سماء نصف غائمة.. أوراق شجر ملونة تبعثرها الرياح.. رائحة المطر .. و قطرات صافية تتساقط من شفاه الأوراق الندية..
فتحت نافذتها المطلة على الحديقة الخلفية و هي تتامل بهاء الخريف في ساعات الصباح الفتية.. تحتضن كوب قهوة ساخنة بيدها.. و تعرف تماما اين يوجد قلبها.. لكنه العقل الذي يسرح منها في مكان اخر.. في الماضي السحيق الذي يختفي و يظهر كومضات في الذاكرة..
و تحمله اليها المواسم و الأعياد و الفصول فيما تحمله رائحة الايام من ذكريات..
لم يخرج بالها من سفره المؤقت الا جلبة تنبهت لها في إحدى الزوايا..
ايكون ارنبا برياً؟ او ربما تلك الطيور الشقية التي تتقافز على أغصان اشجار الورد..
ثم ترامى الى اسماعها صوت ضحكات .. و أقدام تدب بسرعة خاطفة .. ساورها الخوف..
ترى من يكون؟
ايكون لصا؟ في وضح النهار ؟معقول؟ و لم لا.. ربما تركت باب الحديقة الخلفية مفتوحا في الليلة الماضية..فما كان منه إلا ان تسلل إليهم ليلاً و تربص بهم حتى يغادر الجميع في الصباح ..
مئات التحليلات و التساؤلات مرت في سرعة البرق في ذهنها..
مدت يدها لمضرب بيسبول كان على مقربة منها و قررت ان تغامر و تخرج له.. لم تعد تحتمل التكهنات.. توجهت الى الركن الذي تأتي منه الاصوات.. و كانت صدمة كبيرة اخرستها..
وجدت طيفا صغيرا لطفلة تلعب مع أخيها الصغير بالاوراق المتساقطة .. و على مقربة منهما حقائب مدرسية و حافظة مياه على شكل كرة ..
كم تشبهها تلك الطفلة بوجهها الصغير و شرائط شعرها البيضاء ..
كم يشبه الطفل اخاها الصغير بشقاوته و عينيه الواسعتين ..
ها هما يصرخان و يلعبان و يضحكان تارة .. و يغضبان من بعضهما تارة اخرى.. و يتوعد أحدهما الاخر باخبار ماما حين تعود من العمل بشقاوة كل منهما.. ثم يقطع اصواتهم العالية صوت اخر يناديهما.. و يركضان باتجاهه.. يبدو الصوت مألوفا هو الاخر..
تتبع الصغيرين بعينيها الى حيث يركضان باتجاه الصوت .. لتكتشف طيف جدتها و هي تدعوهم للكف ع اللعب و اخذ حقائب الغداء قبل الذهاب للمدرسة..
ترى كيف قفزت اطيافهم من ذكرياتها الى قلب حديقتها؟؟
اووه انه موسم المدارس و دفئ العائلة و الذكريات.. موسم الكتب و حكايات الجدة و حضن الام و شرائط الشعر الملونة..انه موسم المستقبل الكبير و الاحلام الصغيرة.
كم تمنت لو تمطر الطفلين بالقبلات و توصيهم بالفرح .. فالطفولة قصيرة و جميلة و دافئة.. و العمر مرير و قاسٍ و بارد ..
لكنها لم تستطع..
لم تستطع أخبارهم انهم سيكبرون و ستتغير أحلامهم و ترحل جدتهم و يصبح كل منهم في مكان..
لم تستطع أخبارهم ان كل هذه الذكريات ستختزلها بطاقة تهنئة إلكترونية في المناسبات.. و ربما يحول ضيق الوقت عن تبادلها..
لم تعرف ماذا تقول.. و عندما عرفت لم ترغب في ان تقول اي شيء..
لكنها شعرت برغبة ملحة في البكاء..
ثم جلست تبكي و تبكي حتى اختفى الطفلان وراء دموعها.