. لا تنكر من داخلها أنها تحب (أليساندرا) و تميل إليها .. تفهم تماما حب خالها الشديد لها و لا تتفهم إطلاقا تجنب أمها لها!! .. قالت (أليساندرا) و هي تنظر إلى مشغل الإسطوانات مبتسمة

- كيف حال حفلاتك الآن .. أنا مشتاقة لأن أحضر حفل لك و أنا من ضمن أفراد العائلة

- -مبتسمة- المعهد يصر على عمل حفل العودة على مسرح الدولة هنا .. لكني أنتظر زواج (رهف) و (يحيى) .. أريد أن أكون بجانبها كما كانت بجانبي طوال السنين الماضية ..

- انتي ملاك حقيقي (فرح)

- -مغيرة الموضوع بإبتسامة- دعك من هذا .. هل ستستقرون هنا كما وعدنا خالي ؟؟

- (سلاه) بدء بالفعل شراء منزل هنا لنا .. و أنا الآن أحاول العثور على عمل في إحدي المستشفيات

- أنا واثقة أنك ستجدين .. (يحيى) وجد عملا و سينتقل للإقامة هنا مع (رهف) بجوارنا

- نعم .. أعرف .. أعرف .. -بإبتسامة لعوب- طائري الحب الصغيرين .. أحب كيف تغير (يحيى) من أجل (رهف) و كيف تقبلته (رهف) بعد الحادث ..

تردد صدى كلمة الحادث كزلزال داخل (فرح) فبهتت و نظرت إلى (أليساندرا) بتعجب قبل أن تقول ببطء

- ماذا تقصدين بكيف تقبلته (رهف) بعد الحادث ؟؟

إبتسامة مرتبكة إرتسمت على وجه (أليساندرا) قبل أن تقول

- ألا تعلمين أن من صدمك بالسيارة كان هو (يحيى) .. أو بالأصح (چوناثان) قبل أن يغير إسمه ؟؟

إتسعت عيني (فرح) حتى أخرهما و لم تنطق شيئا .. ريقها كالزقوم لا تستطيع إبتلاعه .. تصلبت الكلمات في حنجرتها و سدت مخارج الكلام و الهواء .. لا بد أنها أخطأت سماع (أليساندرا) ..

- ما الذي تقولينه يا (أليساندرا) ؟؟ -قالتها بصوت متردد-

- لم أعلم أنك لا تعلمين .. -قالتها بصوت نادم-

- من فضلك كرري ما قلتيه .. -بدأ الإنفعال يظهر في صوتها-

- -مبتلعة ريقها- إنسي ما قلته (فرح) … ذلة لسان

ذلة لسان ؟؟ .. ذلة .. لسان ؟؟ .. ما الذي يحدث ؟؟ .. ما الذي سمعته ؟؟ .. هل الحجرة تهتز من حولها ؟؟ .. لماذا نبضاتها تحجب الكلمات في حنجرتها ؟؟ .. ما سمعته حقيقي !! .. ما سمعته حقيقي !! .. كيف تفعل (رهف) هذا ؟؟ .. كيف يمكن أن تقبل بمن وضعها في المعزل الصامت لمدة عامين كاملين ؟؟ .. كيف يمكن أن تحبه .. و متى ؟؟ بعد الحادثة ؟؟ بعد أن كانت بين الحياة و الموت ؟؟ أم قبل الحادثة ؟؟؟؟ .. عقلها يفقد السيطرة على الأفكار فتخرج عشوائية شرسة .. تشعر بوحشيتها في شرايينها و أوردتها تنتهك و تفترس كل ذرة دماء منها..

- (فرح) ؟؟

قالتها (أليساندرا) بشئ من التوتر و هي تشعر بالذنب نتيجة ذلة لسانها

- هل انتي متأكدة (أليساندرا) ؟؟

قالتها و قذفت معها صديد و قيح الخيانة من فمها .. من فضلك (أليساندرا) كوني مخطئة .. أتوسل إليك إعترفي إنك عمياء و أخطأتي .. أو كوني بكماء و و لا تتكلمي و تؤكديها .. كله إلا (رهف) .. فقط كوني فتاة صالحة .. أو كاذبة .. و إعترفي إنك أخطأتي !! .. لم تجب (أليساندرا) صمتت و نظرت نحو الأرض .. للمرة الثانية تكون نذير شؤم ل(فرح) .. أصبحت بنجاح ساحق سفيرة الأنباء السيئة ..

- (أليساندرا) أجيبيني من فضلك!!!

قالتها (فرح) في شئ من الحدة هذه المرة و أفكارها المسعورة تتزاحم أمام عينيها .. تنهدت (أليساندرا) و لم تتكلم .. أخرجت هاتفها المحمول و داعبت شاشته لدقيقة قبل أن تتحاشى عيني (فرح) و هي تمد يدها بالهاتف إليها

- هذا الخبر للحادث في الجارديان (Gardian) -قالتها بصوت ضعيف-

أخذت (فرح) الهاتف من يد (أليساندرا) .. لم تفكر يوما منذ عادت إلى وعيها أن تقرأ شيئا عن الحادث .. كانت مشغولة بالتعايش مع الصمم الذي أصابها قبل أن تنطفئ شمعتها تماما بموت (عمر) و لم تعد تهتم بشئ .. الكلمات تتموج و تتلاعب أمام عينيها .. بعسر إستطاعت القراءة .. العازفة الأسطورية في غيبوبة .. عنوان المقالة الرئيسي بخط كبير و تحت العنوان الرئيسي عدة أسطر تخطتهم سريعا ثم صورة لها مأخوذة من إحدى صورها الدعائية و هي تبتسم .. تبتسم بسعادة حقيقية لا زيف أو خداع فيها .. تبتسم بسعادة من لم يعرف أن خطيب أختها أدخلها في غيبوبة و أفقدها سمعها .. بل و الأسوء أن أختها تعرف !! .. صواعق العالم إجتمعت في صاعقة واحدة كبيرة ضربت قلبها و أحرقته عندما رأت في الأسفل صورة ل(يحيى) .. مرهقا و مهموما .. رائحة شواء قلبها تتعالى و أبخرته أحرقت عينيها فنزلت دمعتان جعلا الكلمات المكتوبة تحت صورته مموهة .. مسحتها بإصبعها قبل أن تقرأ بعسر .. دكتور (چوناثان تشابمان) المتهم في الحادث .. الخبر قد تأكد و ننتظر الآن معرفة تطورات الأوضاع .. وقعت عينيها على تلك العبارة في أخر المقالة فردتهما دون وعي .. الخبر قد تأكد و ننتظر الآن معرفة تطورات الأوضاع .. (رهف) خانتها .. (يحيى) أدخلها في الغيبوبة .. الخبر قد تأكد !! .. شعرت بعودة المطارق التي تحاول تحطيم رأسها من الداخل فتأوهت بصوت عالي و وقع الهاتف المحمول منها على الأرض و أمسكت رأسها براحتي يديها و تأوهت بصوت عالي

- (فرح) هل انتي بخير ؟؟؟

قالتها (أليساندرا) في فزع و أمسكتها .. سقطت (فرح) جالسة على الفراش و ظلت ممسكة لرأسها و هي تضغط بقوة عكس إتجاه المطارق .. لماذا لم تكذبي (أليساندرا) .. لماذا لم تكوني مخطئة .. بل الأكثر .. لماذا أصررتي على ألا تكوني مخطئة!! .. نبضات الصداع النصفي تسابق قطارا كونيا يحملها نحو الثقب الأسود .. قبل أن تهدأ الطرقات قالت و هي تلهث

- (أليساندرا) .. أخبريني كل شئ عن الحادث

- (فرح) .. حبيبتي .. إهدأي الآن و لا تفكري في الأمر حاليا

- أرجوك (أليساندرا) .. أخبريني بكل شئ

قالتها (فرح) و الدموع تتجمع في عينيها و تنفجر كالألعاب النارية واحدة تلو الأخرى .. بهتت (أليساندرا) عندما إنفعلت عليها (فرح) .. تنهدت ثم جلست على الفراش بجوار (فرح) و بدأت تحكي.


3) الحقيقة ..

برشاقة غزال بري صعدت (رهف) درجات السلم نحو الشقة كعادتها .. السعادة كانت وقودا إضافيا لمحركات ساقيها .. من ذَا الذي يحتاج المصعد عندما تستطيع أن تتراقص على أنغام سعادتك الداخلية على درجات السلم .. كل شئ كان يسير بأفضل ما يكون .. القدر قرر أن يضم إسمها إلى قوائم السعداء .. (فرح) إستعادت سمعها و إبتسامتها .. (يحيى) سيكون لها أخيرا إلى الأبد و حتي يفرقهم الموت في السراء و الضراء .. و اليوم جاءت أخبار أسعدتها حتى النخاع .. أصبحت على بعد خطوتين من المركز الأول في التصنيف العالمي للتنس!! .. تستطيع أن تترك لخالها الآن مهمة رعاية أختها و أمها و تكف عن لعب الدور الذي تقمصته لسنوات لتكون نفسها أخيرا .. لتطلق سراح (رهف) المحبوسة بداخلها منذ سنوات .. الطفلة التي قتلتها منذ سنوات حان الوقت لتعود إلى الحياة .. حان الوقت لترى الحياة بعد أن دُفِنَت لسنوات .. السجينة قد حان أخيرا الوقت ليُطلق سراحها .. أولجت المفتاح في باب الشقة و هي تدندن بلحن أغنية (Lady in Red) و الإبتسامة تغلف شفتيها بمذاق اللذة .. أغلقت الباب خلفها و وضعت المفتاح في حقيبتها و عبرت ردهة المدخل بخطوتين راقصتين و هي تحرك كتفيها و ذراعيها في الهواء .. وجدت أمامها في الصالة أمها و خالها فأطلقت صرخة مرحة أكثر منها فرحة و هي تفتح ذراعيها في الهواء و تقول بإبتسامة أوسع

- يا خالو يا خالو يا خالو .. أحبيبي يا (أبو صلاح)

ضحك خالها و أمها قبل أن تقول أمها ضاحكة

- يا بت إختشي و كلمي خالك بأدب

هزت (رهف) كتفيها في رقصة مرحة و هي تقفز على خالها و تقبل خديه و تقول لأمها

- جرى إيه يا ست الكل .. ده أنا برحب بالعريس .. هو إحنا عندنا كام خالو بيتجوز يعني .. و بعدين إيه .. عيني عليه باردة .. راجع من شهر العسل وشه رادة فيه الدموية .. شكل الصلصة الإيطالي جامدة ..

لم يتمالك (صلاح) نفسه فضحك بشدة و هو يحتضن (رهف) و يقول

- وحشتيني و وحشني هزارك يا (رهف) .. لسة بقول لأمك وحشنّي كلكم ..

تركته (رهف) و إنحنت تقبل خدي أمها قبل أن تقف خلف مقعد أمها و تنحني لتحتضن رأس أمها من الخلف و هي تقول

- طبعا لازم نوحشك .. و بالذات القمر ده .. اه إعترف كدة .. حتى أكلها وحشك صح ؟؟

ضحكت أمها و ضربت بكف يدها على ظهر كف (رهف) و ضحك خالها و عاد للجلوس و هو يقول

- شكل الموود عالي النهاردة .. إيه .. الصلصة الأمريكاني بتاعتك قربت تستوي و لا إيه

- -ضاحكة- هي مستوية من زمان لدرجة إنها قربت تحمض .. إلا فين العروسة صحيح .. سايبها في البيت تتسبك و لا إيه يا خالو ؟؟

ضحكت أمها و ردت هذه المرة

- جوة مع أختك في أودتها .. يدوبك سلمت و دخلت عليها ..

- عندها حق بصراحة .. (أليساندرا) برضه تحسيها فنانة .. محتاجة تقعد مع حد فنان زيها .. أمال هتقعد مع زلعة بلاص زي!!

ضحكا أمها و خالها و تركت رأس أمها بعد أن طبعت قبلة عميقة على خد أمها و تقافزت راقصة نحو حجرة (فرح) .. وجود خالها و (أليساندرا) أضافت إلى سعادتها جرعة مزدوجة التأثير .. منتشية بجرعة السعادة المركزة فتحت باب الحجرة دون إستئذان و هي تبتسم و تغني بالإنجليزية بصوت عالي إحدى أغاني الزفاف الأجنبية مداعبة (أليساندرا) دون أن ترى ما في الداخل

Here comes the bride dressed all in light

توقفت عن الغناء و تجمدت الإبتسامة على شفتيها عندما شاهدت (فرح) شاردة تماما و (أليساندرا) عيناها تلمعان بدموع لم تعلن عن نفسها بعد

- هل أنتم بخير هنا ؟؟

نظرت (فرح) نحوها بحدة .. لأول مرة ترى الحدة في عيني (فرح) الذهبيتين .. لأول مرة تشعر بالخوف من النظر إلى عينيها الجميلتين .. تأثير الحدة و الغضب في عيني (فرح) مخيفا حقا!!

- انتي عمرك ما قلتيلي عرفتي (يحيى) إزاي يا (رهف)

أتى السؤال ككرة مرتدة من خصمها غير متوقعة .. بردة فعل سريعة إكتسبتها من ممارسة التنس أجابت و هي تجاهد ألا تلهث من سرعة نبضات قلبها التي إرتفعت فجأة

- (يحيى) .. (يحيى) أخو (كريستينا) .. لاعبة تنس زي .. و إتقابلنا قبل كد في أكتر من بطولة ..

- (رهف) -بصوت يجاهد البكاء- .. انتي عرفتي (يحيى) من إمتى ؟؟

- مش فاهمة سؤالك ؟؟ -قالتها متوترة-

- إيه .. بتكلم هندي ؟؟ بسألك عرفتي (يحيى) إمتى؟؟

- في إيه يا (فرح) .. مالك بتسألي الأسئلة دي ليه ؟؟

قالتها و هي تنظر إلى (أليساندرا) متعجبة .. نبضات قلبها تتسارع و لا تدري لماذا تحتشد قطرات العرق على جبهتها الآن .. نظرت إليهما (أليساندرا) بعينين فيهما فزع و عدم فهم ..

- جاوبي على سؤالي يا (رهف) !!

جاءت الكرة هذه المرة أسرع من مضربها .. جاءت بكل حدة لتصدمها .. الصدمة جعلتها تتزلزل لوهلة .. لم تعتد طوال عمرها من (فرح) أن تخاطبها بهذه الحدة أو تصيح عليها .. لم تعتد أن يخاطبها أي أحد بهذه الحدة عامة .. لو أحد أخر غير (فرح) لكان رد فعلها الآن عنيفا إلى أقصى درجة .. قالت بصوت خارج منها مترددا بين الغضب و ضبط النفس

- أعرفه من زمان .. من ساعة ما إبتديت ألعب برة .. في إيه بقى ؟؟

خرج سؤالها رغما عنها عصبيا غاضبا .. لم تحتمل أعصابها كل تلك الحدة و الأسئلة التي لم تفهم مغزاها و إن كان هناك ناقوس بداخلها يدق بعنف لا تدري له سببا .. شئ مفقود في المباراة هنا لا تفهمه حتى الآن و لكنها تشعر به

- يعني ماعرفتهوش بعد الحادثة ؟؟

صراخ (فرح) كان كرة من النار إخترقت مضربها و حطم قدرتها و ثباتها و نزعها نزعا من مكانها .. لم تتوقع هذه الضربة .. لم تراها قادمة حتي و إن أحست بها .. كيف كانت تجيب بهذا الغباء .. إتسعت عيناها في فزع و جسدها يتخلى عنها و يحاول الهروب إلى الخلف فإمسكت بيديها بإطار الباب جاهدة كي تقف في مكانها .. قفزت (أليساندرا) فزعة من حدة و صراخ (فرح) .. إنهارت الدموع من عيني (فرح) إنهيار الثلوج من أعلى الجبال .. صراخها جلب خالها و أمها نحو حجرتها .. صدر (رهف) إزدحم بمشاعرها فإختنق نفسها و صوتها ..

- في إيه يا بنات ؟؟

قالتها أمها في فزع

- ردي عليا يا (رهف) .. ردي عليا !!!

صراخ (فرح) جعلها تجفل و تتسع عينيها في فزع .. قفزت صورة (فرح) و الدماء تغلف رأسها و تصبغ شعرها باللون الأحمر القاني إلى رأسها .. المشاعر المزدحمة في صدرها تتصاعد كالحمض إلى فمها فتحرق حنجرتها و تذيب أحبالها الصوتية .. نظرت إلى أمها و خالها بفزع .. بادلها خالها النظرة الفزعة قبل أن ينظر إلى (أليساندرا) فوجدها تقف و ظهرها إلى الحائط و راحتي كفيها تغطيان فمها قال في لهجة متوترة حاول أَن تكون مهدئة

- في إيه يا (فرح) .. مالك يا حبيبتي ؟؟

لم تجبه (فرح) ظلت محدقة إلى (رهف) بحدة و الدموع و المخاط يختلطان ببعضهما فوق وجهها .. تحولت (رهف) إلى تمثال متقن التفاصيل يجسد تعاسة و شقاء البشر .. كلمات و نظرات (فرح) تمزقها من الداخل .. تسحقها .. و الدموع اللعينة هجرت عينيها و تركتهم جافتين كسطح عطارد .. مازالت الكلمات المحتبسة في حلقها تذيبه من الداخل و تلهبه

- ردي عليا يا أختي .. أنا مش قادرة .. ردي عليا أبوس إيديكي

قالتها (فرح) و بركة من الدموع تتكون تحت قدميها .. جرت عليها أمها و ضمتها إلى حضنها و هي تبكي لبكاء (فرح) دون أن تدري له سببا .. تحدث خالها مع (أليساندرا) بالإيطالية فإستغرق منها الأمر ثوان لتنزع كفيها عن فمها و تحادثه بالإيطالية بكلمات جعلت نظرة الذنب تقفز إلى عينيه و أنفاسه تتسارع .. أما (رهف) فظلت الخواطر و الصور و الكلمات كل يتزاحم في رأسها أكثر و أكثر .. كانت تحاول أن تجمل الكلمات .. بل تحاول أن تجد الكلمات .. لكن لا جدوى .. جملة واحدة أخيرا عبرت حنجرتها و هربت من جحيم الإزدحام في رأسها ..

- أنا أسفة يا (فرح) ..

خرجت منها منكسرة .. ذليلة .. ضعيفة .. خرجت و معها إنفجار بركاني من حمم اللافا من عينيها .. تخلى جسدها عنها تماما فانهارت إلى الأرض فجأة كدمية إنقطع خيوطها فجأة .. هرع خالها إليها و جلس على الأرض بجانبها يربت على ظهرها

- أسفة على إيه .. فهميني ؟؟

قالتها (فرح) في توحش خرج منها للمرة الأولى منذ ولادتها و إلتفتت أمها إلى (رهف) متسائلة .. تصاعد لهيب حمم اللافا بداخل (رهف) فخرجت في صورة تأوهات عالية إندمجت بالدموع المنهمرة من عينيها .. تركت (فرح) حضن والدتها و سارت خطوتين بإتجاه (رهف) قبل أن تجلس على الأرض بالقرب منها و نظرت إليها بحدة أكثر و هي تقول

- أسفة على إيه .. فهميني ؟؟

نظرت إلى خالها الذي تحاشي عينيها و أخذ يربت على ظهر (رهف) .. ضيقت عينيها قليلا لوهلة مفكرة قبل أن تنهض و تتراجع إلى الوراء بعيدا عنهما .. أحست بملمس يدي والدتها على ظهرها فإنتفضت و دفعتها بيديها و هي مازالت متراجعة حتي لامس ظهرها الحائط

- كلكم عارفين ؟؟ كلكم بتلعبوا بيا ؟؟ كلكم ؟؟ -قالتها بصراخ-

- عارفين إيه يا (فرح) أنا مش فاهمة حاجة !!

قالتها أمها بحرقة .. فنظرت إليها (فرح) في لوم و عتاب

- أمك ما تعرفش حاجة يا (فرح)

قالها خالها في تخاذل جعل أمها تنظر إليه و تسأله هذه المرة

- أعرف إيه يا (صلاح) ؟؟ ما تفهموني !!

فجأة تكلمت (رهف) .. جمعت قوتها لتستطيع أن تقف على قدميها و ساعدها خالها و هو ينظر لها بشفقة .. لم تستطيع مواجهة عيني (فرح) .. السر الحبيس بداخلها يعلن عن نفسه كل لحظة .. السر الدفين أزاح كل شئ من طريقه ليخرج إلى السطح .. السر الدفين الذي ظنت أنه قتل مع مقتل (عمر) أعلن أنه حي يرزق .. و الآن يطالبها بثمن سجنه طوال السنوات الماضية ..

- تعرفي الحقيقة يا ماما .. الحقيقة .. -بصوت مبحوح-

- قوليها .. سمعي ماما .. سمعيني .. (يحيى) هو اللي خبطني في الحادثة !!! مش كدة -قالتها (فرح) بحدة-

- إيه ؟؟

ضربت أمها براحة يدها المفتوحة صدرها و نظرت إلى (رهف) و أخيها بغضب .. هزت (رهف) رأسها و الدموع تتساقط من عينيها سيولا تغرق وديان و تملأ بحور ..

- أنا اللي كنت سايقة العربية يا (فرح) .. أنا اللي خبطتك .. أنا المجرمة اللي خبطتك .. أنا المجرمة ..

موجة سقيع مثلجة هبت على الغرفة فتجمد كل من فيها .. تجمد الزمن و الهواء و الصوت .. الوحيدة التي قاومت التجمد و هي ترتجف بحمى بركانها الثائر كانت (رهف) .. بهتت (فرح) و صمتت تماما و إتسعت عيناها بشدة .. رأت فجأة الصهباء التي اختفت مؤخرا أمامها تصرخ عليها صرختها الصامتة .. هذه المرة لم تغمض عينيها و لم ترتجف منها رعبا .. انحن قليلا لأمام نحوها و لأول مرة تبادلها الصراخ الصامت بصرخة غاضبة جعلها تختفي من أمامها و أفزعت الجميع و أثارت نوبة الصداع النصفي بحدة ..

- (فرح) ..

حاول خالها أن يقول شئ و هو يضع رأس (رهف) في حضنه التي غرقت في نوبة بكاء و تأوهات في حين وقفت أمهما متسعة العينين غير مصدقة ما تسمع .. نزعت (فرح) وصلة السماعة من خلف رأسها قبل أن تصرخ فيهم في ثورة جعلت الدماء تهرب منهم كلهم

- مش عاوزة أسمع حاجة .. مش عاوزة أسمعكم .. مش عاوزة أشوفكم .. مش عاوزة أسمعكم تاني .. مش عاوزة أسمع أكتر .. إبعدوا عني كلكم ..

إقتربت أمها منها و هي تبكي ذاهلة تحاول إحتضانها فدفعتها (فرح) عنها و هي مستمرة في ثورتها .. وضعت (أليساندرا) راحتي يديها على أذنيها و أغمضت عينيها في ذعر .. خالها أخذ يحاول تهدئة (فرح) بكلمات مبعثرة لم تعن شيئا .. أما (رهف) فثورة (فرح) زادت البركان إنفجارا و حمما .. أحرقت الحمم خلايا عقلها فتوقف عن العمل و أعلن وعيها عصيانه فغابت الحجرة و من حولها عن بصرها فجأة ..


                             سبعة آلاف و تسعمائة و عشرة يوما على الأرض ..

4) المجرم ..

فتح (عمر) عينيه فجأة و هو يلهث .. نائم على بطنه و صدره .. وجهه مدفون في الوسادة التي بللها بعرق غزير .. لثوان ظلت صورتها من الحلم أمام عينيه .. وجهها ذو النمش .. شعرها الأحمر .. ملامح (رهف) الجذابة .. جسدها الأسطوري .. ما زال يشعر بأصابعها على رقبته و هي تضغط عليها بكل قوتها كي يلحق بها إلى العالم الأخر .. إعتدل على ظهره و جلس على الفراش يحاول أن يعب الهواء .. لا شك أن نومه على صدره و وجود الوسادة على وجهه هو ما جعله يحلم بذلك الكابوس .. لكن .. ذلك لا يفسر حلمه المستمر بها يوميا و هي تحاول قتله .. يبدو أنه على وشك أن يُؤْمِن بالأشباح .. شبح (كارول) يطارده يوميا في أحلامه جاعلا إياها كوابيس و جاعلا من أعصابه وقود عضوي يحرق إتزانه النفسي ببطء .. لم يستطع تحمل البطء في إنهياره العقلي فأسرع بوتيرته -شفقة بنفسه- بالخمر .. معدلات تناوله الخمر تزداد يوميا .. و ببطء يخرج من خانة شارب الخمر إلى خانة مدمن الخمر .. لكنه لم يعترف لنفسه بهذا .. و لن يعترف .. إستبدل الماء بالبيرة و باقي المشروبات بأردء أنواع الخمور المصرية .. لا يستطيع تحمل تكلفة الخمور المستوردة الفاخرة بعد .. أخذ يمسح عرقه و يلتقط أنفاسه التائهة ببطء .. يجب أن يسيطر على نفسه .. لن يسمح لتلك الغلطة التي إرتكبها منذ أسابيع قليلة أن تقضي عليه .. مسح العرق عن صدره العاري قبل أن ينظر إلى الجسد المجاور النائم على وجهه بجانبه تحت الغطاء .. فتاة الإستقبال التي فتحت له الباب نحو عالم (فرح) و (رهف) .. و نحو جريمته الأولى .. -ما إسمها ؟؟- .. شعرها مبعثر على الوسادة بجانبه و فمها مفتوح مازالت تفوح منه رائحة زجاجة (الأبسينث ماكتب) التي أحضرتها معها أمس .. للأسف تلاعبت الزجاجة بعقليهما بعد بضعة كئوس حتى أنه لا يتذكر تفاصيل كل ما حدث .. لكن الشئ المؤكد أن زجاجة الأبسينث و فتاة الإستقبال و معركة الفراش الليلة الماضية لم ينجحوا جميعا في إبعاد شبح (كارول) عنه .. ألقى نظرة أخيرة على رفيقة الفراش قبل أن ينزع الغطاء من عليه و ينزل قدميه إلى الأرض .. أغلق عينيه في ألم من الصداع الذي بدأ يهاجمه .. تأثير إنسحاب الخمر المعتاد .. إستغرق دقيقة في جلسته و تجشأ خلالها مرتين قبل أن يستجمع قواه المبعثرة و يقوم من على الفراش .. عاريا كيوم ولدته أمه سار بخطوات متثاقلة إلى باب الحجرة و منها إلى الصالة .. إحدى مزايا الخمر الجيد الفاخر أنها تنبه حواسك جيدا .. ضوء الشمس الضعيف المتسلل من خلال الستائر و النافذة المغلقة كان ساطعا بشدة كأنه يحدق إلى الشمس مباشرة فأغلق عينيه في ألم مصاص دماء يحترق بضوء الشمس .. صوت البائعين و المارين في الشارع يأتي من النافذة التي تقع في الدور الأرضي فيشعر أنهم يعيشون داخل أذنيه يتنفسون و يتشاجرون .. كانت شقته تقع بالقرب من شارع 26 يوليو .. بيت عتيق ورثه عن والده يدفع إيجارا له 5 جنيهات شهريا!! -صاحب العمارة اللعين يرفض التنازل عن أخذها أو تخفيض السعر!!- .. شقة إصفر الطلاء على حوائطها بعد أن كان أبيض اللون يوما ما .. صالة صغيرة تتسع بالكاد لطاولة طعام بنية اللون تقشر الطلاء عن بعض أجزائها و تكفي أربعة أفراد و لكنها تحوي مقعدين فقط .. (نيش) صغير يحمل نفس لون و حالة الطاولة و يحوي كتبا و مجلات بدلا من أطقم الطعام .. أريكتين قديمتين مازالتا تتحملانه و ضيوفه -من النساء دوما- و تتحملان ملاحمه معهم دون شكوى .. كانتا مغطيان بملابسه و ملابس فتاة الإستقبال .. -ما إسمها ؟؟- .. وجد باقي زجاجة الأبسينث و بقايا وجبة دجاج و كوبين على المائدة .. دفع قدميه نحو الحمام الملحق بالصالة و أفرغ مثانته ثم إستحم .. إنتهى من إستحمامه فجفف جسده و خرج إلى الصالة كاسيا نصفه السفلي بالمنشفة ليفاجأ بفتاة الإستقبال .. -ما كان إسمها ؟؟- تقف أمامه مترنحة و قد إرتدت معظم ملابسها و تغلق أزرار قميصها

- صباح الخير

قالها بإبتسامة روتينية .. يجب عليه أن يلعب الآن دوره المعتاد في الملاطفة لإبقاء مصادر متعة الفراش متاحة دائما .. نعم .. هو لا يتذكر الكثير مما حدث .. لكنها على الأقل أثبتت أنها مصدر جيد للخمر المستورد الممتاز .. مازال طعم زجاجة الأبسينث في جوفه يدفعه إلى تذوق المزيد في مرات أخرى

- صباح النور

قالتها بصوت ناعس يعاني أثار الثمالة و معركة الفراش و نوم لم يذهب بعد ..

- إيه .. مش هتستحمي و لا إيه .. ماتخافيش أنا أمنت لك الحمام و إتأكدت إن مفيش و لا صرصار يعكر عليكي الدش .. في بس (فرافيرو) بس ده من العيلة .. ممكن تستحمي قدامه عادي و ماتكسفيش ..

قالها بلهجة مرحة جعلها تضحك قبل أن تقول

- يععععع .. مفاضلش غير إني أستحمى قصاد فار كمان ..

- طيب ما هو كان شايفنا إمبارح و إحنا بنلعب عريس و عروسة و كان مؤدب

ضحكت مرة أخرى و هي تمشي مترنحة نحو حقيبتها و تخرج منها مشطا و حقيبة صغيرة و تقول له

- أنا كدة هتأخر على الشغل .. و عندي شيفت الصبح .. عاوزة مراية أظبط شكلي

- بصي في عينيا هتشوفي نفسك زي ما أنا شايفك .. زي القمر ..

- -مبتسمة في دلال- بطل هزار ..

قالتها و هي تنظر حولها قبل أن تمشي مترنحة بكعبها العالي إلى الحمام و تقف أمام مرآته تمشط شعرها و تعدل من هندامها و تضيف إلى وجهها مساحيق التجميل أما هو فسار نحو المطبخ الملاصق للحمام و أعد لها كوب من القهوة الثقيلة .. وضعها على طاولة الطعام قبل أن يتناول من حقيبتها علبة سجائرها و قداحة .. أخرج سيجارة وضعها في فمه و أحرق طرفها قبل أن يمتص نيكوتينها و يخرجه في صورة دخان .. خرجت من الحمام فوجدت القهوة في إنتظارها فنظرت إليه مبتسمة و بإعجاب في عينيها

- القهوة دي هتفوقك لغاية ما تخلصي الشيفت ..

قالها و هو يبتسم إبتسامة روتينية و ينفث دخان السيجارة .. تناولت كوب القهوة في رشفتين ثم سارت إليه. تناولت السيجارة المشتعلة من يديه و أخذت منها نفسين و هي تبتسم إبتسامة إغراء قبل أن تعطيه السيجارة مرة أخرى

- مش في العادي بعمل كدة .. بس أنا حابة أشوفك تاني النهاردة

قالتها و هي تنظر له من تحت غطاء من الماسكارا بنظرة لعوب .. قال و هو ينفث دخان السيجارة عاليا و ينظر لها بإبتسامة

- لوحدي و لا أنا و (فرافيرو) ؟؟

ضحكت و ضربت صدره بدلال بقبضة يدها قبل أن تحمل حقيبتها على كتفها و تسير نحو باب الشقة و هي تقول

- هخلص الشيفت الساعة 5 .. هتكون موجود هنا و لا نتقابل برة؟؟

- هكون موجود هنا من الساعة 4 .. بحمي (فرافيرو) .. بس هسيب لك الباب مفتوح عشان تحصلينا في الحمام

ضحكت و فتحت باب الشقة و خرجت ثم أغلقته ورائها .. تابعها بعينيه حتى أغلقت الباب خلفها فزفر في ضيق .. لعب دور الرجل اللطيف طوال الوقت يحرق أعصابه .. قلة النوم تجعله إصبع ديناميت مشتعل يمشي على قدمين لا يعرف متى سينفجر .. كل العلاقات التي خاضها في الفراش .. كل شئ فعله .. محيطات الخمور التي شربها .. شبح (كارول) الذي يطارده .. كل ذلك لم يساعده على نسيانها .. لم يساعده على أن يسحق تلك الشجرة التي لا تكف عن النمو في قلبه .. كل ذلك لم يساعده على تخطي (رهف) و إخراجها من رأسه و أفكاره .. مازالت ذكراها التي لا تنقطع تترك غصة في حلقه لم تفلح الخمور و شفاه الفتيات الأخريات على إزالتها .. مازال يشعر بقبضة تعتصر قلبه كلما تذكرها .. لماذا لا ينساها مثلما نسى عشرات الفتيات ؟؟ هل لأنه لم يتذوقها ؟؟ هل لأن ملامحها بكل تفصيلة و تجعيدة و عدد أسنانها التي تظهر إذا إبتسمت محفورة على جدران عقله ؟؟ هل لأنها لم تقع في هواه كالأخريات ؟؟ أم لأن روحها تجعله يرغب بأن تنصهر روحه بها إلى الأبد ؟؟ .. تنهد بعصبية و نظر إلى ساعة الحائط فوق الأريكة .. لن يذهب إلي العمل اليوم أيضا .. الحقيقة أنه لم يذهب منذ عاد من إنجلترا و لا يعلم حقيقة هل مازال مقعده و مكتبه بإنتظاره أم أنه أصبح من ضمن قائمة العاطلين المتزايدة مؤخرا .. مدخراته تنفذ كل يوم و هو لا يهتم .. لأول مرة يشعر بأنه لا يملك خطة .. لأول مرة يقف أمام رقعة الشطرنج و لا يعرف كيف يضع قطعه و لا كيف يحركها .. كل خطته الحالية تعتمد على أن يستمر بإسعاد الصماء العجفاء الراكدة على بعد آلاف الكيلومترات منه حتى تستعيد عافيتها و يتزوجها ثم يستطيع أن يعيش في أريحية معتمدا على ما ربحته و يضع خطة أخرى تعتمد على شهرتها .. أما الآن فعليه بدء المهمة اليومية الثقيلة التي تكهل روحه و فكره .. عليه أن يبادلها الرسائل المملؤة بالكلمات الفارغة التي أصبح أديبا في صياغتها مؤخرا لكي يحافظ على قطع اللعبة القادمة .. ذهب يبحث على الآيفون الذي تركه في مكان ما قبل أن يسمع صوت الهاتف يصدر نغمته المملة الشهيرة .. ربما تكون هي نفسها توقظه من نومه لكي يتبادلا الرسائل .. أحيانا سيطرتك على النساء حتى يكن كالخاتم حول الإصبع أمر محببا و جميلا .. لكن ما لم يعرفه أحد أن الخاتم قد يكون ضيقا يسبب الحكاك و الألم و الضيق !! .. و (فرح) خاتم من الأشواك ضيق يقطع في لحم إصبعه كل يوم .. ذهب إلى الهاتف متكاسلا .. رقم محلي غير مسجل يظهر على شاشته .. حرك إصبعه على الشاشة مجيبا فجاءه صوت جعله يرتعش و يستند على الجدار بيده .. صوت تم زراعة موجاته بين ثنايا عقله فلا تمحى بمرور الزمان أو تزيلها عوامل التعرية .. صوت هو مزيج من تغريد العصافير و صلوات الملائكة و موسيقى الحالمين .. صوت (رهف) .. صمتت أصوات البائعين و المارة .. صمت العالم بأجمعه .. بل يكاد يجزم بأنه توقف عن الدوران حول محوره و حول الشمس .. صمت كل شئ و توقف كل شئ أمام صوتها

- ألوووو ؟؟

إبتلع ريقا لزجا ثقيلا ثم سعل ليخرج الكلمات من فمه و هو يقول

- أيوة ..

- (عمر) ؟؟

- أيوة يا (رهف)

ذكر إسمها بين شفتيه كان مريحا .. كأنه كان ينتظر طوال عمره ليقول إسمها ..

- (عمر) .. أنا في مصر اليومين دول … عندك مانع نتقابل ؟؟

قالتها بلهجة عملية جافة .. قالتها كأنها تخبره بأن يذهب إلى الجحيم .. أو كأنها تسأله لماذا مازلت على قيد الحياة أيها الوغد ؟؟.. الحقيقة أنه لا يستطيع أن يلومها .. ليس لأنه كان لاعب شطرنج ماهر معها و هزمها شر هزيمة .. بل لأنها (رهف) .. فقط لأنها (رهف) ..

- أنا في شقتي لو تحبي نتقابل

- نعم ؟؟

إبتسم رغما عنه لسؤالها .. يعلم أنه يبالغ .. لكن فجأة عادت إليه مهارات الشطرنج و تحركات القطع .. يعلم أنها تحتاج إلى رؤيته .. يعلم أن ثقتها ستجعلها تجرؤ على المجيئ .. ما لا تعلمه هي نفسها إنه يعلمها خير من نفسها .. لا أحد يستحقها مثله .. فقط لو كانت تعلم .. قال كاذبا

- معلش .. أنا تعبان و مش خارج النهاردة من البيت .. فَلَو محتاجة نتقابل أن موجود في بيتي

- معلش .. ممكن تيجي على نفسك و تخرج نتقابل برة

- و الله كان بودّي .. بس مش قادر .. تعالي انتي أهلا وسهلا ..

- إنت ماعندكش دم …

- تؤ تؤ تؤ .. انتي مكلفة نفسك مخصوص و جاية مصر عشان تشتميني على التليفون … كان ممكن توفري تمن التذكرة و الطيارة و تشتميني من هناك

- -تنهيدة عصبية- إسمع يا بني آدم إنت ..

- -مقاطعا- بصي يا (رهف) من غير غلط كتير عشان أنا ماليش مزاج أتعصب .. انتي اللي طالبة تقابليني .. عاوزة تقابليني يا تيجي هنا يا مع السلامة مش فاضيلك

قالها و قد بدأ يفقد أعصابه حقا .. يعلم أنه مسيطر على حركاتها كلها و يعرف خطوتها القادمة و ما بعدها حتى إنتهاء أخر بيدق عندها و لكنه مع ذلك بدء يفقد أعصابه .. قابله صمت من الناحية الأخرى لدقيقة فأخذ يبحث خلاله عن سيجارة في المنزل

- -بعصبية- إديني العنوان

مبتسما لنفسه أملاها العنوان فسمع صوت غلق الخط بدون وداع .. لم يهتم .. الحقيقة التي لا يخجل على الإعتراف بها لنفسه .. أن سماع صوتها أثار مشاعره .. وقود إنسكب على نيرانه التي لم تخمد منذ عرفها .. و الحقيقة الأكبر .. إنه يريد أن يتذوقها .. حتى لو رغما عنها .. هو لن يؤذيها .. لن يمسها بسوء .. لكنه يعلم أنها ليست له .. فإن كان يريد شيئا .. فهو يريد أن يتذوقها لتكون آخر ذكرى له معها .. وجد علبة سجائر في (النيش) فجلس على إحدى مقاعد طاولة الطعام يحرق نيكوتينها و يمزجها ببعض قطع الدجاج المتبقية من ليلة الأمس و يراقب عقربي ساعة الحائط .. باقي زجاجة الأبسينث تنتظره أن يتجرعها لتعطيه بعض الشجاعة لما هو مقدم عليه .. تجرع نصف المتبقي بها دفعة واحدة فإلتهب حلقه إحتجاجا و تجمع الدم في وجهه حتى كاد ينفجر من فتحاته السبع و دارت الصالة راقصة حوله قليلا قبل أن تتوقف .. تجشأ في رضا ثم تنهد تنهيدة إرتياح .. مازال كما هو نصف عاري و المنشفة تحيط بنصفه السفلي .. لا .. لن يرتدي ملابسه .. جرعة الأبسينث رفعت معدل جرأته فوق مستوى السحاب .. سمع صوت طرقات على الباب فقام واقفا في ثقة و إتجه إلى الباب و فتحه..

*********

ولجت فتاة الإستقبال مدخل العمارة .. أثارت بتنورتها القصيرة نظرات الشارع الشعبي بأكمله .. و لكنها لم تبالي .. هي نفسها من منطقة شعبية مثل هذه و تعلم كيف تتعامل مع نظرات و كلمات الأخرين .. سمعت عدة تلميحات إباحية و كلمات تحرش غير عفيف أثناء سيرها في الشارع و لكنها تعرف كيف تصم أذنيها عن تلك الحماقات و المعاكسات .. الحقيقة إنها أول مرة تذهب إلي نفس الشخص مرتين متتاليتين .. و لكن ذلك الوغد يجذبها بطريقة غير طبيعية إليه .. ليست أول مرة تجرب العلاقات الحميمية .. بل أن عملها في الفندق جلب لها العديد من علاقات الفراش مقابل رزم مالية ضخمة أحيانا .. و لكنها في تلك العلاقة هي من تذهب إليها بنفسها و بدون مقابل .. حاملة حقيبتين بلاستيكتين مملوؤتين بوجبة غذاء و عشاء و أربع زجاجات بيرة .. صعدت ثلاث درجات تفصل الدور الأرضي عن الشارع قبل أن تقف أمام باب شقته لتجده مواربا كما قال لها .. إبتسمت و هي تدفعه بكتفها و تدلف إلى الداخل ثم تغلقه بظهرها .. تضع الحقائب على الأرض و تخلع حذائها ذو الكعب العالي ..

- أنا مش سامعة صوت الدش يعني و إنت بتحمي فرافيرو بتاعك ده

أجابها الصمت من داخل الشقة .. صوت المارين في الشارع مسموع بوضوح في الصالة .. لو صرخت فلن يسمع أحد صرخها وسط ذلك الضجيج .. و لذلك لم تخجل من الصراخ ليلة الأمس .. -ابتسمت لنفسها مع تلك الخاطرة- .. رأت المنشفة ملقاة على الأريكة فإبتسمت و خلعت قميصها و ألقته على الأريكة بجوار المنشفة و سارت و هي تدير تنورتها حول جزعها لتصل إلى سحاب التنورة في طريقها إلى حجرة النوم ..

- إنت نايم و لا إيه .. آاااااايييي

صرخت فجأة عندما شعرت بوخزة في باطن قدمها اليمنى الحافي .. رفعت قدم صبغت أظافرها بلون أصفر فاقع .. فرأت قطعة زجاج خضراء اللون من زجاجة الأبسينث مغروزة في قدمها .. نزعتها بإظفري الإبهام و السبابة المصبوغين بنفس اللون الأصفر و تأوّهت و هي تعرج بقدمها نحو باب الحجرة

- يعني الإزازة لما تتكسر مش نلمها كويس .. أهي حتة إزاز دخلت ..

بترت عبارتها عندما وصلت إلى باب الحجرة المفتوح فرأت (عمر) نائما على وجهه على الفراش .. عاري تماما كما تركته هذا الصباح .. و الفراش مصبوغ بلون أحمر قاني مصدره صدر (عمر) الملاصق للفراش .. نصف زجاجة الأبسينث إختفت في صدره متسببة في ذلك التسرب الأحمر الذي تشربه الفراش في نهم .. وضعت راحة كفها الأيمن بين أسنانها و عضت عليها كاتمة صرخة كادت تفلت منها .. عضت بقوة جعلها تشعر بمذاق الدم في فمها .. دموعها إنحدرت رغما عنها من عينيها و عقلها تركها و فر بعيدا تاركا جسدا متجمدا لدقائق قبل أن يعود إليها فسارت بعرجها صابغة الأرض بخطوات حمراء اللون .. إرتدت قميصها و هي تنهج بالبكاء .. حملت حقيبتي الطعام و البيرة و إرتدت حذائها و تركت الشقة .. الدموع أسالت الآي لاينر فرسموا خطين أسودين تحت عينيها .. سارت في الشارع و الناس تنظر لها متعجبة .. سارت بعرجها حتى شارع 26 يوليو ثم أوقفت سيارة أجرة بيضاء اللون قفزت في مقعدها الخلفي .. أبلغت السائق وجهتها و هي تتحاشى عينيه المحدقتين إليها عبر المرآة الخلفية .. 


  • 1

   نشر في 12 يونيو 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا