دولة الفساد وفساد الدولة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

دولة الفساد وفساد الدولة

  نشر في 27 ماي 2021 .


من الصعب إختزال الفساد في حول الأفراد وربطها بذوي النفوذ والسلطة، فظاهرة الفساد أصبحت جزء من بنية أجهزة الدولة، فلم يعد الفساد محصورا حول ما يتم كشفه من قبل الأجهزة الرقابية أو مثيله مما لم يكتشف، بل إن المكتشف والغير مكتشف ليسا سوى مظاهر للفساد المستشري داخل جهاز الدولة والمجتمع علي السواء. لم يعد مصطلح إستغلال الوظيفة مصطلح مناسب للتعبير عن ظاهرة كهذه، فممارسات الفساد أصبحت مقترنة بالنشاط الوظيفي ونظام العمل ككل. فالفساد لم يعد يمارس في الخفاء. فالخفاء كمظهر من مظاهر إدانة الشئ المخفي، المدان إجتماعيا، أصبح عرفا وممارسة إعتيادية مقبولة من الجميع. وإن كانت ممارسة الفساد تمارس بخفاء عن القانون، فهذا لأن القانون لا يبطق إلا في الحالات التي يتم فيها تجاوز الحد المسموح به، تجاوز قد يشكلا خطرا علي السلطة وعلى النظام الذي يسمح باستمرارية الفساد كجزء من البنية الوظيفية لعمل جهاز الدولة.

إن عرفية الفساد لا يتخذ دلالة واضحة، بل يختفي داخل مسميات مختلفة بديلا عن المسميات ذات الوصف الأخلاقي لممارسات الفساد،( الشاي، الإكرامية، الدخان...بديلا عن مصطلح الرشوة. الوساطة، الصداقة…بديلا عن مصطلح المحسوبية). وتختلف المسميات وفقا لطبيعة العمل المقترن بالفساد، فالعمولة كمصطلح أكثر رقيا من مصطلح الإكرامية، تتوقف فيها على طبيعة الخدمة ومقدمها وطالبها. فالفساد هنا يتخذ شكلا أخر عن مجرد خدمات عارضة. فالدخان والشاي الذي يقدم تحت الطاولة أو في ظرف مغلق، يختلف عن العمولة التي توثق في عقد مكتوب أو تمر داخل بنود أخرى.

إن المسميات التي تختلف دلالتها الشائعة عن ما تحيل إليه بالفعل من مظاهر الفساد (الدخان، الشاى)، للتهرب من أي التزام أخلاقي أو شعور بالذنب. بشكل لاواعي تدين تلك المسميات، المرتبطة ذهنيا بسلوكيات محددة، تحيل بشكل غير مباشر إلى مظاهر الفساد الغير مقبولة إجتماعيا. لكن المسميات التي لا تتخذ طابعا رمزيا، ولا تحيل إلى شئ إلا نفسها (العمولة) تتوقف على علي أن تكون غير مقبولة إجتماعيا. وتصبح جزء من نظام السوق والتجارة والعمل.

وإن كنت موظف قديم وعين موظف جديد، فأنت لا تسأله عن كفأتك أو مهاراته المطلوبة للوظيفة، بل عن طريق من أتيت. فعلاقات القرابة والمعرفة، هى المحدد للمكان الوظيفي والإمتيازات الوظيفية، فنظام التوظيف لا يقوم على الكفأة أو الحاجة بل على المحسوبية كنظام للتوظيف، ويتم توريث بعض الوظائف إستنادا إلى طبيعة هذا النظام أو إيجاد مناصب وأماكن وظيفية جديدة دون الحاجة إليها لسد متطلبات هذا النظام . ومع الكثرة الهائلة فى أعداد الموظفين داخل أجهزة الدولة وقطاعاته المختلفة، تجد توزيع غير متكافئ لذلك العدد، ما بين نقص مقدمي الخدمات المباشرة للمواطنين الجالسون خلف الزجاج، و ما بين الجالسون على المكاتب، الذي لا يفعلون شيئا طوال اليوم سوى الإمضاء على ورقة أو ورقتين و ختمها، ومع ترقيات غير مطلوبة لمديري الإدارة والمديرين العمومين، يتحول الفساد ليصبح شيئا فشيئا نظام مقنن، متولد عن فساد طبقي وإمتيازات إجتماعية لصالح فئات محددة.

لا تتعدد أشكال الفساد وفقا للشروط وطبيعة العملية المتضمنة الفساد، بل أيضا وفقا للأوضاع الطبقية والإجتماعية. فنظام المحسوبية بالنسبة لذوي النفوذ والثروة يختلف عن الذين يأخذون المال مقابل خدمة أحد ما أو متحسب لأحد ما. فالأول الذي يمارس محسوبيته لا يعتبر أمر مشين بل هو دليل حظوة وإمتياز يحظى بها الشخص المعطي، فهو لا يقدم إحسانا لغيره، بل يقدم تعظيما لنفسه يثبت بها قوته ومكانته بين الأشخاص الطالبين لوساطته أو خدمته. فالبنية الإصطلاحية والتعبيرية في الكلام، تشكل رؤيتنا كأفراد وجماعات حول الشئ موضع الممارسة. فالإصطلاحات وطرق التعبير ليست خيار بل يحددها السياق، الذي يفرض بعض الإصطلاحات والتعبيرات ويستبعد البعض الأخر. فالمكانة الوظيفية والثروة إحدي المحددات التي تغير من نظرتنا ومعاييرنا العامة التي نقيم بها الفساد. فأحكامنا علي مظاهر الفساد لم تعد تعتمد على قيم عامة مجردة بل على الموقف الذي يمارس فيه الفساد. فإزدواجية أحكامنا تكشف تحيزنا الطبقي والسياسي، فما قد يصبح مقبولا من الطبقات العليا، يصبح محتقرا من الطبقات الدنيا والفقيرة رغم إشتراك الطبقة الوسطى والعليا في عملية الفساد ذاته ، وما قد يصبح مبررا لدي طرف سياسي، يصبح بغيضا لدي طرف نمتلك معه عداوة مسبقة. فالعلاقة بين السياق والكلام، علاقة جدلية، فالسياق موضع ممارسة الفساد يفرض علي الشخص الذي يعد طرفا في السياق أو خارجا عنه، صيغ كلامية تطلق أحكامها وتوصيفاتها على أفعال الفساد.

الفساد كنتاج لنظام الرقابة والسيطرة

لقد تأسس الجهاز البيروقراطي في الأصل كجهاز للسيطرة والرقابة، يراقب تحركات الأفراد وينظمها، بناء على أغراض السلطة السياسية و أيدولوجيتها الحاكمة. ورغم أنه تم تنميط الجهاز البيروقراطي وتحويله إلى ألة الضخمة تفتقرإلى الروح ولا تكترث للمسائل الأخلاقية والعاطفية كون الألة بطبعها حيادية ، وإن كان الموظف نفسه إندمج مع صيرورة عمل الألة البيروقراطية وتنمط بتنمطها وفقد قدرته على الإنتاج والإبداع. فإنه لم يندمج بشكل كلي مع الألة، وأن إندماجه مرتبط بمحدداته الوظيفية، دون أن تبتلعه الوظيفة أو تسيطر عليه، فهو مدرك لطبيعة عمل الوظيفة ومدرك لشخصه، ليس كذات مستقلة ومتحررة، بل كذات تعلق مصيرها وأمالها بالوظيفة ومدى قدرتها على تحقيق أكبر إستفادة ممكنة من الوظيفة. إن الطبيعية الرقابية والسلطوية للنظام البيروقراطي، تجعله يفتقر إلي الإنجاز والكفاءة، ويتحول إلى جهاز معطل للحياة. ولا يصبح الفساد صناعة خاصة وممارسات داخلية خاصة بجهاز الدولة والنخبة الحاكمة فقط، بل يصبح حاجة ضرورية للمواطنين، تفرضه مشاغل الحياة. وما يفرضه الجهاز من رقابة وسيطرة يخضع لها المواطنين دون تعطيل لممارسة حياتهم اليومية. ويتحول الفساد إلى بنية ثقافية للمجتمع ككل. فساد جهاز الدولة والعاملين فيه كإمتداد لفساد النخبة الحاكمة. فساد المواطنين للفكاك من البيروقراطية المعطلة اللاعقلانية، وإنتفاع الموظفين من فوضوية تلك البيروقراطية والتكسب من خلالها. ومع تدني مستوى الدخول والتوزيع الغير العادل للدخل بين الأجهزة المختلفة، يتحول الفساد ليصبح فعلا مشروعا، مع إستمرارية الوظيفة الأساسية للجهاز وهى السيطرة والرقابة لصالح النخبة الحاكمة.

إن البيروقراطية كنظام للرقابة والسيطرة وكآلية عمل تساعد على إستمرارية الفساد. والفساد ذاته كممارسة تتسم بالمرونة، قادرة على التكيف مع لاعقلانية تلك البيروقراطية الصماء. وهذا التكيف لا يتناقض مع قدرة البيروقراطية على تحقيق الدقة والإنضباط. ورغم أن الدقة والإنضباط كنظام رقابي، يفترض فيه قدرة أكبر على رقابة أفعال الأفراد ومنع الفساد، إلا أن تلك الدقة والانضباط مختزلة في الأوراق. الأوراق كنظام لتصنيف الأشخاص والجماعات ووضع علامات عليهم، للسيطرة عليهم والتحكم فيهم، تتحول لتصبح معيار ذاتي للحقيقة ولمعرفة الصدق والكذب. فالأوراق ليست علامة على ماهية الشخص فقط بل هى المحددة لوجوده. والتصنيف داخل حزمة الأوراق لا تستند إلى الواقع الحقيقي، بل هي توجد واقعها الخاص، تنفي فيه الواقع الحي المشاهد. فخطأ ورقي صغير قد يغير مصير شخص أو يحدد مستقبله بل حتى تستطيع التحكم في ماضيه. فوجود الشخص، حياته، الأشياء التي لم توجد والأشياء الموجودة، كل الحقيقة والوجود تختزل داخل حزمة من الأوراق.

والأوراق المحددة لحقوق الأشخاص وإلتزاماتهم، تصبح وسيلة إبتزاز في يد المتحكم فيها. وبما أن الأوراق هي المرجع الأهم والرئيسي للحقيقة، يتحول صانعها إلى تاجر في سوق السوداء، يبيع الحقيقة لمن يدفع أكثر. وتصبح أداء الخدمات وتقرير الالتزامات والحقوق، معتمدة على القدرة الشرائية للأفراد، أو مناصبهم ومكانتهم الإجتماعية في المجتمع. فالأداء الوظيفي لأجهزة الدولة ليست حيادية تجاه الجميع، ففساد تلك الأجهزة يقوم على خدمة أصحاب الثروة والنفوذ. أما الباقي فإما معدمين ليس لهم أي حقوق أو طفيليون يعيشون على ما يقدمه أصحاب الثروة والنفوذ من فتات. والموظف البيروقراطي يتحول إلى أكثر المقتاتين، فوظيفته غالبا ليست سوى حماية لفساد هؤلاء الفئة من أصحاب الثروة والنفوذ.

خطاب الفساد وعلاقته بالنظام الطبقي

إن الفجوة الضخمة بين الحاكم والمحكوم، وبسبب فساد النخبة الحاكمة وإفتقادها إلى أي شرعية شعبية. فتكون قدرتها على إستخدام العنف والإرهاب هى الضمان الوحيد لاستمرار بقائها في السلطة. وأجهزة الدولة كأداة ضرورية للعنف. يمثل الموظف داخل تلك الأجهزة مستخدم بفتح الدال ومستخدم بكسر الدال، مستخدم من قبل النخبة الحاكمة لضمان سيطرتها واستمرارها، ومستخدم لسلطته الوظيفة لتحقيق مكاسب بالخروج عن الأطر القانونية المحددة لطبيعة الوظيفة. فالموظف يدرك أن فساده ليس فعلا إستثنائيا أو خطيرا قد يعرضه للعقاب، فهو مدرك أن فساده ليس إلا إمتداد لفساد النخبة الحاكمة.

وجهاز الدولة يستقل بدرجة ما عن ما يحدث من تحولات سياسية أو أزمات داخل السلطة السياسية، فهو حيادي اتجاه أي صراع أو إستقطابات سياسية، طالما أن أطراف النزاع ( وهو عادة نزاع هادئ وخفي وغير مؤثر على عمل أجهزة الدولة واستمرارية الفساد ) ينتمون إلى ذات البنية المؤسسة لعمل جهاز الدولة وطريقة تفكير أفراده وأساليبه المعتادة ( الجهاز العسكري تحديدا ). في المقابل فإن أجهزة الدولة تظهر عدائية شديدة تجاه خطاب مغاير يعارض الخطاب الرسمي للدولة. خطاب يميل إلى نزعة محافظة دينية وسياسية، يتمحور حول صيغ عمومية غير متعلقة بموضاعات بعينها أو ظواهر إجتماعية معينة. وهو يعمل على فصل خطابه عن نظام عمله وعن النظام الإجتماعي ككل، فطبيعة خطابه تختزل الفرد حول نفسه وتعزله عن محيطه الإجتماعي. فالمشاكل الإجتماعية للفرد، فقره، جهله، سلوكياته وعادته، فساده، ليست سوى نتاج لفرديته واختياراته. وهو في النهاية يحمل الأفراد مسؤولية مشاكلهم وبؤسهم. وهو يميل ويشجع النظرة الدينية المحافظة التي تجعل النظام الطبقي نظام طبيعي وقدر إلهي، ومن مقتضيات الإيمان أن يقبله الجميع، الغني والفقير، القوي والضعيف.

وفي عدائيته لأي خطاب يرفض طبيعية وقدرية الوضع الإجتماعي أو طبقي أو يرفض عزل الفرد عن محيطه الإجتماعي، يعمل دائما على إستحضار الماضي كنموذج مثالي للأخلاق والدين. ليس الماضي البعيد بل الماضي القريب، من أجيال الأباء والأجداد، متجسد في بعض المظاهر السلوكية والعادات الإجتماعية، يعبر عنه في تعبيرات عمومية بسيطة ( الرجولة، الأمومة، إحترام الكبير…). إنه خطاب يتعالى على التاريخ وعلى طبيعته المتغيرة، ويحتكر الصواب والخطأ وصحة الدين والطبيعي والغير طبيعي في تعبيرات أيضا عمومية ومختزلة (الدين السمح، الدين الوسطي، الفطرة السليمة…). فما يظهره خطابه من سلطوية أخلاقية ودينية يتماهى فيهما مع السلطوية السياسية ليست سوى حماية لمواقعه وإمتيازاته الإجتماعية، ويعادي أي خطاب يدعوا إلى القضاء على الفساد كظاهرة إجتماعية وسياسية وليس حالات فردية قد يهدد موقعة الوظيفي، ويتحول كل مظهر من مظاهر التغيير إلى فتنة وفوضى سلوكية تستوجب معها إستخدام القوة والعنف.

والفساد الذي يمارس يوميا ويعد جزءا من البنية الوظيفية لنظام العمل داخل أجهزة الدولة. لا يمكن القول أنه ليست له توابع أو نواتج سياسية وكارثية. ولكن كل كارثة تكتفي الدولة أن يتحملها المسؤول المباشر، الذي لسوء حظه وجد في مكان الجريمة، المسؤولة عنها الدولة ككل وبنيتها الفاسدة. أو تقوم الدولة في حالة من الشوفينية بخلق عدو وهمي، أصحاب دين أو مذهب، جماعة عرقية، أو تيار سياسي معارض. وتحميلها كافة الكوراث الناتجة عن الفساد. عدو له وجود متعين، لكنه يعمل بشكل خفي غائب الأنظار. وأي مطالبة بالإصلاح ومحاسبة الفاسدين، هو إنحياز ودعم لذلك العدو الوهمي في مقابل إستقرار البلاد وأمنها. ومع إنتشار الفساد وتفشيه، يزيد مدى الاستقطاب السياسي والمذهبي، كغطاء لفساد النخبة الحاكمة وأجهزتها السلطوية.

إن أي خطاب يدعوا للقضاء على الفساد ويعلق دعواه على نخبة سياسية متسلطة من رحم الجهاز الدولة نفسه وبنيته الفاسدة ليست سوي سذاجة. إن القضاء الفساد مرهون بتغيير سياسي وجذري بما يضمن تقليل السلطة المركزية لتلك الأجهزة وطبعها التحكمي، ورقابة شعبية مستمرة وحقيقية على عمل تلك الأجهزة، وقطيعة مع الأنظمة السلطوية بمظاهرها وأشكالها المختلفة، والنظر إلى مراكز القوة والثروة في المجتمع وإعادة توزيعها. فالفساد المتغلغل داخل المجتمع والثقافة يحتاج إلى مدى طويل لإنهائه يحتاج إلى ثورات وإجراءات عاجلة على المدى القصير في المجال السياسي والإقتصادي، والتشريعي، والتعليم.



   نشر في 27 ماي 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا