عبقرية الردود المُفحِمة
كيف تتعامل بالأسلوب الأمثل في مختلف المواقف والظروف؟!
نشر في 10 أكتوبر 2017 .
في مقالٍ سابق تحت عنوان: هل تمتلك قوة الردود المفحمة؟! تناولنا أهمية الردود القوية المؤثرة، ودورها في حياة كل فردٍ منا، كما أفردنا مجموعة من الطرق التي يمكننا من خلالها التدرُّب على هذه الردود. في هذا المقال نعرض لطائفةٍ من هذه الردود؛ لنزيد رصيدنا منها ونعتاد استعمالها بدرجة أكبر مما سبق.
قيل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: بما عرفت ربك؟ قال: عرفتُ ربي بربي ولولا ربي ما عرفتُ ربي؛ فقيل له: وكيف عرفتَ ربك؟ قال: العجزُ عن الإدراكِ إدراكُ، والبحثُ في ذاتِ اللهِ إشراك. وفي إطار الردود المفحمة يتعين عليك تذكُّر أن أحضر الناس جوابًا من لم يغضب؛ فإن الغضب إن سيطر على الرجل سدَّ عليه كلَّ سُبُل العقل، فلا يملك نفسه ولا لسانه. قال رجلٌ لعمرو بن العاص: لأتفرّغنّ لك؛ فقال عمرو بن العاص وبهدوءٍ جم: حينئذٍ تقع في الشغل.
ومن المعروف عن الأحنف بن قيس أنه كان أحلم الناس، وقد ضُرِبَ به المثل في الحلم. جاءه رجلٌ فلطمه؛ فسأله الأحنف: ما حملك على ذلك؟ قال: جُعِلَ لي جُعْلًا إن لطمتُ سيد تميم؛ فقال الأحنف: ما صنعتَ شيئًا؛ فإن حارثة بن قدامة سيد تميم. مضى الرجلُ من فوره حتى بلغ حارثة؛ فلطمه؛ فاستل حارثة سيفه وقطع يد الرجل؛ فلما بلغ ذلك الأحنف قال: أنا والله قطعتُها. ليس في الغضب متسع للتفكير في الأمر بشكلٍ موائم، ولذلك قالوا: الغضبُ صدأ العقل، فإن كنت حريصًا على أن تجيب الناس بإجاباتٍ مفحمة وردودٍ قاطعة؛ فاجتهد أن تتخلص من العصبية والغضب قبل أن تفكر في الردود المناسبة لكل موقفٍ تتعرض له.
في ذات الإطار رأى خالد بن صفوان رجلًا وهو يكيلُ السبَّ والشتم لعمرو بن عبيد؛ فما ترك الرجلُ شيئًا؛ فلما سكت قال له عمرو: آجرك الله على الصواب وغفر لك الخطأ!! قال خالد: فما حسدتُ أحدًا حسدي لعمرو بن عبيدٍ على حلمه وكلمته. هنا استعمل عمرو بن عبيد منهج الحكمة؛ فإن النار لا تُطفئ بالنار؛ فلم يسمح عمرو بن عبيد لغضبه أن يقود عقله لما فيه مقالة عليه، بل أعمل حلمه وأمسك لسانه. وإذا عدنا إلى الأحنف بن قيس نجده في أحد مجالسه وقد قال له رجلٌ: لئن قلتَ كلمةً أسمعتُك عشرًا؛ فقال الأحنف: إن قلت عشرًا ما سمعت مني كلمة؛ وهذا تأكيدٌ على أن الحلم أفضل صديقٍ يعينك على الرد المناسب في كل موقفٍ وحال، كما أنه لا ينبغي للعاقل أن يجعل للسفيه عليه سيطرةٌ أو توجيه؛ فقد قال الله تعالى مخاطبًا أشرف الخلق ونحن من بعده بقوله عزَّ من قائل: "ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون".
ربما يتردد في صدرك عزيزي القارئ سؤالٌ موجزه: لماذا عليّ أن أسعى لامتلاك هذه المهارة؟ والجواب الذي يُثلِجُ صدرك هو أنك إذا طالعت سير العظماء لوجدت أنهم قد سعوا لإحراز درجة كبيرة من هذه الملكة، بل إن من لم يمتلك قوة الرد المناسب في الوقت المناسب فضلًا عن الكياسة في الرد؛ فإنه قد سقط من سجل العظماء وإليك فيما جرى للرئيس الأمريكي وودرو ويلسون عبرةً وآية. كان ويلسون عملاقًا في القوة الذهنية إلا أنه افتقر للكياسة والردود المناسبة، وكان ذلك وبالًا عليه فلم يصمد في مواجهة من حوله وسياستهم!
من بين أسباب فشل ويلسون الرئيسة، الخجل الشديد، فيقول هو عن نفسه في ذلك: "إني على استعداد للتضحية بأي شئ لأكون أفضل مما أنا عليه الآن، ولكن لا سبيل إلى خلق شخصيتي من جديد". هذا الخجل يمكن السيطرة عليه حينما يمتلك المرء الحجة المناسبة والأسلوب الذي يسوس به الأمور، وبوسعك صديقي القارئ أن تعقد مقارنةً بين الخجل الذي دمر ويلسون وبين هذا الرجل الذي لا يزيد عن كونه أحد العوام!! ذكر الغزالي في الإحياء أن رجلًا سيقَ إلى هشام بن عبد الملك لأمرٍ بلغه عنه؛ فلما أقيمَ الرجل بين يدي هشام إذا به يدافعُ عن نفسه؛ فقال الخليفة: وتتكلم بين يدي؟! فقال الرجل من فوره: يا أمير المؤمنين، الله عز وجل يقول: "يومَ تأتي كلُّ نفسٍ تُجادِلُ عن نفسِها" أفيجادِلون الله تعالى ولا نتكلم بين يديك؟! قال هشام: بلى! ويحك تكلَّم.
انظر لجرأة الرجل ودفاعه عن نفسه أمام الخليفة، في حين أن خجل رئيس دولة عظمى يمنعه من رياضة الأمر على النحو الذي ينبغي؛ فإن قلت في نفسك: وأنا كذلك يقتلني خجلي ليل نهار، فإن الأمر الذي عليك الانتباه إليه هو أن ويلسون كان يكره خجله إلا أنه لم يصنع شيئًا حيال ذلك، أما أنت فأمامك متسعٌ من الوقت لأن تتدارك الأمر؛ تحلى بالشجاعة واستجمع أكبر قدر من الردود المناسبة للمواقف المختلفة، وابدأ في استعمالها مع الأهل ثم الأصدقاء المقربين، ثم تتسع الدائرة وعندها ستجد أنك تحرز تقدُّمًا مذهلًا. قد سُقْتُ لك مثالًا لرجلٍ بين يدي الخليفة، واسمح لي أن أُرْدِفَ لك بموقف صبي بين يدي القاضي.
وقبل أن أسوق لك الرد الذي قدمه هذا الصبي بين يدي القاضي؛ اسمح لي أن أذكرك بأن "موهانداس كارامشاند" قد تلقى تعليمه في لندن حتى حصل على الليسانس في الحقوق، وعندما قام للمرافعة أمام القاضي لأول مرة انعقد لسانه وقرر ألا يمتهن المحاماة طيلة حياته، وأنت تعرفه باسم المهاتما غاندي. فإذا رجعنا للصبي الذي رد على القاضي بأدبٍ وثقة؛ فإننا نقف على جانب مهم من جوانب امتلاك القدرة على الرد يتمثل في رجاحة العقل وثبات الجنان. إياس بن معاوية يقف في دمشق بين يدي القاضي مُختصمًا رجلًا كبيرًا فيعنِّف القاضي إياسَ ويأمره بالسكوت؛ فيقول إياسُ: فمن ينطِقُ بِحُجْتي؟ فيقول القاضي: إنه رجلٌ كبير؛ فقال إياس: الحقُ أكبرُ منه، فقال القاضي: ما أراكَ تقولُ حقًا! قال إياس: لا إله إلا الله؛ أحقٌ هذا أم باطل؟! فلم يحر القاضي جوابًا ويدخل على عبد الملك بن مروان يخبره بنبأ هذا الغلام؛ فيقول عبد الملك: اقضِ حاجته واخرجه من الشام لا يفسد الناس علينا.
الناس يتعلمون ويبدعون ليس لأن البعض طلب منهم ذلك؛ ولكن لأنهم أرادوا ذلك لأنفسهم، وإذا صح العزم اتضح السبيل. ولأن الرجل الشجاع يمثل أغلبية في حد ذاته فعليك أن تكون الرجلَ الشجاع؛ فاتخذ القرار الآن وثابر لتصبح الردود الذكية والمناسبة هي واحدة من مهاراتك الحياتية، وعندها ستجد الكثير من الأبواب المغلقة أمامك تُفتح لك على مصراعيها. إذا كان التغيير هو ثمن البقاء؛ فليكن التغيير في شخصياتنا للأفضل بشكلٍ مستمر، وثق بأن المحاكاة كانت المرحلة الأولى التي اكتسب الإنسان البدائي بها ملكاته ومواهبه من كل ما حوله، وهي ذاتها الطريقة التي يبدأ الطفل من خلالها في اكتساب مواهبه، وعليك أن تعرف الكثير من الردود المفحمة إن شئت أن تكون قوي الردود ومؤثرًا فيمن حولك.
الأجوبة المسكتة ليست مجرد ردود معلَّبة وإنما هي نماذج تفتق الذهن، وأمثلة تفتح الباب أمام العقل ليتعامل مع الأمور على تنوعها وتباينها؛ مما يجعل المرء أكثر قدرة على التكيف مع المواقف، وأسرع بالإجابة من الريح المرسلة إن عوَّد لسانه على هذه المهارة المهمة.
وفي الختام، قيل لإياس بن معاوية: ما فيك عيبٌ إلا كثرة الكلام؛ فقال: أفتسمعون صوابًا أو خطأ؟! قالوا: لا، بل صوابًا؛ فقال إياس: فالزيادة من الخير خير. ومن الأجوبة المسكتة ما فيه من الطرافة الشئ الكثير؛ علَّنا نتطرق إليه قريبًا.
التعليقات
ولعل ما زاد على جمال المقال حسن ترتيبه، أفكارًا وجملًا وفواصلًا، أشعر بالراحة وكأني في طريق ممهد أنقاد إلى وجهتي بسرعة وبأقل جهد .
والنقطة التي اتفق عليها الجميع الأمثلة الممتازة؛ كم نحن بحاجة لذكر مواقف الصحابة وعظماء العرب لعلنا نقتدي بهم .
قرأت مقالك الأول سابقًا فسررت عندما رأيت مقالك هذا، ومما زادني سرورًا قولك "علَّنا نتطرق إليه قريبًا" ...
بإنتظار المقال القادم بشوق وبالتوفيق في كتابته .