أصبحت الأزمة الأوكرانية في الآونة الأخيرة من أكثر المواضيع شيوعاً على الساحة الدولية ،حيث أن ما أدى إلى شيوع هذه الأزمة هو التدخل العسكري الروسي الذي لا يمكن تجاوز الحديث عنه لاعتبار الأمن في أوكرانيا متغير تابع لاستقرار الأمن القومي الروسي مباشرة ،و لهذا و من خلال متغيّرات القوّة السياسية كانت أو الاقتصادية و حتى العسكرية حاولت روسيا لعب دور اقليمي أهلها لتكون قوة لا يستهان بها في المنطقة الأوراسية ككل.
أدى تحول الرهان السياسي بين الفواعل المتنافسة حول الجغرافيا الأوكرانية إلى صراع عسكري حول المنطقة ومنه تحوّلت الأزمة الأوكرانية من جيوسياسية إلى جيوستراتيجية ،حيث أصبحت تشكل ساحة صراع للأطراف الدولية من أجل المصالح ،حيث أدى هذا التصعيد من قبل روسيا إلى اشتداد الأزمة و بلوغها الأوج إذ تم استعصاء الحلول السياسية و الدبلوماسية و خير دليل على ذلك الانقسام الذي حدث في 2014 و تمخض عنه انضمام القرم إلى روسيا عن طريق استفتاء شعبي تلاه تحول الدونتسك إلى جمهورية ذاتية الحكم.
ما حدث و لازال يحدث في أوكرانيا ترجم المنظور الواقعي إلى حدّ ما في محاولة الولايات المتحدة الأمريكية إقصاء أي دور اقليمي لروسيا في المنطقة الأوراسية من جهة ،و فسر الدور الفعّال لروسيا و التأثير البالغ لها على الطرفين الأوروبي و الأوكراني من جهة أخرى ،إذ تمخض عنه التجنب الجديد لأي حالات صدام مع روسيا و هذا ما أدى إلى المفاوضات في قمّة المينسك بين القوى الكبرى في أوروبا و الطرف الأوكراني مع روسيا كمحاولة التوصل إلى حلول دبلوماسية للأزمة .
تزامنت الأزمة الأوكرانية مع أحداث دولية اخرى يمكن القول أنها تكتسي من الأهمية ما اكسبته إياها الوسائل الاعلامية ،فقد سبقت الأزمة مجموعة من التحولات السياسية التي بلغت ذروتها في الدول العربية و شكلت ما يسمى "بالربيع العربي" ،أضف إلى ذلك الثورة القائمة بهدف الاطاحة بنظام الأسد ،ناهيك عن الأوضاع في اليمن و المجموعات الارهابية التي سمت نفسها بالدولة الاسلامية في العراق و الشام "داعش" ،فهناك من يفسر أن حالة اللاأمن في المنطقة العربية هي المتغير المستقل للاحتجاجات الأوكرانية ضدّ نظام يانوكوفيتش ،و البعض الآخر يعزي الظهور المفاجئ لداعش تزامنا مع الأزمة الأوكرانية كحليف استراتيجي- خاصة بعد سيطرته على العديد من آبار النفط و البدء في عملية البيع و التجارة- للولايات المتحدة الأمريكية لينوب عنها في المنطقة العربية بين الدول الفاشلة لتهتم هي بمصالح أكثر أهمية و هي مواجهة المدّ الروسي نحو أوروبا الشرقية من جديد.
العديد من خبراء و علماء السياسة أكّدوا استحالة عودة روسيا كقطب منافس للولايات المتحدة الأمريكية كما كانت عليه إبان الحرب الباردة و ذلك للتفوق الأمريكي خاصة الاقتصادي و العسكري عالمياً ،في حين يعاني الاقتصاد الروسي و المؤسسات المالية الروسية من انخفاض خطير سواءاً على مستوى أسعار النفط أو العملات (الروبل) جراء العقوبات التي أثقلت كاهل روسيا الاتحادية نتيجة التدخل عسكريّا في الشأن الأوكراني.
الدور الروسي في المنطقة الأوراسية سواء باستخدام حق الفيتو بخصوص الشأن السوري و الموقف من التدّخل العسكري في ليبيا قبلاً و لحقتهما الأزمة الأوكرانية لم يترجم إلا محاولة روسيا لتوسيع النفوذ و إقناع الدول المجاورة و المنافسة بالوجود الروسي في المنطقة و قدرتها كدولة على بلوغ مكانة اقليمية يمكن الاعتماد عليها في حل المشاكل الشائكة في أوراسيا كالملف النووي الايراني ،الملف السوري...إلخ.. إلاّ أن رسم السياسة الدولية الأمريكية و خططها الاستراتيجية يحول دون ذلك ،فهي ترى فيه بداية التوسع و النفوذ بغرض المنافسة و هذا ما لا ترضى به الولايات المتحدّة الأمريكية على المديين البعيد و القريب.
إلاّ أن و رغم المحاولات الأمريكية-الأوروبية لردع روسيا و الحدّ من نفوذها و تأثيرها على الاقليم الأوكراني ،إلاّ ان روسيا نجحت في التوسع جنوبا و على مستوى الجنوب الشرقي الأوكراني من جهة لوجود أكثر من خلفية تحكم العلاقة الروسية-الأوكرانية (جغرافية ،تاريخية ،ثقافية) و هذا ما رفع من الحظوظ الروسية في المنطقة على حساب الحظوظ الأوروبية-الأمريكية ،و من جهة أخرى تشكل روسيا بؤرة مهمّة و مؤثرة في المنطقة الأوراسية بالنسبة للسياسة الأمريكية ،إذ تحتاج إليها هذه الأخيرة في العديد من الملفات العالقة في المنطقة و لهذا تجنبت الولايات المتحدّة الأمريكية الاقصاء المباشر لاحتساب ردود الأفعال الروسية و المصالح الأمريكية في المنطقة.
مازالت الأزمة بين مدٍّ و جزر عالقة بين أقوى الإرادات الوطنية (روسيا،الاتحاد الأوروبي ،الولايات المتحدّة الأمريكية) ،و قد استعصت الحلول السياسية و الدبلوماسية إذ يشير البعض في سيناريوهات مستقبلية إلى تواصل الانقسام داخل أوكرانيا ،في حين يرى البعض استحالة حصول مواجهة مباشرة بين دولتين نوويتين ،لهذا تم ترجيح الحلّ السياسي لجميع الأطراف بطريقة دبلوماسية و مجموعة أخرى ترى في ضرورة خضوع الطرف الروسي-نتيجة العقوبات الاقتصادية-إلى المصالح الأمريكية الأوروبية.
تواصل المشهد الأوكراني بنفس الوتيرة و صعوبة حل الأزمة بين أطراف لا يستهان بها على الساحة الدولية يترجم لعب الجغرافيا دوراً هامّا في تحريك الصراع و تأجيجه ،إذ لولا الأهمية التي يكتسبها الاقليم الأوكراني من الجانبين الأمريكي و الأوروبي من جهة و الروسي من جهة أخرى لحُلّت الأزمة بتدخل عسكري يُنهي هذا التصعيد كما كان الحال في العديد من الدول.
اعتمد تحليلي على سيناريوهات مستقبلية الأزمة الأوكرانية ،كمحاولة منّا لمعرفة ما ستؤول إليه الأوضاع وفق متغيرات واقعية و علمية ،إلاّ أنه يمكن في حالة دخول متغيرات جديدة و معايير أخرى حدوث تغير في مسار الأزمة الأوكرانية ،لهذا قد يساهم هذا العمل في طرح تساؤلات جديدة حول الأزمة الأوكرانية.
-
Nabila Chorfiأكتب..لأفهم المعنى