بيانست (7) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

بيانست (7)

غندما نقتل البراءة بكل حب ..

  نشر في 12 يونيو 2019 .

                      خط القتال بين الخير و الشر يمر من خلال قلب كل إنسان

                                            (ألكسندر سولجنيتسين)

         The battle line between good and Evil runs through the heart of every man

                                                     (Aleksandr Solzhenitsyn)


                                                    -اسمي عمر-

                   سبعة آلاف و ثمانمائة و ثمان و ثمانون يوما على الأرض ..

1) الغيبوبة ..

إستسلمت (رهف) لمسئول المكياج و هو يضع لمساته على وجهها .. واضعة ساق فوق الأخرى و تهز ساقها العليا في عصبية .. إستسلمت لوكيلتها في عمل اللقاء الصحفي و لكنها لا تشعر بالراحة لحظة واحدة .. بداخلها لم تشعر أنها تختلف عن أي تاجر رقيق .. فقط هؤلاء عندهم الشجاعة ليعلنوها صراحة أما هي فتتاجر بأختها مدعية أنها تفعل ذلك لمصلحة (فرح) .. لا مزاح أنها سوف تحتاج المال لعلاج (فرح) التي أدخلتها بنفسها في غيبوبة منذ ثلاثة عشرة يوماً .. معدتها متوترة و تلهب صدرها و حلقها بأمواج من الحموضة .. لقد كذبت على الجميع في ذكر تفاصيل ما حدث .. لم ترى (چوناثان) منذ الحادث .. ذلك ال(.......) -(عمر)- يحوم حولهم في أريحية منذ الحادث و هي وحدها تعلم حقيقته القذرة و لكنها لا تستطيع أن تخبر بها أحداً الآن .. لا أحد يعلم سواها لماذا خرجت (فرح) في ذلك الوقت المتأخر .. كمرجل بخاري يتزايد ضغطه الداخلي كل لحظة و لا تدري متى سوف ..

- إنتهينا هنا!!

نظرت إلى مسئول المكياج و هزت رأسها له شاكرة قبل أن تقوم من على مقعدها .. بخطوات رشيقة متزنة فوق حذائها ذو الكعب العالي إتجهت و بجوارها وكيلتها إلى مذيعة شقراء ترتدي بدلة نسائية فوق قميص أبيض قامت واقفة عند رؤيتها و سلمت عليها بحرارة و قالت لها كلمات مواسية .. هزت (رهف) رأسها في روتينية و حركت شفتيها بإبتسامة باهتة قبل أن تجلس مواجهة للمذيعة .. جاء أحدهم فثبت ميكروفون صغير إلى قميصها الأسود قبل أن يبتعد فاسحا الطريق للكاميرات لتأخذ إستعداداتها ثم بدأ اللقاء

لمدة ثلاثين دقيقة عصرت فيهم (رهف) خلايا عقلها و قيدت أعصابها .. نجحت (رهف) في بيع بضاعتها الفاسدة .. إنتهى اللقاء بدموع في عينيها -حقيقية و حارة- و المذيعة و بعض من طقم العمل و نظرة ظفر في عيني وكيلتها .. لم تخطئ في ذكر أي حدث و إستطاعت أن تجعل قصتها واقعاً في أذهان الجميع .. الجميع إشتروا أكاذيبها و لكنها لم تشتريها هي نفسها.

- كنتي مذهلة !!

نظرت (رهف) إلي الألمانية اللعينة و كادت تبصق في وجهها .. لكنها كتمت مشاعرها بداخلها و إبتلعت البصقة و إشمئزازها و سارت مغادرة الأستوديو و معها وكيلتها التي قادتها مع أحدهم إلى باب خلفي دلفت منه إلى سيارة معتمة الزجاج قبل أن تتحرك بهم نحو الفندق متجنبة عشرات الصحفيين المتجمعين أمام باب الأستوديو الرئيسي .. أخذت الوكيلة تتكلم بالألمانية في الهاتف في حين غرقت (رهف) في أفكارها النارية .. وصلت العربة إلى الفندق فدخلت إلى البهو سريعا متجنبة مرة أخرى عشرات الصحفيين الفضوليين واضعة نظارتها الشمسية عازلة نفسها عن العالم .. لم تستغرق خمس دقائق حتى كانت في غرفتها فأغلقت الباب بإحكام .. بتعاسة بالغة إرتمت على الفراش بظهرها تغطيه بشعرها و نيران الحمم في صدرها .. مرت دقائق عليها و هي تنظر للسقف في شرود قبل أن تسمع طرقات على باب حجرتها .. في تثاقل نهضت لتفتح الباب .. عامل الفندق يسلمها علبة مغلفة جاءت إليها و معها بطاقة -آسف على ما حدث .... (چوناثان)- أغلقت الباب سريعا وبلهفة قطعت الغلاف و فتحت العلبة لتجد هاتفها المحمول و ورقة عليها رقم هاتف .. شاشته تحمل خدوش و شروخ لكنه مشحون و يعمل .. أخرجته سريعا و طلبت الرقم المرافق لتسمع الصوت الذى إشتاقت له طوال الفترة السابقة ينطق حروف إسمها منادياً .. لم تستطيع أن تتمالك نفسها فنزلت إلى الأرض جالسة و غرقت في بكاء و نحيب

- (رهف) .. Calm down baby ..

- -بين دموعها و نحيبها و نشيجها- أريدك (چوناثان) .. أريدك بشدة ..

- و أنا أموت شوقا لرؤيتك و الإطمئنان عليكي حبيبتي ..

لم تجبه فقط تعالى نشيجها و بكاءها و تأوهاتها فصمت قليلاً قبل أن يقول لها

- يجب أن أراك اليوم لأني عائد غدا إلى أمريكا ..

- -ببكاء متصاعد- لا تتركني الآن

لم يجيب .. تنهد بعمق قبل أن يقول بصوت تخنقه الدموع

- لا أريد .. و لكن لا يمكنني البقاء هنا أكثر من ذلك .. أشعر إني ممزق الآن.

ضغطت على أسنانها لتوقف دموعها و توسلاتها .. سحقت الأرض بقبضتها قبل أن تَمسح عينيها بحدة .. تأخذ نفساً عميقاً تخللته شهقتان قبل أن تطلق سراحه بحرارة رسمت بخار أبيض علي سطح الهاتف سرعان ما تلاشي ثم أجابت:

- Okay ربما يجب أن تذهب الآن .. I’ll handle my issues .. لا تهتم.

- -بصوت متوسل- هل سأراك اليوم ؟؟

- -بصوت جاف- لا أستطيع .. لنبقى على إتصال.

- (رهف) ..

- Goodbye (چوناثان)

تنهد بأسى .. يعرف عنادها جيداً و أنها لن تلين بسهولة له .. أجابها بحزن قبل أن يسمع صوت الكليك .. وضعت (رهف) الهاتف جانباً و هي تشعر بالغضب .. لو كان طعنها بخنجر في ظهرها لن تشعر منه بالغضب مثلما تشعر الآن .. اختفى لمدة ثلاثة عشرة يوماً على الرغم أنه أطلق سراحه بعد أقل من أربع و عشرين ساعة من إحتجازه و عندما تواصل معها يخبرها أنه سيبتعد !! .. لا تنكر أن ما فعله كان غاية في التضحية و الشهامة و عدم الأنانية .. لكنها و لعدة سنوات إعتادت فيهم أن تكون المسيطرة على الأمور و تكتم ضعفها الأنثوي وراء سخرية لاذعة و برود و جمود يصيب من يحاول إختراق حصونها المنيعة بالرعب .. ذلك الضعف للحاجة إلى شخص تستمد منه قوتها و تشعر معه بأنوثتها .. لم تدع أحد ينظر خلف القناع الحديدي الذي ترتديه طوال الوقت .. فقط هو من إخترق حصونها و نزع القناع و شاهدها كما هي بلا أية سواتر أو مجاملات .. الوحيد الذي أطلقت معه سراح أسرارها و خباياها .. سخريتها من الشعر و الرومانسية و اللاعبات المنافسات اللاتي يستعرضن جمالهن و أنوثتهن .. فقط هو من عرف عشقها للشعر و بكائها أمام الأفلام الرومانسية و إحساسها بأنوثتها و جمالها .. فقط هو من رأى دموعها و ضعفها .. و الآن يتركها بعدما توسلت إليه .. توسلت إليه ؟؟!! .. هي لم تتوسل لشئ و لا لأحد في حياتها .. يكفي أنه خان مشاعرها و حبها نحوه منذ أقل من شهرين .. هل نسى بتلك السرعة كيف سامحته و أدخلته في حياتها مرة أخرى ؟؟.

لم تنسى بعد كيف إرتمي في أحضان أول عاهرة قابلته و هو في حالة سكر .. خاطبته و حاولت جذبه لكنه أخبرها أنه سئم علاقتهما العذرية !! بكت ليلتها و هو يتركها و يرحل مستندا على كتف فتاة مائعة بدا أنها لا تمانع إعطائه ما يريد من متعة لاعذرية .. و لمدة شهر أغلقت الهاتف في وجه مكالماته و رسائله المتوسلة قبل أن تفتح الباب مرة أخرى في ذلك اليوم .. أخذت نفساً عميقا مرة أخرى مغمضة عيناها قبل أن تزفره ببطء لتهدأ نفسها .. نظرت إلى ساعة يدها قبل أن تقوم و تغسل وجهها في الحمام و تعيد ما فسد من مكياجها .. نظرت لوجهها في المرآة مستعيدة قناعها الحديدي و نادمة على لحظة ضعفها الماضية.

في أقل من ثلاثين دقيقة كانت تصعد درجات سلم المستشفى متجنبة المصعد كعادتها .. سارت و هي شاردة تفكر في أحداث الأسبوعين الماضيين قبل أن تعود إلى أرض الواقع بوجه إقتحم مركز الكراهية في عقلها و أثار شعورا بالغثيان .. وجه (عمر) .. سحقت أطراف أسنانها و ضمت قبضتها في قوة كادت تحطم أصابعها و عظام كفها ثم وجهت وجهها للحائط و هي تحاول تجنبه إلا أنه ببرود الخنازير وقف أمامها مانعاً إياها من التقدم فنظرت إليه في وحشية قط بري يوشك على الإنقضاض

- مش هتفهميني إيه اللي عملته و مخليكي مش طيقاني كدة ؟؟

في مخيلتها قفزت فوقه مقتلعة عينيه بأظافرها و ناشبة أسنانها في رقبته

- -في همس غاضب- إبعد عن وشي أحسنلك و إلا مش هيحصلك كويس !!

- -في غضب- هو في إيه لده كله ؟؟

- -في صيحة غضب عجزت عن كتمانها- إنت بتستهبل ؟؟!!

إلتفت من حولهما لهما و إتسعت عيناه في دهشة و غضب في حين نظرت هي حولها كي لا تجد أمها تستمع لهما أو تشاهدهما قبل أن تقول في عصبية و غل جاهدت لكي لا يكون مسموعاً إلا له

- أنا شفتك ليلتها مع ال....(صفة نابية) أم شعر أحمر في العربية و (فرح) نزلت عشانك يا حيوان تدور عليك و حصل لها اللي حصل!!

إستند (عمر) إلى الجدار و نظر إلى الأرض .. نظرت إليه في إحتقار و همت بأن تكمل طريقها للداخل فأمسك ذراعها و هو يقول لها بصوت مبحوح

- لحظة ..

أعصابها إحترقت غيظا و هي تنزع ذراعها من كفه بعصبية و ترد بعصبية و توحش

- إنت إتجننت عشان تمسكني كدة ؟؟!!

- (رهف) إديني فرصة أتكلم ..

- -بصوت مغلول- هاتقول إنه ما كنش أنت .. و لا هاتقول إيه .. أنا شفتك بعنيا و ماصدقتش نفسي و (فرح) بتكلمني و هي منهارة و بتعيط عشان إنت مش في أودتك و مش بترد عليها .. إنت حيوان و ماعندكش دم

- أنا بحبك انتي!!

صاعق كهربائي وضعه على صدرها باعثا به ألف فولت جعلها تقفز و تتسع عيناها في ذهول و هي تنظر إليه محاولة فهم كلماته ..

- إنت بتقول إيه ؟؟

- زي ما سمعتي .. أنا حبيتك بعد ما تقدمت لأختك ..

عقلها حجر صلد لا تنبت عليه كلمة واحدة تقذفه بها .. هل يتلاعب بها أم هل هو صادق ؟؟.. كلا الخيارين يضعه في خانة القذارة و الدناءة..

- عارف إن اللي بقوله مفاجئ .. لكن أنا بعد الخطوبة و أنا بعرفك كل يوم أكثر .. و مشاعر جوايا ليكي بتزيد و بتكبر .. أنا عمري ما حبيت حد .. حتى أختك ما حبتهاش بالشكل ده .. مشاعري ناحيتك لا عمري جربتها و لا عرفت زيها .. حتي (كارول) اللي شوفتيني معاها .. ما أخدتيش بالك إنها شبهك انتي ؟؟ ما أخدتيش بالك إنها نسخة منك ؟؟ أنا مببررش اللي عملته .. أنا غلطت .. و أسوء عقاب اتعاقبته في حياتي إني لمحت نظرة الكره و الإحتقار في عينيكي .. أنا ما كنتش عارف ليه .. و حسرتي أكبر دلوقتي إنك شايفاني كدة ..

- -بغضب مكتوم- إنت أكيد مش طبيعي .. انت مش فاهم إنت بتقول إيه ؟؟ إنت مش حاسس بالذنب ناحية الإنسانة اللي حبتك و بسببك في الغيبوبة من ساعتها ؟؟

(عمر) الحلقة المفقودة التي تثبت أن الإنسان أصله خنزير ..

- أنا إن كنت متضايق .. فده عشان عارف إن في حد تاني في حياتك ..

لماذا نبضات قلبها أسرعت هكذا و تعالت ؟؟

- إنت بتقول إيه ؟؟

- أنا بقى المرة دي اللي أخدت بالي و شوفتك بعيني .. الأمريكي اللي جري وراك و رجع قبليك في المطعم .. لاعينيه نزلت عنك و لا انتي عينك نزلت من عليه

- -تنفسها تعالى و تسارع- و إنت مالك ؟؟

- -بإبتسامة باهتة- أنا مش قصدي حاجة .. أنت ردّك دلوقتي خلاني أعرف ان مفيش أمل

- أمل ؟؟ .. أمل إيه ؟؟ إنت أهبل و لا بتستهبل ؟؟ إنت مش المفروض يكون عندك أمل أصلاً .. أمل في إيه ؟؟ في انك تسيب أختي ؟؟ تسيب (فرح) ؟؟ و بعدها المفروض إني أقبل عادي إنك تتقدملي ؟؟ -قالتها في إنفعال-

همهم بشئ و غلالة رقيقة من الدموع تغلف عينيه لم تسمعها هي جيدا فقط ميزت حرفي الحاء و الباء .. شد (عمر) قامته و قال في صوت جاهد ليبدو قويا:

- أنا عامة برضه عملت بأصلي و ما قلتش حاجة للحاجة ولا لحد انتي كنت فين ساعة الحادثة .. و مع مين!!

إبتز .. يبتز فهو مبتز .. الإبتزاز في المعجم هو الحصول على المال أو المنافع من شخص تحت التهديد بفضح بعض أسراره .. اللعين إستطاع أن يحاصرها في ركن ملعبها و ينتظر لعبتها ..

- ......

- و زي ما انتي غيرتي قصتك عشان ماتقوليش (فرح) كانت ليه برة وقتها .. أنا هاكتم في قلبي قصتك مع الأمريكي ..

خنزير مقزز سميك الجلد يشدها إلى مستنقعه الموحل ..

- تفتكر دي حاجة تخليني أخاف ؟؟

قالتها بصوت لم يقنعها هي نفسها .. لم يجب فقط ظل ينظر إليها بوجه صنم جاهلي .. قلبها يقرع طبولا في رأسها جعلها تغلق عينيها في ألم و تقول بصوت خرج ضعيفا رغما عنها

- و في المقابل ؟؟

إنزلقت وسط وحله و قاذوراته و لم تجد مفرا من أن تلعب لعبته على ملعبه العفن ..

- نرجع نتعامل قصاد والدتك و الناس عادي و محدش يفتح سيرة اللي حصل و لما (فرح) تقوم بالسلامة هنعمل فرحنا و هبقى فرد من العيلة زي ما كان متخطط

لم تتحمل أن تسمع إسم (فرح) يخرج من فمه النجس .. لم تتحمل روحها المشاغبة المقاتلة دناءته و وقاحته فإستعادت غضبها و حنقها و هي تقول بغيظ

- و إنت تفتكر إني هاسمحلك تتجوز (فرح) بعد اللي إنت عملته ؟؟

نظر إليها بتركيز لثانية من وراء نظارته قبل أن يجيب بهدوء ظهرت به نبرة متشفية رغما عنه

- ما تفتكريش إني ما أخدتش بالي إن حبيبك الأمريكاني هو اللي خبط (فرح) زي ما الأخبار و البوليس بيقولوا .. و بما إنك عملتي زي التلميذة و اتحججتي بحجة خايبة عشان تحصليه فمعنى كدة إنك كنتي معاه ساعتها و يمكن كنتي مكيفاه لدرجة إنه ما أخدش باله و هو بيدوس ...

لم يتوقع كلاهما الصفعة التي صبغت خده الأيمن باللون الأحمر .. لم تشعر (رهف) بيدها و هي تتحرك نحو خده حين صفعته بكل قوتها قبل أن تقف تلهث و هي تنظر إليه بحقد و غيظ .. كلماته هي المادة الخام للحقارة .. ثعبان قذر سمج يلتف حولها و يساومها بكشف سرها و هي التي إعتادت أن تتحكم في كل شيء حاصرها في ملعبها و وقف عند الشبكة يتحداها أن تضرب كرتها .. أما هو فقد إلتف رأسه مع الصفعة نحو الحائط و لوهلة وقف و قبل أن تفهم وجدت قبضته اليمنى تلكم الحائط فوق رأسها بصوت مدوي جعل (رهف) تصرخ صرخة كتمتها بكف يدها المفتوح و إتسعت عيناها ذعرا .. الصوت جعلها تنتفض من مكانها و قلبها يختبئ بين ضلوعها رعبا .. تحرك من أمامها دون كلمة قبل أن يتجاوزها و هو يقول في عصبية هذه المرة:

- أمك مستنياك في صالة الإنتظار و معاها مفاجأة ليك .. أنا رايح أقابل (كارول) عشان أهدي أعصابي و راجع تاني تكوني انتي هديتي و رجعتي لعقلك عشان نبان طبيعين قصاد والدتك و الناس

وقفت لدقائق في مكانها بعد أن ذهب ترتجف خوفا و تلتقط أنفاسها بصعوبة و منعت خلالهم بصعوبة منابع الدموع في عينيها من إطلاق مخزونها .. إستندت على الحائط ترتجي منه أن يساعدها في أن تظل واقفة .. إلتفتت حولها تنظر إلى الرائحين و الغاديين حولها من العاملين بالمستشفى و المرضى .. لم يلتفت إليها أحد أو يهتم بمساعدتها أحد .. تبا لهم و لدمائهم الباردة!! .. لحظات و بدأ خوفها يتحول إلى ذهول ثم إلى غضب .. الخنزير كشف أوراق الشجر من عليها و جعلها عارية أمامه بلا أي غطاء قبل أن يقتطع من لحمها أمها و أختها و يحشرهم في روحها .. إغتصبها في ملعبه العفن قبل أن يتركها مغلفة بالوحل و القاذورات .. و فارسها الذي إختارته ترك الميدان و حمل متاعه و ذاهب إلى قارة أخرى تاركا إياها وحيدة تماما في مواجهة هذا الحقير .. أغضبها أنه يعرف الحقيقة كما تعرفها هي و (چوناثان) .. شعرت بالسخط من الوكالة التي دفعتها للقاءات صحفية و مقابلات حتى أضحت كذبتها هي الحقيقة التي يعلمها العالم أجمع .. إذا قال هذا الحقير الحقيقة سيدمرها ككوب زجاجي وقع على الأرض من ناطحة سحاب .. الإحساس بالعجز سيجعلها خطرة .. ذلك الحقير لم يحسب جيدا مع من يلعب..

- أنا هقتله .. -قالتها في سرها بغل-

إستعادت أنفاسها المفقودة قبل أن تسير نحو صالة الإنتظار حيث أمها و عقلها مازال غارقا في أفكارها

- تعالي يا (رهف)

أفاقت من أفكارها على صوت أمها فنظرت إليها و وجدتها دامعة مبتسمة -أمك مستنياك في الصالة و معاها مفاجأة ليك- لأول مرة تنتبه إلى تلك الجملة .. هل أفاقت (فرح) !!! .. أربك تفكيرها ذلك الكهل ذو الملامح المألوفة الذي يمسك بكفي أمها و ينظر نحوها في حنان ..

أسرعت الخطى إلى أمها و إن ظهرت تساؤلاتها حول الكهل في عينيها .. وقف الكهل و هو لازال ينظر إليها بنفس الحنان ..

- ما شاء الله .. ماشفتهاش خالص يا (سهام) .. دي عروسة زي القمر ..

نظرت (رهف) إلى أمها متسائلة فقالت أمها و هي تقف بجانبه و تحتضن كتفه و تنظر إليه في حنان و سعادة و دموع تنهمر من عينيها ..

- ده (صلاح) .. أخويا يا (رهف) .. خالك اللي كان غايب ..

أخذها (صلاح) في حضنه بشدة فإستسلمت له و الضباب يغلف عقلها.


2) اسمي چوناثان ..

جلس (چوناثان) في إستراحة المستشفى يسترجي كوبا من القهوة أن يعيد إليه حيويته .. سماعة ال(iPod) تتدلى من أذنيه تبثان أغانيه المفضلة في أذنيه .. كان منهك جسديا بعد أن عمل لأربعة عشرة ساعة متتالية .. إعتاد العمل لساعات طوال من قبل لكنه هذه المرة مستهلك نفسيا و عقليا .. تجربة لندن و ما حدث مع (رهف) جعل عقله و روحه (worn out) .. worn out .. أول مرة يشعر بهذا التعبير العبقري .. بالفعل هو لا يختلف كثيرا الآن عن أية خرقة إرتداها أحدهم حتى هلكت عليه تماما و أصبحت لا تصلح

There were days when I would say

I could give you everything

And I truly believed I could

But now I’m worn out

(Worn out blues – Gotya)

ذلك العذاب الذي يشعر به لعام كامل .. لا يعرف كيف و لا متى وجد نفسه غارقا في حبها .. الفاتنة القادمة من بلاد النيل .. لقد عرف اللهو في حياته و عرف الحب مرة في المدرسة و تبادل الإعجاب و العلاقات مع زميلات في الكلية و العمل .. بالإضافة لعلاقاته المتعددة خارج العمل .. لكن لم يخلب لبه أحد مثلما فعلت (رهف) .. قلبه يستشعر الوحشة إذا غابت عنه .. عمله الذي كان محور حياته .. علاقاته .. أصدقائه .. عائلته كلهم لم يستطيعوا أن يجعلوا قلبه يشعر بالراحة في عدم وجودها

How do I,

Get through one night without you

If I had to live without you,

What kind of life would that be??

(How do I live – LeAnn Rimes)

أعجب بها كلاعبة جميلة قبل أن يراها .. الفرس العربي الذي يأبى أن يروضه أحد .. أعجب بها لدرجة أنه كان يخشى أن تواجه أخته يوما لأنه يعرف بداخله جيدا من سيشجع و لن يكون أخ جيد وقتها .. ثم كان اللقاء الأول الذي حدث بالمصادفة .. كان عمله وقتها في الإستقبال و جاءت و هي مصابة بكدمة و الاشتباه في كسر بالضلوع .. سُر لرؤيتها و لكنه في عمله كان صارما لا مجال للمزاح أو المشاعر الشخصية .. فقط كشف عليها بروتينية و أجرى اللازم و تركها .. و في اليوم التالي ذهب ليرى أخته تلعب ففوجئ أن (رهف) قد انتهت من مباراتها و و في طريقها لمؤتمر صحفي .. تسلل إلى المؤتمر فضولا ليراها خارج الملعب .. ضحك على تعليقاتها و مزحاتها مع الصحفيين حتى وجد عينيها تقع عليه فلوح بيده لها محييا هنا لاحظ إرتكابها .. ترك المؤتمر و ذهب إلى أخته ليجدها قد إنتهت من مباراتها و لكمت كتفه معاتبة أنه لم يكون هناك من أجلها إنطلقا بعدها إلى الفندق و أصر أن يجلسا في البهو يتحدثان فوافقت متعجبة .. أخذ هو يراقب مدخل الفندق و المصاعد متأملا رؤية (رهف) .. لماذا؟؟ .. هو نفسه لا يعرف لماذا يرغب في رؤيتها بشدة .. كل ما كان يعرفه أنه يريد رؤيتها و التحدث معها .. بالفعل قد جائت (رهف) بعدها فنادى عليها و جلست معهما .. لم يستطيع منع إنبهاره بها .. ذكية جميلة فاتنة جذابة لبقة مرحة خفيفة الظل .. كان يستطيع أن يعدد صفاتها إلى الأبد

You’re just too good to be true

I can’t take my eyes off you

You’d be like heaven to touch

I wanna hold you so much

(Can’t take my eyes off you – Andy Williams)

إنتهى اللقاء عندما أصرت (كريستينا) بسخافة أن تغادر و سألته المجئ معها .. بالكاد كتم غيظه و قام معها و هو يكاد يحطم رأسها .. صافح (رهف) مودعا ليشعر مرة أخرى بإرتكابها و تهرب عينيها .. هل ؟؟ .. هل هي معجبة به أيضا ؟؟ .. خرج من الفندق مع أخته التي لم تكد تبتعد حتى إلتفتت إليه قائلة بسخرية:

- أنا عائدة إلى غرفتي .. أراك غدا في مباراتي ..

- What the f… لماذا جعلتينا نخرج إذن ؟؟

- لأن تلك العربية كانت تتغازل معك .. !!

- ماذا ؟؟

- لا تقول لي أنك لم تلاحظ كم كانت منبهرة بكلامك و تتغزل بك في كل كلمة!

- هل تقصدين أنها معجبة بي ؟؟

- -مطت شفتها السفلى في إشمئزاز- و إن كان .. هل فعلا لا تلاحظ أنها عربية و مسلمة ؟؟

- كفي عن العنصرية (كرستي) ..

- كف عن البلاهة (چون)

- أعتقد أنه الأفضل أن أغادر فعلا بدلا من أن نتشاجر

- نتشاجر ؟؟ على ماذا ؟؟ عليها ؟؟؟؟!!

قبل خديها و تركها و ذهب .. أخذ يفكر في كلامها و هو يسير نحو المستشفى .. هل هي حقا معجبة به كما لاحظت (كرستي) ؟؟ وصل إلى المستشفى و مارس عمله بعقل غائب يفكر في (رهف) و كلامها و مزاحها .. لم يرغب بأن ينتهي حوارهما و جلستهما .. لكن .. هل فعلا كعربية و مسلمة ستفكر به ؟؟ و هو لم يعلم عن العرب و المسلمين غير أنهم متحفظون و لا يميلون إلى التقارب بيننا و بينهم .. لكن من حديثه معها وجدها منفتحة و بعقلية ذكية .. أخذ عقله يقلب الاحتمالات كلها حتى شعر بالإجهاد و كان عمله قد إنتهي .. غادر المستشفى شاعرا بالامتنان أن اليوم التالي أجازته و يستطيع الحصول على بعض الراحة .. استيقظ بعد بضع ساعات على رنين جرس هاتفه .. مباراة (كريستي) يجب أن يحضرها و إلا ستقتله حتما .. ذهب إلى الملعب و جلس يراقب مباراتها و يبحث عن نتيجة (رهف) على هاتفه كل ثلاث دقائق و لم يمر وقتا حتى إلتوى كاحل أخته و تركت المباراة .. هرع إلى غرفة الملابس و إطمأن عليها .. كانت في مزاج سئ لخروجها من البطولة العالمية أكثر من تألمها لإلتواء كاحلها .. إحتضن رأسها محاولا أن يخفف عنها ضيقها و فحص إصابتها سريعا قبل أن تأتي عربة الإسعاف لنقلها إلى المستشفى

- ألن تأتي معي ؟؟

نظر إليها و كان قد هم بالانصراف إلى مباراة (رهف) .. إبتسم في هدوء و قال:

- أعتقد أنك لن تحتاجيني من أجل شيء بسيط كهذا .. ستكونين بخير و سأحضر للإطمئنان عليك في المستشفى و إن كنتي غالبا ستغادرين اليوم ..

- إلى أين أنت ذاهب ؟؟؟ -قالتها بغضب-

- ليس شأنك (كريستي)

- ذاهب لترى تلك العربية اللعينة ؟؟

أعطاها ظهره و هو يغادر حجرة تغيير الملابس و وكيلتها تساعدها للجلوس على المحفة

- وداعا (كريستي) سأطمئن عليك لاحقا

- You ass…

لم يستمع إلى باقي سبابها فقط تنهد و أسرع الخطى إلى المباراة الأخرى.

**********

تغيرت (رهف) معه بعد أن علمت أن (كريستي) أخته .. وافقت على الجلوس معه و تحدثا مرة أخرى طويلا حتى أتت وكيلتها الألمانية الشبيهة بالأفعى و أخذتها .. ودعته و في عينيها نظرة عرفها هذه المرة .. و في اليوم الثاني لم يذهب إلى المباراة لإنشغاله بعمله و لكنه تابع النتيجة كل لحظة على هاتفه حتى إنه صاح فرحا في وسط المستشفى عندما ربحت المجموعة الأولى .. ضحك بعدها عندما إلتفت الجميع إليه قبل أن تتغامز الممرضات و يمازحه بعض الأطباء .. شعر بالسرور عندما فازت بالبطولة فتابع عمله بحالة مزاجية مرتفعة حتى إنتهى من عمله و خرج عدوا إلى الفندق .. سأل عنها فعلم أنها في حفلة نظمتها إدارة البطولة بصفتها الفائزة في نفس الفندق .. ذهب إلى قاعة الاحتفال و ولج بداخلها و أخذ يبحث عنها حتى وجدها .. واقفة بين الصحفيين و وكيلتها و مدربها و إداري البطولة كملكة متوجة بين رعيتها .. ترتدي فستانا أحمر جعلها تبدو كزهرة الكاميليا الحمراء

(Middle-mist Red Camellia) .. نعم .. زهرة الكاميليا الحمراء .. كم تشبهها .. رائعة مثلها .. نادرة مثلها .. جميلة مثلها

I never will forget the way you look tonight

The lady in red, the lady in red.

(The lady in red – Chris De Burgh)

إلتقت عيناهما فإبتسمت له إبتسامة جعلت القاعة تضئ بالمعنى الحرفي للكلمة .. إستطاع أخيرا بعد ساعة أو أكثر أن يقترب منها و هي لوحدها .. تلك النظرة في عينيها .. كم أنت محظوظ أيها التعس لتكون هذه النظرة لك أنت .. صافحها فشعر بملمس يديها يخبره آلاف الكلمات .. إبتسم و قرر أن لا تضيع الفرصة من يديه .. إستمر معها يتحدثان و يقاطعهما عشرات الأشخاص حتى إنتهى الحفل و بدأ الجميع ينصرف .. أسرع إلى الإستقبال مرة أخرى و وقف محاولا إستغلال وسامته مع فتاة الإستقبال التي نظرت له مبتسمة:

- مرحبا

- مرحبا سيدي ؟؟

- أنا دكتور (چوناثان تشابمان) شقيق (كريستي تشابمان) لاعبة التنس

- Uhh yes ... كيف أستطيع مساعدتك يا سيدي

- (كريستي) تعتقد أنها نسيت خاتم أمنا في حجرتها ..

- أوه .. حسنا يا سيدي سأرسل أحدهما للبحث عنه ..

- عذرا و لكنها أرادت مني البحث عنه بنفسي .. إذا كانت الحجرة خالية هل هناك مشكلة في أن يصحبني أحدهم إلى الحجرة ؟؟

- لا مشكلة يا سيدي .. هل أستطيع رؤية الهوية من فضلك .. حسنا شكرا .. لحظة واحدة ..

ضربت علي مفاتيح الكمبيوتر أمامها قبل أن تتصل بالهاتف الداخلي و يأتي حامل حقائب لاتيني الملامح و تعطيه مفتاح الغرفة ..

- إذهب مع السيد إلى حجرة رقم (....) سوف يبحث عن شيء هناك

إصطحب (چوناثان) العامل و صعد إلى الحجرة .. كان يعلم أن حجرة (رهف) مجاورة لحجرة أخته .. دخل الغرفة و تظاهر بالبحث عن الخاتم حتى سمع صوت الحجرة المجاورة يغلق .. عرف أن زهرة الكاميليا الحمراء قد حضرت .. تظاهر بعدم العثور على الخاتم و يأسه فغادرا الغرفة .. طلب من العامل الذهاب بحجة المرور على صديق في نفس الدور و أعطاه بقشيشا سخيا جعل الأخير يبتسم في تزلف و يتركه و يذهب .. طرق باب حجرة (رهف) و هو يعرف أنها ستنظر من العين السحرية .. نصف دقيقة و فتح الباب و هي بكامل زينتها و هيئتها .. لم تجد وقتا لتسأل عما يريد .. مبتسما مال على خدها البارد طابعا قبلة إستغرقت ثوان .. فاجأها ما فعل إلا أنها للعجب لم تبعده أو تصفعه .. إعتدل قائما و على وجهه نفس الإبتسامة و نظر إلى وجهها الذي إحمرت وجنتيه بشدة حتى نافس فستانها الأحمر .. عينيها مغمضتين في نشوة و أنفاسها سريعة متلاحقة

- مبارك عليك الفوز بالبطولة

قالها و تركها و إنصرف و قدمه تلامس الأرض بالكاد من السعادة.

اليوم الثاني إتصل بها في الفندق فأجابته .. عرفها عن نفسه فصمتت .. صمتها أربكه فتنحنح قبل أن يقول:

- هل ما زالت معي ؟

- نعم

- هل انتي بخير ؟؟

- نعم ..

برودها نافس برودة كوكب بلوتو .. بدأ يفكر .. هل تعدى حدوده عندما قبلها أمس .. لم يبدو أنها إستاءت من القبلة .. إستغرقت تلك التساؤلات ثانيتين .. قال بعدها كمقامر يجرب الرهان

- أنا أسف لما حدث أمس .. أنا .. أنا لم أشعر بنفسي عندما فعلت ذلك .. كان أمرا تلقائيا شعرت به

- هل أنت معتاد تقبيل كل الفتيات بشكل تلقائي هكذا ؟؟

هذا هو إذا ..

- لا .. حقا .. لكن ..

- سيد (تشابمان) …

صيغة المخاطبة الرسمية له جعلته يبتلع لعابه ممزوجا بمكعبات ثلجية بصعوبة في حين أكملت هي كلامها

- أنا لا أدري ما الذي فعلته أو قلته و جعلك تعتقد أنني مثل الفتيات اللاتي تستطيع تقبيلهن بحرية .. أنا فتاة مختلفة عمن تعرفهم .. أنا مسلمة و عربية و شرقية و أعتقد أننا تحدثنا من قبل عن الفروق بين العالمين و يجب أن ..

- هل أستطيع رجاءا رؤيتك اليوم للاعتذار .. أعدك ألا أُسئ إليك مرة أخرى .. فقط دعيني أشرح لك ..

قالها مقاطعا و عرقه ينهمر بغزارة فوق جبينه .. -من اللعين الذى رفع درجة حرارة الغرفة ؟؟-

- تشرح ماذا ؟؟

أربكه سؤالها .. يشرح ماذا ؟؟ .. يشرح لها كم هو معجب بها ؟؟ .. لكن هل هي حقا معجبة بك ؟؟ ربما توهم أنها معجبة به !! .. هل تعجب الأزهار بالناظرين إليها ؟؟ .. قرر لعب ورقته التالية بروح مقامرة لم يعرفها في نفسه من قبل ..

- أشرح أني أحمل بداخلي لك مشاعر تفوق مشاعر الإعجاب نحو أية فتاة عادية

- لو سمع صوت الهاتف الرتيب الآن فسيعلم أنه خسر الرهان ..

- ......

أربكه الصمت .. من الذي يقرع الطبول هنا ؟؟ نحن في مستشفى أيها اللعين .. أم أنه صوت نبضات قلبه ؟؟

- هل مازلت معي ؟؟

- نعم -بصوت مبحوح-

- -تنهد بصوت عميق- نعم .. ذلك هو السبب .. أنا أحمل الإعجاب لك منذ رأيتك تلعبين و كم شعرت أني محظوظ لوجودي بالمستشفى يوم جئتِ .. و زاد إعجابي بعد أن تحدثنا أول مرة و مع كل لحظة أراك فيها أو نتحدث أشعر أني لا أرى في العالم أحداً سواكِ .. بل و أشعر أنك تبادليني نفس الشعور فأغلقي الهاتف الآن إن كنت مخطئا ..

قال الجملة الأخيرة و لهث .. ألقى ورقته الأخيرة و راهن على كل ما معه ..

- ......

- أنتِ لم تغلقي!! -تنهيدة خلاص- .. حسنا .. أرجوك قابليني و دعينا نتحدث

- (چوناثان) ...

مخاطبتها له بإسمه جعله أكثر إلحاحا .

- أرجوك .. كما وعدتك لن أُسئ الأدب ..

- -زفرة حارة- الساعة الخامسة في بهو الفندق

- -بصوت سعيد- سأكون هناك قبل ذلك

وضع السماعة و تابع عمله قبل أن يغادر باكراً نصف ساعة عن موعد إنتهاء العمل بعد أن تأنق قدر المستطاع .. وصل إلى بهو الفندق قبل الموعد بعشرة دقائق و إنتظرها بالداخل

Come up to meet you, tell you I’m sorry

You don’t know how lovely you are.

(The Scientist – Cold Play)

جالت مئات الأفكار في ذهنه و هو ينتظرها إن كانت ستأتي أم لا حتى رأها قادمة نحوه ترتدي ثوبا بسيطا و أنيقا في نفس الوقت بلا أية مكياج و لكنها كانت فاتنة .. جلست معه .. وضعت ساق على ساق و نظرت إليه نظرة ساهمة

- لن تتخيلي مقدار سعادتي بقبولك اللقاء هنا

فقط هزت رأسها و لم تجب و إن دل إهتزاز ساقيها على توترها .. فكر أن يضع يده على ساقها ثم سرعان ما تراجع عن الفكرة

- أنا أعتذر عما حدث أمس .. تخطيت حدودي و لكن صدقيني كان أقوى مني

- لا داعي للتحدث عما حدث أمس ..

- -بهزة رأس- معك حق .. كم من الوقت أمامك هنا في نيويورك

- من المفترض أن أغادر غدا ..

- هل يمكنك التأجيل ؟؟

- و لماذا ؟؟

- أريد أن أُثبت لكِ أنني لا ألهو ..

إرتبكت و إضطربت و هزت ساقها العليا بسرعة جناحي الطائر الطنان و ظهرت حمرة علي وجهها .. فتحت فاها لتجيب فقال مسرعا

- (رهف) .. كما قلت لك أمس على الهاتف أنا أشعر نحوك بما لم أشعر به نحو أية فتاة عرفتها أو قابلتها .. أنتِ الوحيدة التي أريد أن أكون واضحا و صريحا معها .. الوحيدة التي قد أهتم بأرائها نحوي و الوحيدة التي قد أغير من أجلها ما يضايقها في شخصي .. لكن .. مرة أخري أسألك .. هل فعلا تشعرين بما أشعر و مستعدة لإعطائي تلك الفرصة ؟؟

- لا أعرف (چوناثان) .. -بخجل- لا أنكر أني أشعر بإعجاب نحوك .. و لكني لا أعرفك حق المعرفة ..

- إذا أرجوك أعطني الفرصة لأخبرك بكل شيء

Tell me your secrets

And ask me your questions

Oh, let’s go back to the start

(The Schientsit – Cold Play)

على مدار خمس ساعات قَص عليها كل شيء عنه .. والديه .. أخته و علاقتهما .. مدرسته .. جامعته .. عمله .. علاقاته السابقة و حبيباته السابقين .. هواياته و نزواته .. ماذا يحب من الطعام و ماذا يكره .. ضحكت خلالهم أربعة عشرة ضحكة عدهم جميعا واحدة تلو الأخرى و قطبت حاجبيها أربع مرات و عبست مرتين .. حتى و هي تعبس رائعة !! .. تحدثت إليه و قد تبسطت معه .. حدثته عن عائلتها و نشأتها .. حدثته عن أختها و لا عجب حين تكون العازفة الأسطورية أخت زهرة الكاميليا الحمراء .. أخبرته العديد من الأمور .. وجدت أنها تستطيع أن تخبره عما تفعله مع عائلتها و كيف أنها أغلقت قلبها عمن حاول إقتحامه من قبل و كيف كانت تتصرف كالآلة بلا مشاعر .. و.. و .. و .. و في النهاية قال لها

- هل ستؤجلين عودتك ؟؟

لم تجيب فقط إبتسمت .. و عرف الإجابة في عينيها

The look of love in your eyes

A look your smile can’t disguise

The look of love is saying so much more than just words could ever say

(The look of love – Dusty Springfield)

أجلت سفرها أسبوعا بعد أن أبلغت مدربها و وكيلتها و أمها قبلهما .. قضيا كل يوم في الأسبوع معا بعد عمله و يوم أجازته .. أخذها في جولة في أنحاء نيويورك .. أراها عالمه و بلده و أصدقائه .. تهرب من إتصالات أخته التي أصابها الجنون حين علمت بوجود (رهف) في نيويورك .. إنفتحت له أكثر و أكثر و أخبرته عن أسرار خاصة لم تخبر بها أحدا من قبل و لم يعرفها أحدا عنها .. و أخبرها بالمثل .. بنهاية الأسبوع عرف أنه قد عثر على كنز الكنوز .. لأول مرة يشعر أنه يرغب في الارتباط بإحداهن .. أخبرها بذلك في أخر يوم لها في نيويورك و هما جالسان على (The River Cafe) المطل على جسر بروكلين المعلق (Brooklyn Bridge) فشردت بنظرها و هي تتأمل كوب العصير أمامها قبل أن تقول

- يجب ألا نتعجل الأمور ..

- هل لا زلتي غير مقتنعة ؟؟

- -هزت رأسها- ليس كذلك .. كل يوم أقترب منك أكثر .. تعرف عني ما لا يعرفه أقرب الأقرباء .. و لكن ..

- و لكن ؟؟

- -بزفرة حارة كادت تحرق قميصه- ثلاثة مشاكل يجب أن نفكر فيهم جيدا قبل أن نخطو مثل تلك الخطوة

- سأفعل ما تريدين

- -ببسمة حزينة- لا تتعجل الإجابة الأن

- فقط سميهم و سترين

- أولا الثقافة .. أنت لا تعرف عادتنا و طبيعتنا جيدا .. على العكس أنا أعرف عاداتكم و طريقتكم .. و لن يكون سهل عليك تقبل هذا

- ليست نقطة صعبة .. سأقدر صدقيني

- سنرى ذلك .. النقطة المهمة الأخرى هو المكان .. أنت تقيم هنا و لك عملك الناجح و عائلتك .. و أنا في بلد عربي مع عائلتي التي ليس لها غيري و ليس لي غيرها .. لن أستطيع تركهم و المعيشة هنا .. و لا أعتقد أنك ستشعر بالراحة هناك

- فكرت في هذا الأمر بالفعل و لا أَجِد مشكلة في أن أجرب السفر إلي بلد أخر

- صمتت قليلا تزن كلماته في عقلها .. أخذت رشفة من كوب العصير الموضوع أمامها ثم تنهدت و هي تقول

- حسنا .. النقطة الأخيرة هي الأصعب .. الدين ..

هنا صمت و بهت .. تناسى في أثناء إنشغاله بمشاعره نحوها تلك النقطة الرئيسيّة .. هو بروتستانتي بالميلاد .. و لكنه فعليا لا علاقة له بالدِّين .. زيارات الكنيسة كل أحد و الاعتراف و كل ما يفعله المتدينين هو بعيد عنه تماما .. في الحقيقة هو لا يُؤْمِن بأي دين .. الحياة هي الحياة عشها بكل لحظة فيها لتموت غدا .. و غدا شيء أخر لا يحدث معه فارقا الآن ..

- -مكملة جملتها بنبرة يأس- أنا مسلمة (چوناثان) .. ديني يمنعني من الإرتباط بأحد غير مسلم ..

لماذا الحياة قاسية هكذا ؟؟ .. ليست عنده مشكلة أن يعتنق دين أخر من أجلها .. لكن أن يتحول إلى الدين الذي أصبح بعد الحادي عشر من سبتمبر أكثر دين جدلا في أمريكا!! .. ينتقل من خانة أمريكي إلى خانة أمريكي مسلم .. نعم وصفه سيكون أمريكي مسلم و ليس أمريكي فقط .. أين ذهب الهواء فجأة ؟؟ .. لكن أليست هي أيضا مستعدة قليلا للتفاوض معه .. ألن تكون قادرة على أن تستبدل دينها بدين يتيح لها أن تكون له ؟؟ لم يشعر بأنها متدينة كعادة بعض المسلمين الذين عرفهم .. فلماذا هذه النقطة ؟؟

- هل رأيت قلت لك أنه ليس سهلا ..

قالتها و هي تنظر في عينيه و تقرأ فيهما ما يدور بعقله

- (رهف) أنا لا أبالي بأي شيء الآن سوى أنني أريدك .. ربما معك حق لنأخذ وقتنا و نتقارب أكثر و عندها أنا واثق أني سأفعل ما تريدين بلا أية مشاكل

قالها صادقا .. هو يريدها و بشدة .. ربما قرار الدين صعب لكنه يشعر أنه سيكون سهلا يوما ما عندما يصبح وجودها خارج حياته مستحيلا .. و ربما يحدث العكس و تتقبل هي التغير من أجله .. Who knows ??

- و هذا أيضا صعب .. سأترك نيويورك اليوم .. و غدا سأكون في البلد العربي و بعدها سأكون في بلد أخر من أجل بطولة و بعدها في بلد أخر و هكذا .. كيف سيتثنى لنا اللقاء و رؤية أحدنا الأخر ..

- -مبتسما لتلطيف الأجواء- أما هذا فقد فكرت به وعندي حل معقول له .. بالتأكيد تستطيعين أن تعرفي أين ستكونين خلال الستة أشهر القادمة

- نعم .. و لكن ..

- -مقاطعا بإصرار- فقط أرسلي لي إيميل بجدولك هذا و سأقوم بعملي لكي أستطيع أن أراك على الأقل مرة شهريا ..

إبتسمت له إبتسامة برائحة عبق الأزهار و قامت فجأة بحضنه .. تفاجأ عندما فعلت ذلك فاندهش للحظة قبل أن يحيطها بذراعيه و يقبل شذى الياسمين في رأسها ..

في الستة أشهر التالية أوفى بوعده .. سافر للمكان الذي تكون فيه قدر ما استطاع و لمدة أربعة أيام على الأقل كان يراها في عدة دول .. إزدادا قربا و عشقا على الرغم من آلاف الكيلومترات التي يقطعها ليصل إليها .. تكاليف أسفاره الشهرية أصبحت مرهقة لكنه لم يهتم طالما يكون مع زهرته النادرة .. أصدقائه و الأطباء و الممرضات يتسائلون عن سفرياته الشهرية فيكتفي بإبتسامة مستحضرا في ذهنه صورتها و هي تبتسم له في حب .. فاتورة هاتفه الجوال بلغت أرقاما غير مسبوقة لكنه لم يهتم .. فقط ليسمع صوتها كل يوم .. عندما يعود بعد كل رحلة كان يتساءل لماذا أضحت نيويورك .. بل الولايات المتحدة بأسرها بهذا الضيق ؟؟ .. لكنه كان يعرف الإجابة بداخله .. و لم يكن متضايقا من ذلك .. لم يعد يهتم بالعلاقات العابرة كالسابق أو التغازل مع إحداهن .. أصبح لا يرى في عالمه سواها .. حتى كانا في أستراليا معا .. كانت تلعب البطولة الكبرى فتبعها لاحقا بها و بأخته و بعد مباراتها الأولى خرجا معا كعادتهما .. كان قد إستأجر سيارة و إنطلقا معا في إتجاه مطعم قريب .. السعادة تجلس بجانبه و تنظر إليه بحب .. تلاقت نظراتهما لثوان قبل أن يفاجأ ب(رهف) تحرر نفسها من حزام الأمان و تنقض على شفتيه .. ذهبا معا في رجفات كهربائية إستغرقت عدة سنوات ضوئية قبل أن يقطعها صوت تنبيه سيارة قادمة في الإتجاه المعاكس .. عدل عجلة القيادة سريعا ليتفادها و ضغط الفرامل بشدة ليقف على الحد الجانبي للطريق .. نظر إليها و ضحكا معا قبل أن تنقطع ضحكتهما مرة أخرى فقفزت جالسة على ركبتيه .. يومها كسرت معه قاعدتها الذهبية و أعطته القليل منها ليتذوقه لأول مرة .. تذوقها و إزداد جوعا لها لكنها لم تعطيه (Full Course) .. جلست بعدما إنتهيا من تبادل نيرانهما على مقعدها شاردة و صامتة و على وجهها إحساس بالذنب لم يخفى عنه .. لم يعرف ماذا يفعل .. حاول إحتضانها فصدته بعصبية قبل أن تطلب منه أن يوصلها إلى فندقها .. ترجاها أن تهدأ و تستمع إليه لكنها كانت قد رفعت بوابة قلعتها و منعته من الدخول .. أعادها للفندق فترجلت قبل أن تتوقف السيارة بالكامل و أسرعت نحو المدخل تاركة إياه يستشعر ندما لا يدري له سببا .. هي من بدأت الأمر و هو لم يمانع لأنه يحبها و لكنها الآن تتصرف كأنه إعتدى عليها ؟؟ .. و مع ذلك يشعر بالندم و الحزن و الضيق و لا يعرف هل فقدها أم ماذا .. أغلق الهاتف مئات المرات في وجه (كريستي) و تجاهل الآلاف من رسائلها .. في حين دأب على الإتصال بها و إرسال ملايين الرسائل .. لكن .. لم يستقبل هاتفه أي إجابة تطمئنه .. ذهب إلى محل قريب إشترى منه زجاجة ويسكي و جلس في سيارته أمام الفندق يحتسيها و عينيه مثبتة على مدخله أملا أن يراها مرة أخرى .. فجأة وجد ضوء الشمس يؤلم عينيه بشدة .. غلبه النوم في السيارة من أثر الويسكي و الحزن و الكمد و أصبح كل ما يشعر به صداع يكاد يشق رأسه نصفين .. لكن كل ذلك لم يضايقه مثلما ضايقه ما حدث منذ ساعات.

I’m standing in the street

Crying out for you

No one sees me

But the silver moon

(Tired of being sorry – Enrique Iglesias)

نظر إلى ساعته فوجد أنه قد نام حتى قربت الشمس من وسط السماء .. تأمل هاتفه المحمول .. آلاف المكالمات و الرسائل من (كريستي) لكن لا شيء من (رهف) .. كان يعرف أنها ستلعب اليوم لذا أسرع إلى الملعب ضاغطا على أسنانه ليوقف المطارق التي في رأسه .. صف سيارته و نظر إلى المرآة فرأى شبح إنسان ينظر إليه .. حاول إصلاح ما يستطيع من هيئته قبل أن يخطو داخل الإستاد .. دوى رنين هاتفه فوجد إسم (كريستي) يضئ على شاشته أجابها و هو يتنهد

- أين أنت أيها الوغد ؟؟؟ .. أفزعتني حتى الموت ..

صراخها جعله يبعد الهاتف عن أُذنه التي لم تتحمل صوتها مع المطارق التي في رأسه ..

- لم أكن أشعر أني بحالة جيدة (كريستي) و لم أستطع الإجابة

- لا تشعر بحالة جيدة؟؟ لم تعود إلى الفندق طوال الليل .. لا تكذب علييييي . تن تن تن ..

إنقطع شحن الهاتف فأراحه من صراخها .. إنها تتصرف بغيرة لا معقولة عليه .. هي لا تهتم إلى هذا الحد إن كان بخير أو لا و لكنها غيرتها اللعينة غير المفهومة من (رهف) .. دخل إلى المدرجات و رائحة الكحول تفوح منه مما جعل الفتاة المثيرة الجالسة بجانبه تنظر إليه في تقزز و لكنه لم يهتم .. لم يعد يفكر سوى أن يرى (رهف) و يستعيدها مرة أخرى حتى لو قبل الأرض تحت قدميها و غسلهما بدموعه .. دخلت (رهف) و منافستها إلى الملعب فخفق قلبه بقوة و كاد ينزعه من مقعده و يحمله إليها لكنه قاوم بضراوة أن لا يقتحم الملعب و يجثو على ركبتيه أمامها سائلا عفوها عما لم يبدر منه ..

Don’t deny me

The pain I’m going through

Please forgive me if I need you like I do

Please believe me.

(Please forgive me – Bryan Adams)

تابع لعبها بعقل نصف غائب .. لم يلاحظ إلا أنها غاضبة و تصب جام غضبها على منافستها و عاقبتها بأن هزمتها هزيمة ساحقة مذلة .. جرى إلى الفندق بعد المباراة ينتظرها .. الشمس إقتربت من المغيب و لم يدخل فاهه شيء لأكثر من أربعة و عشرين ساعة جعل عصارة معدته تلهب جوفه و أثار الويسكي تتأمر معها ضده .. صعد إلى حيث غرفتها و مضى الوقت يبري الموكيت على الأرض بخطواته ذهابا و إيابا حتى إنفتح باب المصعد و ظهرت .. ذهلت عندما وجدته أمامها .. مبعثر الثياب و الشعر .. عيون ذابلة و سخام أسود تحت عينيه .. نظرة زائغة في عينيه .. وقفت في مكانها تنظر إليه بتعابير تراوحت بين الشفقة و الذهول و الحب و الألم .. مشى إليها مترنحا قبل أن ينزل على ركبتيه أمامها .. لماذا تدور الحوائط حوله هكذا ؟؟

- I’m sorry (رهف)

قالها و غاب العالم من حوله .. أفاق ليجد نفسه على فراش تفوح منه رائحة المطهرات الطبية .. تلك الرائحة لا يمكن أن تكون إلا في مستشفى .. نظر حوله ليجد (رهف) جالسة بجانبه .. الشعيرات الحمراء في عينيها و أنفها الأحمر أخبراه ماذا كانت تفعل أثناء غيابه عن الوعي .. حاول فتح فمه لكنه شعر كأنه يحاول فتح ممر عبر قلب الأرض .. قفزت إليه عندما رأت حركته و إنهمرت القبلات على رأسه و خدوده و شفتيه ..

You’re my everything

And nothing really matters but the love you bring

(You’re my everything – Santa Esmeralda)

عادا معا مرة أخرى بعد ذلك اليوم .. و إستمرا على ما كانا عليه من قبل مطاردا إياها حول قارات العالم الخمس .. إستمرت (كريستي) في غيرتها و محاولاتها المستميتة لإبعاده عنها .. جاءت أيام إستسلمت فيه (رهف) لعشقهما و أعطته ما يثير جوعه لها أكثر و لكنها لم تتركه مثلما فعلت في سيدني .. بدا واضحا أنها لم تعد تستطيع السيطرة على نفسها و إن كانت لم تبلغ معه الحد الذي يروي ظمأهما .. إستمرت محاولات (كريستي) حتى أثمرت بعد عشرة أشهر من لقائه أول مرة من (رهف) .. كانا في باريس من أجل (رولان جاروس) و لا يعلم هو نفسه ما حدث .. فجأة وجد نفسه يمتلئ غيظا من (رهف) و من المقدار الشحيح الذي تعطيه له من جسدها و لأول مرة منذ عشرة أشهر يتشاجر مع (رهف) .. يذكر أنه شرب أكثر مما ينبغي ذلك اليوم و ثارت رغبته بداخله .. حاول الحصول على الوجبة كاملة هذه المرة و لكنها كالمعتاد رفضت و صدته .. وقف في بهو الفندق و عقله مغيب من أثر الشرب .. نظر حوله فوجد فتاة فرنسية تبادله النظرات .. تغازل مع الفتاة و (رهف) تقف مذهولة و لا تتدخل .. خرج معها تاركا (رهف) خلفه مصدومة .. لا يعرف ما الجنون الذي أصابه وقتها .. يعرف أنه لم يلمس تلك الفتاة .. إشمئز منها بمجرد أن أصبحا وحدهما .. طلب منها الرحيل و ظل وحده في حجرة فندقه لا يعلم في ماذا يفكر .. لم يفق من جنونه إلا اليوم التالي .. حاول الاتصال ب(رهف) و لكنها أبت الإجابة عليه .. حاول رؤيتها فرفضت .. خسرت مباراتها أمام أخته و سافرت بعد المباراة دون انتظار .. علم أنها خسرت هذه المرة لأنها كانت منهارة .. تبعها إلى لندن عالما أنها ستكون هناك و لكنه فوجئ أنها هناك مع كامل عائلتها .. إنهار خوفا من ألا يجد فرصة لمحادثتها .. شهر مر منذ فقد عقله و حطم ما كان بينهما و (كريستي) اللعينة سعيدة و هو يشعر بالتعاسة كما لم يشعر بها من قبل في حياته .. إنه يحبها .. بل إنه يذوب عشقا من أجلها .. فجأة شعر أن كل شيء يمكن بسهولة أن يتنازل عنه من أجلها

I tried to go on like I never knew you

I’m awake but my world is half asleep

I pray for this heart to be unbroken

But without you all I’m going to be incomplete

(Incomplete – Backstreet Boys)

واتته الفرصة في ذلك المطعم .. كان هناك مع (كريستي) و صديقها و فوجئ بزهرته النادرة تدخل إلى هناك مع عائلتها .. لم يصدق نفسه عندما رآها فقفز من على مقعده عندما غادرت مائدتها .. عادت إليه روحه بعدما شعر بها في أحضانه .. ضرباتها و لكماتها إستحقها عن جدارة و لكنه لم يبالي بأي ثمن يدفعه كي يستردها .. لكن تلك الحادثة اللعينة حدثت لتفسد عليه كل شيء .. الآن يمارس عمله بلا روح .. عقله و قلبه ما زالا أسيرين في قارة أخرى حيث تركها .. كم تمنى لو يظل معها لكن بعد ما حدث و تحمله مسؤلية صدمة أختها لم يعد ممكنا أن يظل بجوارها هناك .. سينثر الأقاويل حول روايتها .. روايتها التي يعلمان معا أنها غير حقيقية.

- دكتور (تشابمان)

أخرجه النداء من شروده ليجد إحدى الممرضات تطلب منه الكشف على حالة طارئة .. هز رأسه و نزع سماعة ال(iPod) و إبتلع ما بقى من القهوة و قام لاحقا بها.


                       سبعة آلاف و خمسمائة و تسع و سبعون يوما على الأرض ..

3) الصحفي ..

تعالت معزوفة ما من سماعة كمبيوتر قديم تحول لونه الأبيض الكريمي -يوم أن كان جديدا- إلي لون أقرب إلى رماد السجائر في حين أخذ هو يشاهد على شاشته العتيقة تلك الفاتنة التي تعزف ببراعة على الپيانو .. لم يكن يوما من محبي الموسيقى الكلاسيكية لم يستطيع إستساغة تلك النوعية القائمة على أنقاض و موروثات بعض ممن حلل التراب أجسادهم و أصابعهم و عقولهم .. لم يجد في تلك النوعية ما يجده في موسيقى الديثميتال (Death Metal) أو إليكتروهاوس (Electro House) .. تنهد (عمر) و حمل كاميرته و علكة نيكوتين و (iPhone) –مستعمل بحالة جيدة- و دفتر صغير ونهض عن كرسيه متوجها إلى باب الحجرة متحاشيا زميلي غرفته و نظراتهما الفضولية .. خرج إلى ردهة تؤدي إلى صالة ضيقة به مكتب صغير معدني مستهلك ماركة (إيديال) و منفذها الوحيد للعالم الخارجي باب زجاجي لصق على أعلاه ورقة بيضاء (ستيكر) كتب عليها (مجلة عالم الغد) .. مجلة من تلك المجلات التي تطبع على هيئة جريدة بنفس ورق و أحبار الجرائد و لكن صاحبها قرر تسميتها مجلة بدلا من جريدة .. مجلة من تلك المجلات التي تجمع أخبار الرياضة و الفن و السياسة و الاقتصاد و الحوادث و أي شيء يجذب جمهور من القراء و تعتمد إعتماد أساسي على شائعات السوشيال ميديا (Social Media) .. مجلة كتلك المجلات التي يقع مقرها في شقة في عمارة قديمة من عمارات مصر الجديدة و حاول صاحبها لفت الانتباه لها بعمل يافطة بليكس على واجهة العمارة و ورقة ملونة طبع عليها إسم المجلة و الطابق و الشقة و وضعت بجانب مصعد قديم متهالك لا يغري أحدا بركوبه .. قابل في طريقه للخروج رئيس التحرير قادما من دورة المياه الوحيدة بالمجلة مشمر الكمين و قطرات عرق تغمر قميصه و بنطاله .. –أم إنه ماء؟؟-

- إيه .. رايح على فين يا (عمر) ؟؟

قالها رئيس التحرير و هو ينظر إليه من فوق نظارته و يعيد أكمام قميصه إلى موضعها

- عندي معاد مع البنت إياها بتاعة الپيانو .. عرفت أظبط حد في الأوتيل لهفت مني ورقة بخمسين و لسة مكلماني و قايلالي إنها قاعدة في اللاونج

- مكلماك .. أااااااه .. ماشي يا خلبوص إنت ورينا همتك .. هي هي هي

قالها و توجه إلى مكتبه بعد أن ألقى نظرة علي سكرتيرة المجلة المنهمكة في طلاء أظافرها و تختلس النظرات إلى (عمر) فلم تنتبه لنظرات رئيس التحرير ..

- خلبوص ؟؟!! يخرب بيت أم الفيلم العربي القديم اللي جتلنا منه ..

قالها (عمر) لنفسه و هو يخرج من باب المجلة و للمرة الألف يتردد ما بين إستخدام المصعد و النزول علي السلم قبل أن يتوجه للسلم كالمعتاد و يسترجع ما عرفه عنها و هو ينزل درجات تقارب في عددها و إرتفاعها أهرام الأزيتك .. إسمها (فرح حسين جمال) عازفة مصرية عاشت طوال عمرها بالخليج و إشتهرت منذ صغرها بموهبتها في العزف على الپيانو .. فازت بعدة مسابقات عالمية و لقائتها الصحفية و التلفزيونية في مصر نادرة فلذلك يعتمد هذه المرة على حظه و وسامته و لباقته للحصول على سبق صحفي .. و الشهرة .. لا يهمه السبق الصحفي مثلما تهمه الشهرة و المال .. لم يكن مثل أقرانه الشباب الذين يقضون وقتهم في الثورة و محاولة التغيير .. تعلم هو منذ نعومة أظفاره أن الحياة تسير بوتيرة واحدة لا تتغير .. البقاء للأغنى و الأشهر و الأقوى -قوة غير عضلية طبعا- و لذلك وجه ذكائه و وسامته و لباقته لإقتناص فرصة تقربه للعالم الذي يبغيه .. لم ينكر أحدا ذكائه في إدارة الأحاديث و التعامل مع الناس للوصول لغايته و حتى إيقاع الفتيات في شباكه ساعده على ذلك وسامة إكتسبها من جذور صعيدية ببشرة سمراء نيلية و عيون خضراء قططية أبرزها بنظارة زجاجية بلا إطارات (Frame-less) – مظهر أكثر منه ضعف إبصار- و شعر كثيف مجعد قصير دوما حتي ليبدو لمن يعرفه أنه لا ينمو أبدا .. ملامح رجولية حادة و جذابة في نفس الوقت للفتيات غلفها بذقن نصف حليقة محددة .. إنجليزية كافح ليحررها من ال(Accent) المصرية كفاح (أحمس) لتحرير (طيبة) من الهكسوس فأصبح يبدو حين يتحدث بها كأنه خريج إحدى مدارس اللغات أو الجامعة الأمريكية .. مظهر أنيق دائما قوامه ماركات شهيرة –تحيا ال(First Copy) و أمازون و المنتجات الصينية ثلاث مرات- .. ظن أن الصحافة وسيلة للوصول إلى ما يريده و أن بإستطاعته الوصول إلى قمتها في شهور معدودة معتمدا على ذكائه و مهاراته و لكن فوجئ أن إقتحام هذا العالم يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك .. لم يمانع تقبيل المؤخرات للوصول إلى مبتغاه لكنه فوجئ أنه يقف في طابور أمتاره الأفقية تنافس أمتار برج دبي الرأسية من المستعدين أمثاله و أكثر .. كان بذكائه قادراً على تجاوز العديد منهم .. و لكن الوصول إلى مبتغاه كان يستغرق وقتا أكثر مما وضعه في حسبانه .. لم يكن الصبر من صفاته يوما .. كان يستعجل النجاح و الشهرة و المال .. المال الذي يأتي شحيحاً من عمله في تلك المجلة الحقيرة .. سحقاً للصحافة التي لا توفر له ثمن البدلات الفاخرة و العطور الأصلية و الساعات السويسرية الحقيقية .. فرصة .. فرصة واحدة هي كل ما يريد و سيعرف الجميع من هو.

شدَّدَ على كاميرته و أشيائه و هو يقفز بداخل حلقة النار لتحمله و ١٤ راكب أخرون إلى مبتغاه .. رسم على وجهه نظرة جادة زادتها نظارة شمسية (Police – first copy) بارزا عضلات صدره التي حصدت ثمار تمرينات الضغط اليومية و هو يحاول في ذهنه إيجاد مدخل لفاتنة الموسيقى .. كان قد حصل على معلوماته عنها بإستخدم جاذبيته و نظرة يعرف تأثيرها و ثلاث إبتسامات مدروسة في إستمالة فتاة الاستقبال .. لم يستغرق وقتا حتى حصل على رقم المحمول الشخصي و إعجاب تحدث به جسدها بميلها نحوه و إقتحامها جيوبه الأنفية ب(Gucci Guilty Black) .. قابلها بعد إنتهاء ال(Shift) الخاص بها في بار بالمهندسين .. كأسين من (Draft Beer) و نصف علبة سجائر و أصبح معه ما يعرفه الفندق و وكيلها الفني في مصر عن (فرح) و كأس ثالثة جعلت الجو حميميا أكثر و فك عقال لسانها أكثر:

- هي جميلة for sure بس حاستها مش طبيعية maybe بسبب تربيتها برة مصر بس تحسها خيبة أوي على السمعة اللي وخداها

- أوبا .. كل ده عرفتيه من يوم ما جت و شوفتيها تلات اربع دقايق

- تلات اربع دقايق مين يابني .. دي كل يوم فالطالعة و النازلة بتعدي تتكلم معايا -سحبت نفساً من السيجارة و أطلقته- أنا حتى استغربت إنها ودودة أوي كدة و بتتكلم في الطلعة و النازلة .. بيني و بينك أنا إفتكرتها lesbian .. ده حتى الوكيل اللي معاها في مصر هنا إفتكرها كدة

- طيب لو كنت عايز أعرف إن كانت Lesbian و لا لأ .. أقدر أعرف إمتى و إزاي ؟؟

- - ضحكت فسعلت و هي تطفئ السيجارة- شكلك شاطر في الحاجات دي ..

- الثقافة لا تفنى و لا تستحدث من عدم

ضحكت مرة أخرى في دلال قبل أن تجيب بإبتسامة

- مش قلتلك شاطر .. هبقى أكلمك أقولك لو لاقيتلك فرصه ..

- معاها و لا معاكِ

- –ضحكة غنجة و حملت حقيبتها- أنا لازم أمشي .. هشوفك تاني ؟؟

- لو هتحطي نفس ال(perfume) ده يبقى أكيد .. إلا هو إسمه إيه ؟؟

- (Guilty Black)

- طيب ما تيجي نكفر عن ذنبك الأسود ده

- Stop it -ضحكة مائعة بدلال- يلا باي ... هكلمك بكرة لو نفع

بعدها بأقل من أربعة و عشرين ساعة كان هاتفه يضئ برقمها تخبره بإمكانية لقاءه الصحفي خاصة أن وكيلها الفني ليس في الجوار .. تأكد من رائحته و رائحة أنفاسه بعدما لفظه ال(ميكروباص) و إثنان آخران أمام فندق شهير على النيل .. دخل الفندق فوجد فتاة الإستقبال تنظر له مبتسمة و تغمز له و هي تشير إلى مكان (فرح) .. فوجدها أمامه تجلس واضعة ساق على ساق ظهر بروزهما تحت تنورة زرقاء طويلة و واسعة و قميص أبيض حريري محتشم يحجب مفاتنها .. مغمضة العينين و تتدلى من أذنيها سماعة ال(iPod) و حلقين من اللؤلؤ -بالتأكيد طبيعيين و ليسا صناعيين- تستمع إلى شيء ما و شفتيها تتحركان مدندنة .. بلا مكياج أو طلاء أظافر و لكنها فاتنة .. تحبس الأنفاس بالتأكيد .. لدقيقة قلب مئات الأفكار في عقله حتى إستقر على واحدة .. عاد ليتوجه إلى الطريق قاطعا الخطوات بحماسة الفكرة .. توقف أمام متجر زجاجي لبيع الزهور بجانب الفندق .. إنتقى باقة و بطاقة زيلها بإسم مستعارعازما إرسال فاتورتهما لمدير المجلة .. عاد إلى الفندق و توجه إلى عامل أعطاه الباقة و خمسين جنيها طالبا منه مهمة محددة .. سار حتى إقترب من طاولتها .. تعمد صدم قدمه بها مزلزلا الطاولة بما عليها .. فتحت (فرح) عينيها فزعة و نظرت إليه في حين جلس (عمر) على المقعد الخالي المقابل لها مصدرا تأوهات .. نزعت سماعتها و هي تقول له:

- إنت كويس ؟؟

تعمد عدم النظر إليها و هو يمسك قدمه و يحبس أنفاسه بأداء تمثيلي ظاهره الألم

- الحمد لله .. آسف لو كنت خضيتك ..

- و لا يهمك ..

قالتها و ناولته كوب ماء كان موضوع أمامها و انسكب نصفه على الطاولة مع صدمته .. جاء عامل الفندق و أخذ ينظف الطاولة و هو ينظر له بخبث .. أخذ (عمر) كوب الماء منها و شربه و هو لا يزال يرسم تعبيرات الألم على وجهه .. نظر إليها وإن تظاهر بعدم الإهتمام ..

- شكرا .. أنا .. أنا بجد آسف .. و مُحرَج منك جدا

إبتسمت في رقة و قالت

- لا إحراج و لا حاجة .. بتحصل -همت بالرجوع إلى الخلف و إعادة سماعتي ال(iPod) إلى أذنيها-

- -متشبثا بألا ينقطع خيط التواصل- عندك حق .. بتحصل –نظر إلى الطاولة- و قال في صوت تظاهر فيه بالحرج- ممكن أطلب الحاجات اللي دلقتها .. بيتهيألي كنتي بتشربي حاجة .. قهوة ؟؟

إبتسمت و هي تقول:

- لا مفيش مشكلة .. ميرسي .. أنا كنت خلصت أصلا

همت بوضع سماعتي ال(iPod) مرة أخرى في أذنيها إلا أنه وضع الكاميرا على المنضدة في حركة ظاهرها العفوية مسترسلاً في جذب إنتباهها فنظرت إلى الكاميرا و تنهدت بضيق ظهر على وجهها قبل أن تقول:

- إنت صحفي ؟؟

- كنت .. لغاية ربع ساعة فاتت

- -نظرة متعجبة- إزاي يعني ؟؟

- اليوم النهاردة كله عكوسات مالصبح .. و أهو اليوم كِمل بالموقف ده ..

- عكوسات ؟؟ -قالتها مبتسمة بعدم فهم-

- أه .. عكوسااااات .. تخيلي حضرتك .. المنبه حجارته قررت إنها تموت النهاردة بالذات فمرنش .. و طبعا صحيت متأخر .. و حتى و أنا بشرب القهوة ادلقت على القميص!! عقبال ما قلعته و كويت غيره طبعا وصلت هنا متأخر و ألاقى الشخص اللي قعدت أسبوعين بتحايل عشان أقابله مشي و فرصتي معاه راحت .. و كدة مؤكد المدير في الشغل هينفخني

- أفندم ؟؟ -قالتها بإبتسامة واسعة قاربت الضحك-

- ده احتمال يبقى فيها رفدي كمان حضرتك

حدقت فيه لوهلة مبتسمة .. و إبتسم هو في قرارة نفسه .. تلك الإبتسامة على وجهها بمثابة التأكيد على مهارته التخطيطية حتى الآن .. قالت (فرح) في هدوء:

- أنا أسفة إن كل ده حصلك .. كانت مقابلة مهمة ؟؟

- كانت -تنهيدة- .. مقابلة بقالي كتير بسعالها .. و أهي .. باظت خلاص-إبتسامة تهكمية-

- طيب ما تحاول تاني

- مش عارف ..ربنا يبعت .. على العموم شكرا ليكي -هز رأسه محييا-

هم بالنهوض و هو يضغط على زر جانبي في محموله فإهتز مصدرا أزيزا .. فعاد ليستوي في جلسته متظاهرا برؤية الشاشة قبل أن يتنهد و إصطنع الإجابة علي الهاتف في صوت وضع فيه أقصى قدراته التمثيلية:

- أيوة يا فندم -صمت و إبتلع ريقه و قال بصوت خفيض- أنا آسف يا فندم لما وصلت كان مشي -نظرة ضيق و إنكسار في عينيه و هو يتطلع لها- و الله يا فندم .... -صمت- حاضر يا فندم .. أنا آسف و الله .. إن شاء الله هعوضها صدقني .. يا فندم بس .. ألووو .. ألووو ..

رفع الهاتف من على أذنه و نظر فيه بغضب ممزوج بمرارة الإهانة .. مشهد تمثيلي متقن حمل عنوان (الإنكسار يجذب رقيقات القلوب) .. نظرة التعاطف التي أعلنتها عينيها كانت بمثابة تصفيق الجماهير الحماسي لأدائه التمثيلي المبهر .. قالت (فرح) بتردد:

- خير يا ... أنا آسفة .. الاسم إيه ؟؟

- (عمر) .. (عمر أحمد) .. مفيش .. لازم أرجع بحاجة لرئيس التحرير و إلا أروح على البيت من سكات

- طيب هو لازم الشخص ده و لا ممكن حد غيره ؟؟

- ده كان فنان عالمي .. نحات .. و كان في مصر لإسبوعين .. النهاردة أخر يوم .. زمانه في المطار ..

- إنت بتكتب في الفن ؟؟

- غالبا .. أصلي بحب الفن عموماً .. موسيقى .. رسم .. نحت

- -مالت نحوه في إهتمام و وضعت ال(iPod) جانبا- بجد ؟؟ طب بتحب شغلك كمحرر فني ؟؟

- جدا .. يمكن ماعنديش المهارة و لا الموهبة لكن بدوق الفن و بحس بيه -قالها و هو يرسم الحماسة في عينيه-

- -مبتسمة- بتحب إيه في الموسيقى ؟؟

أجاب و هو يردد ما حفظه مسبقا

- و لو إني ما عنديش تفضيل .. بس الموسيقى الكلاسيك هى أكثر حاجة بتشدني

- مش ممكن .. بجد ؟؟

- ليه الاستغراب يا .. معلش إسم حضرتك إيه ؟؟

- (فرح) .. (فرح حسين) و بلاش حضرتك دي

- (فرح) .. إسم جميل

- -ضاحكة- شكرا ..

- العفو .. واضح انك مهتمة بالموسيقى الكلاسيك أو بتحبيها

- أنا فعلا بعزف على الپيانو .. غالبا كلاسيك .. بلاقي نفسي فيه جدا عن أي نوع تاني من العزف

- هواية و لااا ..

- -ضاحكة بخجل- من ده على ده ..

هز رأسه مبتسما فإقترب عامل الفندق الذي كان ينتظر الإشارة حاملا باقة الزهور و البطاقة

- أنسة (فرح) في واحد جيه و سأل في الريسبشن على معاد الحفلة و ساب بوكيه الورد ده لحضرتك .. أطلعه لحضرتك على السوييت مع البوكيهات اللي جت قبل كدة ؟؟

- شكرا .. من فضلك بلاش .. -ضاحكة بخجل- .. الأودة مبقاش فيها مكان لبوكيه تاني .. لو سمحت إتصرف فيه -إبتسامة-

أومأ العامل برأسه قبل أن ينحنى في إحترام مبالغ فيه ثم يتراجع للخلف و هو يهدي (عمر) إبتسامة تفوح منها رائحة المؤامرة المشتركة

- -(عمر) مدعيا الجهل- معلش .. حضرتك مين بالظبط ؟؟

- -ضاحكة- (فرح حسين) بعزف پيانو و تاني بلاش حضرتك .. أنا أصغر منك أكيد

- بس واضح إنك مش مجرد بتعزفي پيانو من ده على ده .. واضح انك مشهورة و كدة ؟؟

- -ضاحكة بخجل- يعني بيقولوا ..

- -نظرة عدم تصديق في عينيه- بتعزفي في الفندق هنا مثلا ؟؟

- -إحمرت وجنتيها قبل أن تقول في خفوت- أنا أول مرة أعزف في مصر .. في العادة بعزف في أوروبا و أستراليا و أمريكا ..

- يا سيييدي .. بس أنا في المجال بقالي تلات سنين و ما سمعتش عنك في مصر خالص ..

- أنا طول عمري عايشة في الخليج أول مرة أجي مصر أعزف هي المرة دي

نزل على ركبتيه أمام نظراتها المندهشة قبل أن يقبل الطاولة

- -ضاحكة بشدة- بتعمل إيه ؟؟

إعتدال و جلس مرة أخرى

- ببوس وش السعد دي اللي عوضتني عن المقابلة اللي راحت .. إعملي فيا خير يا اسمك إيه و ساعديني انتي في الحوار ده

- -ضاحكة- إسمي (فرح) و بعدين مش يمكن أكون مش مشهورة زي الراجل اللي كنت جاي تقابله

- يبقى فرصة أرد لك ذوقك معايا و أحاول أخليك أشهر منه .. حاسك هتنَفَّعِيني

نظرت إليه للحظات مبتسمة و متعجبة من كلامه و طريقته قبل أن تهز رأسها بالإيجاب .. إنسابت إبتسامته الداخلية المزهوة بنجاح الخطة إلى وجهه في إرتياح ..

                                                                    ********

تركها بعد أن حصل على حواره و تذكرة لحضور حفلتها في الأوبرا و قبول دعوة لسهرة في القاهرة التي لم تراها من قبل .. أعطاها رقم محموله و تعمد ألا يسألها عن رقمها .. خرج من الفندق شاعرا بالفخر من نفسه .. غروره و ثقته المتعاظمين بطبيعتيهما إزدادا بضعة كيلومترات أفقيا و رأسيا .. على الرغم من حرارة الجو التي قابلته فور خروجه من الفندق المكيف سار نحو دكان صغير قريب و إشترى علبة سجائر مستوردة -سحقا لعلكة النيكوتين و السجائر المحلية معا- مكافأة له على عبقريته!! .. -و جائزة الأوسكار (Oscar) لأفضل قصة و سيناريو و إخراج و أداء تذهب إلى (عومااااار أحماااااااد)- .. كل جزء من الخطة سار كما حاكه في عقله تماما .. إقتحام خلوتها بأسلوب بسيط .. إبقاء التواصل قائما .. إثارة ضيقها ثم صدمتها .. جذب تعاطفها .. تجاهلها و إدعاء إنكار معرفتها .. كل ذلك فك عقال لسانها و يسر الحصول على الحديث المنشود .. لكن الساعتان الماضيتان مع (فرح) جعلا الكثير يقفز إلى رأسه بحيث أصبح يحتاج إلى تنظيم أفكاره و إعداد الطريق للخطوات القادمة!! .. نعم .. الخطوات القادمة .. عرج على مقهى إزدانت واجهته بكهول و شباب يتبادلون القبلات مع مباسم النارجيلة و هم يلعبون الطاولة أو يتأملون شاشات هواتفهم .. إختار مائدة معدنية صغيرة خالية إرتص بجانبها مقعدين خشبيين .. جلس على أحدهما قبل أن يطلب من (القهوجي) كوبا من الشاي الثقيل .. أخرج علبة السجائر و فض غلافها قبل أن يستولد من باطنها سيجارة أشعلها و أخذ يتذوقها بهدوء و إستمتاع .. الأولى له منذ أسبوعين كاملين .. مزج مذاقها برشفة من الشاي الأسود في جوفه تاركا الخليط عالي النيكوتين و الكافيين يرسم ملامح خطواته القادمة في ذهنه .. ما جمعه من معلومات للحصول على السبق الصحفي كما كان يخطط في أول الأمر و ما إلتقطه الساعتان الماضيتان كانوا حجر الأساس للفكرة التي بدأت تسيطر عليه .. كان كل ما يأمله قبل مقابلته هو ذلك السبق الصحفي الأول في مصر مع عبقرية الموسيقى في القرن الحادي و العشرين .. لكن .. كما بدأ يلاحظ .. إنها (عبقرية) و ليست (عبقري) .. المجد ثم المجد لتاء التأنيث التي تثيره إلى حد الجنون و يسيل لها لعابه .. تاء التأنيث التي يجذبه عبقها كما يجذب عبق الفرائس الضواري .. تاء التأنيث التي تعلم كصياد بارع كيف يصطادها و يروضها ثم يلتهمها متى شاء و كيفما شاء .. صياد إعتاد قنص الفرائس -الفقيرة غالبا- المتاحة حوله من قبل .. فرائس لا تسمن و لا تغني من جوع إلا لأيام معدودات قبل أن يعود لينطلق في رحلة صيد لفريسة أخرى .. لكن الفريسة هذه المرة مختلفة عن مثيلاتها السابقات حاملات تاء التأنيث .. راقية .. تمكث في فندق فاخر مكيف .. ترتدي ملابس تبدو غالية الثمن!! .. تلك الفريسة سيكفيه لحمها و مرقها و كل قطعة فيها ما بقي من عمره .. و إن .. لن يمنعه إصطيادها من إصطياد فرائس أخرى من حين لأخر على سبيل التذوق .. و لكنه بذكائه قدر أنها ليست سهلة المنال مثل الفرائس السابقة .. إنها من نوع مختلف .. نوع يحتاج إلى مجهودا و وقتا و صبرا أكثر من المعتاد .. سيكون تحديا مثيرا لنفاذ صبره المعتاد .. نوع لم يجربه من قبل .. و لكنه لها!! .. كصياد متمرس بدأ يستخلص من الساعتان السابقتان ما يمكنه من إعداد الفخ المناسب .. الطريدة أصابعها خالية من أي رباط ذهبي .. جميلة بلا شك .. ساذجة .. جداً .. شهيرة .. ثرية -بناءاً على عدد الحفلات التي عزفت بها العام الماضي وحده- .. تعيش الحياة الفاخرة التي يموت شوقا لها .. لا يعلم إن كان قلبها خالي كأصابعها أم لا .. لكن .. من قال أن هذه معضلة بالنسبة إليه؟؟ .. إصطيادها و ترويضها هو الفرصة التي كان ينتظرها و جاءته بنفسها على طبق من الماس إلى مصر .. الفرصة التي ستجعل منه شهيرا غنيا يرتدي الفاخر من الملابس و العطور و يركب السيارات الفارهة.

*********

حضر الحفلة .. كانت بالنسبة له تعذيبا و هو يستمع إلى موسيقى يكرهها .. الملل مقدم بلا نكهة و (sugar free) ساخنا في يوم حار .. لكنه إعترف في نفسه بأنها موهوبة و ماهرة .. تسلل في منتصف الحفلة إلى الكواليس و نقد حارس الأمن ورقة مالية فئة العشرين جنيها ليضع بطاقة عليها صورة پيانو و (Music is my medicine) مطبوعة على أعلاه و خط هو بداخلها

شكرا لإمتاع أذني و يومي 

ملحوظة :

من حسن حظي إني ما قابلتش النحات و قابلتك انتي

عمر أحمد

عاد إلى مقعده ليجد أن العرض على وشك الإنتهاء فإنتظر في ملل يراقب عقرب الدقائق المتباطئ حتى أفاق على عاصفة من التصفيق زلزلت الأرض من تحته .. إنتظر حتى أسدل الستار ، خرج معظم الحاضرين قبل أن يتحرك نحو المخرج متعمدا عدم رؤيتها .. وقف على باب المخرج و أشعل سيجارة و أخذ ينفث دخانها و هو ينتظر ليرى تأثير هديته و يراهن على ذكائه .. أحس منذ الحوار الذى أجراه أنها بريئة كالأطفال .. (خام) .. لا أحد في العالم بأجمعه غيرها يستحق ذلك اللقب مثلها .. لم يكن يعتقد بوجود أنثى على قيد الحياة (خام) حرفيا حتى قابلها .. رد فعلها الباهت لتلقي باقة الزهور جعله يتعمد عدم إرسال باقة أخرى أو أي هدية محسوسة لتقديره أنها إعتادت ذلك .. ملابسها البسيطة غير المتكلفة و حتى اللؤلؤ الطبيعي في أذنيها يدلان على ميلها للتبسط .. مثل تلك النوعية من الطرائد الهدايا غير المعتادة البسيطة تترك أثرا أعمق في روحها من الهدايا الفاخرة الغالية التي إعتادتها .. بالإضافة إلى أنه لم يسترجع ثمن باقة الزهور الأولى من رئيس التحرير بعد!! .. و ماديا .. البطاقة لم تكلفه كثيرا .. ألقى السيجارة و سحقها تحت قدميه و هم بالسير عندما إهتز هاتفه برقم غير مسجل فأجاب مبتسما في زهو .. لقد أصابت رميته و سقطت الفريسة في الفخ ..

منذ تلك الليلة و حتي سافرت (فرح) عائدة بعد أسبوع أصبحا يتقابلان يوميا .. أخذ يروضها بهدوء و تروي .. بهر عينيها بالقاهرة التي لم تراها كما رأتها معه .. ملأ أذانها بكلماته المختارة بعناية شاقا طريق (Highway) إلى قلبها البكر البرئ .. تجنب الحديث عن جمالها تماما و أطرب أذنيها بالحديث عن روحها و عقلها و موسيقاها .. تعمد ترك تذكارات صغيرة من حين لأخر تجعلها تراه أمام عينيها دائماً -بلا أي قيمة مادية حقيقية- .. إنساقت (فرح) وراء حكاياته و قصصه و كلماته .. إستطاع بذكاء أن يجذبها من عالمها الذي عرفته منذ الثامنة إلى عالم صنعه لها خصيصا من شباك العنكبوت .. أنهى (عمر) الأسبوع بوداع متحفظ في المطار و نظرة حزن في عينيه جعلها ترتبك و تتلعثم قبل أن يضحك مع غيابها عن عينيه لنجاح الجزء الأول من خطته .. لم تخلق بعد الفتاة التي تستطيع مقاومته إذا أرادها!! .. متعمدا تركها أسبوع بلا أي نوع من الاتصالات كانت هي في خلاله مغيبة العقل كما كانت في لعبتها و لكن هذه المرة في كلماته و قصصه و طريقة حواره تبتسم لحركة عفوية صدرت منه و تضحك لطرفة قالها .. تعزف على الپيانوألحان و نغمات و إيقاع كلماته و طريقة حديثه و هي تطير معها في عالم لا يعرف جاذبية أرضية و لا حدود.

أما هو فعاد إلى حياة الصيد .. مغامرات سريعة .. ليالي صاخبة .. قبل أن يغزو قلبها بمكالمة عبر البحار كانت أول قطرة في بحر أعده لها خصيصا من رسائل البريد الألكتروني (E-Mail) و رسائل نصية و محادثات أينما و وقتما كانت .. حتى قرر نسج الخيط الأخير في شبكته بنطق الكلمة التي أرجفت قلبها فرحا و إنتهت بوضع قيد ذهبي -استدان ثمنه- حول إصبعها.

السفر إلى البلد العربي .. جلسة العائلة و التعارف و إستطاع بلباقته أن ينال إعجاب أمها و أختها .. الاتفاق على التفاصيل لم تكن مشكلة .. خطة للإنتقال إلى نفس البلد العربي و بعلاقات (فرح) أو (رهف) يستطيع الحصول على وظيفة بسهولة .. حفل صغير في بيت (فرح) إبتسم بشدة و هو يضع الدبلة حول إصبع (فرح) مهنئا نفسه على النجاح الباهر لخطته و التي ما زال يجني ثمارها في كل خطوة .. قضى أسبوعا مع خطيبته في نفس البلد إعتذرت خلاله (فرح) عن أية حفلات .. نظرات و كلام معسول مدروس جعل من (فرح) نفسها خاتم آخر في إصبعه .. لكن الأسبوع لم يمر دون خسائر لخطته .. شيء واحد لم يضعه في حساباته أفسد عليه زهوه .. قلبه .. نعم .. إكتشف (عمر) أن له قلبا كبقية البشر و أنه يستطيع أن يشعر بإعجاب حقيقي بفتاة .. إعتاد دائما أن يعمل عقله في أي علاقة كي لا يخطئ حتى أصبحت تلك المضغة في قلبه لا تختلف كثيرا عن خنصري قدميه الصغيرين .. لو تم بترهما لما فقد شيئا يخاف عليه .. لكن الآن و بعد كل تلك السنوات تمرد قلبه عليه و أعلن أنه حي يشعر .. و كيف لا يشعر و تلك الفاتنة تتحرك بقربه تحادثه و يحادثها .. تمازحه و يمازحها .. جميلة كبطلات الأساطير .. رشيقة كالفراشة و مغرية كفاكهة ناضجة (Juicy) لجائع .. (رهف)!! .. ذلك الغزال الطليق الذى لا يقدر أحد على إصطياده .. خفة ظلها و جرأتها و جمالها الذي يعادل (فرح) أو يزيد !! .. جسم رياضي رشيق يزيد من جمالها و جاذبيتها له إغراء جعله لم يستطع منع عينيه عن متابعة ساقيها و هي تلعب مبارياتها في البطولة و لا عن خطف نظرات سريعة لأي جزء يظهر من مفاتنها إذا واتته الفرصة .. مشهورة .. تربح من ممارسة التنس أكثر من (فرح) و حفلاتها المملة .. بدأ يشعر بالندم على إختياره (فرح) ببلادتها و رومانسيتها و موسيقاها الكلاسيكية اللعينة و جسدها الذي لا يسمن و لا يغني من جوع

سافر مع (فرح) و أمها إلى لندن على نفقة المسرح الملكي لاحقين ب(رهف) هناك و حضر معها حفلاتها متعمدا أن يظهر بجانبها في أي صورة أو دعوة .. إستمر في تظاهره و خطته على الرغم من إحساسه بأن إنجذابه نحو (رهف) يزيد مع كل كلمة و دعابة و نظرة .. يدلف إلى حجرته مساءا بعد تبادل الحديث المعسول إياه مع (فرح) و إن أصبح يشعر أنه يبذل مجهودا لكي يستمر في هذا الدور ثم ما أن يختلي بنفسه حتى تملأ صورة (رهف) خلايا مخه و صدره .. يحتضن الوسادة بجانبه و يقبلها واضعا صورته الخيالية -المثيرة- لها على الوسادة حتى أنه حلم بها ذات ليلة حلم لم يكن بريئا مطلقا قام منه غارقا في عرقه -هل هو حقا عرق؟؟- و أفكار جنونية تعصف به .. إلى أن حضر العشاء -الأخير- معهم و قضى الوقت يأكل (رهف) بعينيه و يشرب من كلماتها و مزاحها و فوجئ أنه لا يستطيع أن يجاري -على الرغم من لباقته- سرعة بديهتها و جاذبيتها .. شعر بالنفور و الإشمئزاز من لوح الثلج السمج المتعلق بذراعه .. باهتة بلا طعم أو لون أو رائحة .. حنقه جعله يشرد ببصره إلى ما حوله فوجد تلك الإنجليزية حمراء الشعر في فستانها القصير شبه العاري تحدق فيه مبتسمة .. لم يثر إهتمامه فيها سوى أنه شعر بأنها تشبه (رهف) بشدة !! نسخة حمراء الشعر بعيون زرقاء و نمش إنتشر على وجهها و كتفيها و ذراعيها و جيدها .. حدق بها و هو يقارن بينها و بين (رهف) في الملامح قبل أن يشعر بحرارة يده ترتفع من الألم فتأوه و سحب يده نحوه في حركة لا إرادية ليجد أن (رهف) قد لطمته على يده .. على الرغم من ألمه .. أخذ يمسح على موضع يدها على يده مستشعرا بأن تلك الحرارة المنبعثة هي منحة منها!! .. عاد ينظر إلى (رهف حمراء الشعر ذات النمش) يبادلها النظرات قبل أن يلاحظ أن (رهف) إنطفأت فجأة بعد أن لمحت منضدة يجلس عليها شقراء أمريكية يعرفها كلاعبة تنس مصنفة و رجلان لا يعرفهما –غالبا أمريكيان مثلها- راقبها سرا معتقدا أنها متضايقة من وجودها كمنافسة لها و لكن لفت نظره أن أحد الرجلين كان ينظر إلى (رهف) بتركيز .. أخذ يراقبهما و هو يجاهد لإرغام نفسه على الإستمرار في إمتاع تمثال الشمع الجالس بجانبه قبل أن تقف (رهف) و تذهب للحمام فرأى ذلك الأمريكي الوسيم يقوم و يمشي ورائها -هل يعرفان بعضهما ؟؟- .. قام من مقعده بعدما إستأذن ليلحقهما فجأة وجد أمامه الصهباء تعترض طريقه و تبتسم له و تعطيه غمزة جعلته يتجمد في مكانه وهو يشعر أن (رهف) هي من تغازله الآن .. من حسن حظه أن مقعدي (فرح) و أمها غير مواجهان له .. نظر إليها و إبتسم قبل أن يتحدث معها لدقيقة حصل فيها على ورقة صغيرة برقم هاتفها .. رجع إلى مقعده و عقله شارد أما هي فأعطته إبتسامه أخيرة قبل أن تغادر .. شاهد من مقعده الأمريكي عائدا مبتسما إلى المائدة و سرعان ما عادت (رهف) سائرة نحوهم و هي تنظر إليه ب .. حب!!!! .. نعم عرف تلك النظرة في عينيها فشعر بنيران من الغيرة تعصف به .. لم يستطيع أن ينسجم مع نبتة الصبار الجالسة بجانبه هذه المرة و أخذ يداعب الورقة في جيبه و هو يراقب –في غيظ- الأمريكي يقوم خارجا تاركا الشقراء و رفيقها و تنهي (رهف) العشاء بحجة تناسب طالبة في الثانوية ذاهبة للقاء حبيبها .. لعنة الله على سذاجة و حماقة والدتها التي لم تنتبه إلى ما يحدث مع إبنتها .. بل لعنة الله على الأمريكان جميعا بحماقاتهم و غرورهم و شعورهم الشقراء و أحمقهم الذي حصل على .. على .. على من خفق قلبه لها ..

لم يقل كلمة حتى قاموا و تَرَكُوا المطعم و ركبوا في تاكسي أسود كأفكاره .. نظر إلى (رهف) بغيظ و التاكسي يتحرك مبتعدا به و بخيالاته

- مالك يا (عمر) ؟؟

- مالي ؟؟

- متغير و مش على طبيعتك

والدة (فرح) تنظر خارج التاكسي مغلقة أذنيها عن الإستماع لهما و (فرح) تنظر إليه في حنان و تسأله .. إرضائها و تملقها أصبح كوجبة حامضة مقززة جعلته يشعر بالغثيان فقال في برود جمد الهواء داخل التاكسي

- تعبان شوية ..

- ليه بس مالك .. نشوف دكتور

- -بزفرة كتم صوتها- لا مفيش داعي محتاج بس أريح و بكرة الصبح هابقى كويس

- أنا قلقانة عليك

- ما تقلقيش .. –داعب الورقة في جيبه- الصبح هبقى كويس .. أنا متأكد

وصلوا إلى الفندق فصعد إلى حجرته و لم يكلف نفسه حتي بعناء توصيلهما لحجرتهما .. رفع سماعة هاتف الفندق و أمسك بالورقة في يده .. لدقيقة ظل في هذا الوضع حتي بدأ الهاتف يصدر رنينا منتظما .. شهق و طلب الرقم فأجابه صوت أنثوي خشن قليلا بإنجليزية مدينة نهر التايمز .. عرفها على نفسه فضحكت .. لم تستغرق المكالمة إلا خمس دقائق ثم غادر الغرفة بحذر و ذهب إلى مدخل الفندق ينتظرها .. جائت في سيارة يابانية صغيرة .. قفز داخل السيارة و هو يتأمل ساقيها العاريتين -يشبها ساقى (رهف)- و يقول لها بإنجليزيته المنمقة

- لم أتوقع أن تأتي بهذه السرعة

أشعلت سيجارة و نفثت دخانها في حنكة .. نظرت له -كم تشبه (رهف)- و بإبتسامة واثقة أجابت

- كنت أنتظر مكالمتك

- -بإبتسامة مندهشة- غرور أم ثقة يا ..؟؟

- (كارول) .. كلاهما .. و لا تنكر أنى أعجبتك يا ..

- -نظر بجدية قبل أن يقول مبتسما- الصخرة (The Rock)

- -بضحكة عالية- الصخرة بنفسه .. Wow ... يبدو أنني ربحت في اليانصيب

- و هل يعجبك ما ربحتيه ؟؟

- لم أكن لأنظر إليك لو لم تعجبني .. ملامحك غريبة و وسيمة .. فيها الرجولة الخشنة التي أعشقها -نظرة لعوب على وجهها-

- و لم تهتمي بمن كان معي ؟؟

- أنت نفسك لم تهتم

- -منافقا- لا نفع للمصابيح في ضوء الشمس

في داخله كان يعلم أنه لم يكن لينظر لها و (فرح) معه إلا لأنها تشبه (رهف)

- أحب الرجل سريع البديهة .. إنجليزيتك جيدة .. من أين أنت ؟

- من المريخ

- -بإبتسامة- و أنا من الزهرة .. ما رأيك في الأرض ؟؟

- مكان لا بأس به للقاءات و العلاقات ..

- -إبتسامة لعوب- أي نوع من العلاقات ؟؟

- النوع الذي يوثق صلات القربى بين الكوكبين

- -ضحكة عالية بغنج- أحب الصراحة أيضا ..

- -بإبتسامه مدروسة- ربما أقصد شيئاً أخر ..

- -إبتسامة لعوب إرتسمت على وجهها و هي تنفث دخان سيجارتها- أعرف الرجل الشبق بنظرة واحدة

- من المؤكد أني لم أكن الشبق الوحيد الناظر إليك .. هذا الفستان قد يجعل نصف لندن شبقة

- -ضحكة عالية- و النصف الأخر ؟؟

- سيرجونك لتخلعيه

ضحكت بشدة و نظرت إليه و هي تعض على شفتيها .. أغمض عينيه و نزع عنها الشعر الأحمر و العدسات الزرقاء و النمش فرآها .. همس يناديها -(رهف)- قبل أن ينقض على الشفتين اللتين أرقتاه مؤخرا ليتذوقهما .. أوقفت العربة جانبا في مكان قريب الفندق هادئ تماما و قفزت فوقه و أغرقت وجهه في نسيم من الشعر الأحمر.


  • 1

   نشر في 12 يونيو 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا