حُريّة تحتَ البَنْج - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حُريّة تحتَ البَنْج

  نشر في 23 أكتوبر 2018 .

في غرفة صغيرة بستائر مهترئة وأرضية متشققة في مستشفىً حكومي, رقدَتْ ميساء ذات التسعة والعشرون عاما على السرير وهي لا تعي ما يدور حولها, فقد خرجتْ من غرفة العمليات منذ قليل وما زالتْ تحت تأثير المخدّر (البنج).

كانت غرفة الدرجة الثالثة التي تشارَكَتْها ميساء مع فتاة أخرى تعجّ بروائح مختلطة يصعبُ تحديدها. فمرّة تشمّ رائحة البيض المسلوق ومرّة تشمّ رائحة الموز الذابل. تارة تشمّ رائحة الرطوبة التي ملأتْ الجدران, وتارة أخرى تشمّ رائحة المستشفيات المألوفة التي تدلّ على التعقيم والنظافة مصحوبة برائحة السجائر الملتصقة بملابس الزوّار, ورائحة تلك العطور المُرَكّزة التي تُباع في المحطات والأسواق الشعبية, والتي يُعبّئها البائع لك في زجاجة صغيرة ويُضيف لها الماء لتخفيفها.

إلى جانب سريرها, جلسَتْ والدتُها المُسنّة وهي تُمسكُ مُصحفا بِمُجلّدٍ أخضر وقد أخذّتْ تقرأ منه سورة ياسين. إنّها مُقتنعة تماما بأنّ العملية التجميليّة التي أجرَتْها ابنَتَها لأنفها, ما هي إلا سخافة من سخافات شابات هذا الجيل المُدلّل. ورغم ذهابها مع ميساء إلى الطبيب وتأكيد الأخير أمامها بأنّ مشاكل التنفس لدى ابنتها ناجمة عن انكسار عظمة في أنفها ولا بُدّ من إجراء العملية التجميلية في أسرع وقت, حتى تستطيع ابنتها التنفس بشكل أفضل. إلا أنّ الوالدة ما زالت ترى بأنّ جميع عمليات التجميل هي نَصْبٌ صريح على اللّحى وامتصاص لدم الناس في عزّ النهار وعلى الملأ, مُستَنِدةً في رأيها هذا على (أيام زمان). فأيام زمان حيثُ عاشَتْ هي وعاشتْ والدتُها وجدّتُها, لم يكن هناك عمليات تجميل لأنّه وباختصار, كان الجمال هو العنصر الطاغي على نساء الزمن الجميل الغابر. وهذا بالطبع مالم تقتنع به ميساء وهي تنظر في المرآة إلى ما ورَثَتْهُ من أمها عن طريق جينات الزمن الجميل, مِن عيْنَيْن صغيرتين برموشٍ متفرقة وقصيرة, وأنفٍ معقوف, وأسنانٍ متمردّة لم تَصْطفّ بانتظام, بل فضّلتْ أن تتزاحم في فمِها فوق بعضها البعض. وجِسمٍ مُمتلىء جدا, يجعلُها تدور حائرة بين المحلات وهي تبحثُ عن قياس بنطال يلائمها!

لطالما رجَتْ والدتها وهي في سنّ المراهقة بأنْ تسمح لها بتركيبِ تقويمٍ لأسنانها ليُصبحوا أجمل وتستطيع الابتسام بِثقة كباقي صديقاتها. وكم رجتْ والدتها وهي في الجامعة بأنْ تُعطيها مبلغا بسيطا من المال في كلّ شهر لترتاد النادي الرياضي وتخسر الوزن الزائد. أخبَرَتْها بأنّها لن تجدَ من يتزوّجها بهذا الجِسم, فموضة هذا العصر هي النحافة وهي تحبّ اتباع الموضة كباقي الفتيات. أخبَرَتْها بأنّهم يملكون النقود. فرغمَ وفاة والدها وهي ما زالتْ تتعلم المشي, إلّا أنّ إخوتَها الذكور الأربعة المُقيمين في السعودية وقطر, يُرسلون لها ولأمّها ما يفيض عن حاجتهم كل شهر. هذا غير العطور والبخور والملابس التي تصلهم كلّ فترة بالبريد أو مع أحد الأصدقاء. أخبَرتْها بأنّها تودّ العمل في بوتيك نسائي بدوام جزئي بعد الجامعة مع صديقتها سحر, لأنها تريد ادّخار المال لدفع رسوم النادي الرياضي وإصلاح شعرها عند أم نوال –كوافيرة الحارة المشهورة-.

وماذا كانت إجابة الوالدة لكلّ هذا؟!

" دلع بنات ".. "كلّ فولة ولها كيّال".. "أستغفر الله"

لن تضعي ذلك التقويم المُضحك الذي سيمنَعُكِ من الأكل والشرب, ثم تتحولين إلى زومبي مع الأيام. إنّ الرجال لا يحبون المرأة التي تشبه الهيكل العظمي... "كلّ فولة ولها كيّال!"

لن أسمح لك بالذهاب إلى النادي الرياضي. إنّ النساء هناك شبه عاريات, وسيتفحصْنَكِ بِشَرَه, ثمّ يُخبِرنَ صديقاتهنَ وإخوانهنَ عن جسمك. أستغفرُ الله من دلع البنات هذا!

لا, لن أسمح لكِ بالعمل. ماذا سيقول أعمامك وأخوالك. مات الوالد وتغرّبَ الإخوان ففَلَتَتْ البِنت وصارت تعمل في البوتيكات, تهرُجُ مع هذا ويغمزُها هذاك... ثمّ إنني أخبرتُكِ ألف مرّة بأني لا أرتاح لصديقتك سحر ولا أحبّها. إنها مُنفتِحة أكثر من اللازم ومرِحة على الدوام, فكأنّها نسيَت الآخرة والحساب.

أعوذ بالله من غضب الله! صالون على آخر الزمن!!

هذا ما كان ينقُصًكِ يا حاجة رئيفة. ابنتي الوحيدة التي بذَلْتُ عُمري لها تذهبُ إلى مكان مليء بالمعاصي وقلة الأدب. "أستغفر الله... أستغفر الله".

كيف أسمح لكِ بأنْ تذهبي إلى مكان يعجّ برائحة السجائر والألفاظ البذيئة. إنهنّ ينتِفْنَ الحواجب هناك. ألا تعلمين أنّ الله لعنَ النامصة والمُتنَمّصة!!! لا لقد طفح الكيْل وسأكلّم أخاكِ عبد الله ليَجِدَ صِرفةً معك!

دلع بنات ماسخ!

يدخلُ عبد الله الغرفة وهو يحملُ في يده زجاجة ماء يُقدّمها لوالدته. تُغلِقُ الوالدة المُصحف وتضعُهُ جانبا على الطاولة. تتناول الزجاجة من ابنها وتشرعُ في فتحها.

"ألم تستَيْقِظ بعد؟"

" بسم الله" .. تشربُ جرعة من الماء البارد, ثمّ تقول: "لا.. لكنّها تتأوّه بين الحين والآخر. كأنّها تُريد قول شيء!"

لم يكُن هناك من كُرسيّ إضافيّ, لذا ظلّ عبد الله واقفا وهو يتأملّ أخته التي قاربت على الثلاثين ولم يأتِ أحد لخطبتها بعد.

قال: "أتعرفين يا أمي. سمِعتُ مرّة أن البنج يجعل الإنسان يقول أسراره المدفونة داخله."

فتَحَتْ الحاجة رئيفة عيْنَيْها باندهاش واضح وقالت: "أتمنى أن يحدث هذا الآن لأعرف إن كان هناك شابّ في حياتها."

عقدَ عبد الله حاجِبَيْه وقال: "كفى يا أمي. إنّ ميساء فتاة خلوقة ومُهذبة. إنّك بِحرصك الشديد عليها تضغطين على أعصابها. لا بُدّ من التساهل معها والثقة بها وهي في هذه السن, إنّها لم تَعُد طفلة. انظري لها جيّدا... شابة أشرَفَتْ على الثلاثين, لا زوج, لا عمل, لا هواية, لا أصدقاء, لا شيء! هذا كثير يا أمي.."

ردّت بِثِقة: "اسكُت يا عبد الله. أنتَ لا تعرف شيئا عن تربية البنات. إنّ الله رزقك بخمسة أولاد, وزوجتُك الأخرى لا أفرّقُها عن الذكور كثيرا بضخامتها وصوتها الرّجولي. لقد خرجَ على لساني شَعر وأنا أنصحُك بابنة خالك وردة. لكنّك أصرَرْتَ على عنادِك. والنتيجة هي أولاد كالتّيوس."

قرّر عبد الله أن لا يردّ. فقد أيْقن وهو في سنّ الخامسة والأربعين الآن, أنّه لا جدوى من نقاش هذه العجوز, فهي على استعداد لأنْ تُجادل وأنْ تملأك بالإحباطات حتى تفقَعُكَ كبالون, بينما تبقى هي ثابتة وشامخة كالحديد.

لا عجَبَ أنّ والدَه تُوفيّ في عُمرٍ مبكّرٍ وهو لم يتجاوز الأربعون. إنّ مرارة الرّجل لم تحتمل أكثر, فانفَجَرَتْ!

أخذَ صوتُ ميساء الذي خرج هامساً يُكوّن كلماتٍ واضحة لأمّها وأخيها:

"لا..لا.. لا أريد أن أبقى معها طوال عمري.. لا ..لا."

"سأتزوّج.. سأصبِحُ أمّاً.. سأعمل.. سأصبِحُ رَشيقة.. لا.. لا. سأصلِحُ أسناني وشَعرِي. سيُصبِح أنفي أجمل.. أجمل من أنف سحر.."

دَمَعَتْ عينا عبد الله تأثّرا بحالة أخته, إنّها تعيش حسرةً كبيرة وهي في أحلى سنين شبابها!

قال بِحُزن: "مسكينة يا أختي, قلبي عليكِ حزين!"

وضع يده على كتِف أمّه مُواسيا ثمّ نظَرَ إلى عَيْنَيْها متوّقعاً أن يرى الدمع الغزير يسيل على خدّيْها.

كان وجهها ناشفا وعيناها جافتّان كالصّحراء الكُبرى.

قالت: "الحمد لله.. بما أنّها لم تُدنّس شرفَ العائلة بتعرّفها على شاب, فهي بألف خير. هذا كلّه دلع بناتٍ لا أكثر."

بنبرةٍ غاضبة أجاب:

"هل هذا هو كلّ ما يهمّك؟! ألا ترَيْنَ أنّها تموت من الدّاخل..."

جرعت شربة أخرى من الماء وقالت بصوت يخلو من الأحاسيس: "إنها صحيحة كالحصان. لا تخف عليها. تأكل بشراهة وتنام جيدا وتلبس الجديد دائما."

تجشأت بصوت عالٍ ثم أكملت: "لا ينقصها سوى الزوج الذي أتمنى أن يأتي قريبا ليريحني من همّها الكبير."


  • 11

  • نور جاسم
    اسمي نور. عراقية الأصل, أردنية المنشأ, أمريكية الإقامة, وهذا ساعدني كثيرا في التعرف على الثقافات المختلفة وإقامة الصداقات من كل مكان في العالم. أحب الكتابة/ أحلام اليقظة/الرسم/ السفر/ التمثيل/ الغناء/ الأفلام/ التأمل/ وال ...
   نشر في 23 أكتوبر 2018 .

التعليقات

هل هذا كان ردا على رسالتي يا نور ، انا اعتذر لم أرى القصة سوى الان وها انا اكتب ، في الرواية لم اتطرق الى مشاكل التجميل ولكن يمكن ان نكتب عنها ، ويمكن ان نكتب عن اكثر المواضيع حساسية عند العرب وعمليات تجميل ....... والتي بعدها تتوهم الفتاة بأنه يمكنها الزواج وان الزوج لن يعرف عنها شيئا عندما يرى اللون الأحمر ، لم اتطرق الى ولكن تخيلي ان هذه القصة قد تشكل جزئية في الرواية مع كل الشكر للقصة والتي اشعر انك تعرفين الأشخاص أصحابها فعلا ، هكذا نستطيع ان نكتب عن حقيقة الواقع المحير.
0
نور جاسم
لا هذا ليس ردّا يا محمود. قصتك جميلة وأتمنى أن تبصر النور قريبا وتنشرها. لكن أنا أكتب قصصا قصيرة ولا أكتب إلا ما أخترعه أنا. دمتَ بودّ :)
Salsabil Djaou منذ 6 سنة
مسكينة ميساء ،و من يشبهها في ظروفها ،حيث يتحول الوالدان من رمز للرحمة الى رمز للسجن ، قصة رائعة كما عودنا قلمك ، موفقة نور ،تحياتي و تقديري.
3
نور جاسم
فعلا يوجد الكثير من ميساء في مجتمعاتنا الشرقية.
شكرا لمرورك الجميل يا سلسبيل. دمتِ بحبّ
قصة جميلة ومشوقة بأحداثها أحببت العنوان "حرية تحت البنج "
جميلة الحرية لما تكون لها حدود
دائما متميز في الانتقاء
سلمت على روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا روعه مواضيعك

لكـ خالص احترامي
3
نور جاسم
أسعدني مرورك عزيزتي. دمتِ بحبّ!
روحي لله أبثها
الله يسعد قلبج وايامج

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا