السلطة و تشكيل الرأي العام .. مصر نموذجا (1952-1981) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

السلطة و تشكيل الرأي العام .. مصر نموذجا (1952-1981)

إعلام

  نشر في 18 يناير 2016 .


تعد دراسة ظاهرة الرأي العام أحد الميادين الرئيسية لعلم السياسة، و عادة ما تندرج ضمن "آليات الحياة السياسية". ففي مؤتمر نظمته اليونسكو عام 1948 م لتحديد موضوعات هذا العلم، تم تحديد الأخيرة بأربعة موضوعات أو فروع رئيسية هي: النظرية السياسية، و النظم السياسية، و الأحزاب السياسية و جماعات المصالح و الراي العام، و العلاقات الدولية.

و تزداد أهمية الرأي العام و دوره سواء في النظم الديمقراطية أو غيرها، مع زيادة أهمية المواطن العادي في عملية صنع السياسة، إذ أن أي مجتمع سياسي في الواقع المعاصر، و بصرف النظر عن طبيعة نظامه السياسي، يحاول أن يرضي بل و أن "يتملق" هذا الرجل العادي، مما يجعل الأخير أحد عناصر (مدخلات) عملية صنع السياسة و لو في الأمد القصير.

تعريف الرأي العام و طبيعته و خصائصه و مقوماته

تعريف الرأي العام

لا يوجد تعريف عام واحد لمفهوم الرأي العام Public Opinion يقبله الجميع، بل توجد محاولات عديدة لتعريفه. و قد يكون من الأفضل عند تعريف هذا المفهوم المركب تعريف مكونَيه كلٍ على حده، ثم جمعهما في تعريف واحد يشمل المفهوم كله:-

1. يقصد بالرأي: وجهة نظر معينة تجاه مسألة أو مشكلة مثارة طابعها الجدل و المناقشة عبر عنها خارجيا بألفاظ أو رموز أو غيرها مما يسمح بفهم الحقيقة المعلن عنها. و بهذا المعنى، فإن مصطلح "رأي" يفترض وجود مسألة مثيرة للجدل و النقاش و تتعدد بخصوصها وجهات النظر المعبر عنها علانية ، و لهذا ينظر السلوكيون إلى الرأي كحقيقة سلوكية "سلوك قولي".

و تجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى ضرورة التمييز بين الرأي و كل من الإتجاه أو بالأحرى التوجه Attitude و الحكم Judgment. فالإتجاه يعني الإستعداد المسبق لدى الفرد (نتيجة خبراته و تجاربه الذاتيه السابقة) للتصرف بطريقة معينة إزاء موقف أو مشكلة معينة لم تتحدد بعد، أي أنه يعني إحتمال إستجابة الفرد على نحو معين لو وضع في مواجهة موقف ما لم يتحدد و لم يتبلور بعد. و لهذا يختلف الإتجاه عن الرأي في أنه لا يتطلب وجود مشكلة قائمة، كما أنه كاستعداد نفسي لا يتطلب الإفصاح عنه على عكس الرأي الذي يتطلب هذين العنصرين معاً (المشكلة و التعبير العلني عن وجهة النظر)، و الإتجاه أكثر استقراراً و ثباتاً من الرأي لأن الرأي (سواء الخاص أو العام) يتصف بالتقلب و سرعة التغيير. و لا ينفي ذلك وجود علاقة بين الرأي و الإتجاه، حيث يمكن الإعتماد بدرجة ما على الرأي في قياس الإتجاه. ذلك أن الرأي يعكس عموماً "استعداداً معيناً للسلوك"، أي أنه يمكن أن يقدم مؤشرا لوجود اتجاه معين لدى افرد. فسؤال شخص ما عن رأيه في موضوع معين كتنظيم النسل و إجابته بتأييد هذه المسألة يعني أن لديه استعداداً معيناً لتقبل هذا السلوك أو أن اتجاهه إيجابي نحو هذه المسألة. و بطبيعة الحال لا يعني ذلك حتمية وجود تطابق دائم بين الرأي و الإتجاه، حيث أثبتت الأبحاث الميدانية أن نسبة الانتقال من السلوك القولي (الرأي) إلى السلوك الفعلي (نتيجة الاتجاه) تقل عن (50%). و لكن يمكن - بالإستناد إلى تحليل علمي رصين لقياس الإتجاه - أن يشكل الرأي علامة على وجود الاتجاه. و يختلف أيضاً الرأي عن الحكم، و إن لم يمنع ذلك من وجود علاقة ما بينهما، و يظهر هذا الإختلاف في ناحيتين على الأقل:

a. إن الرأي في العادة يرتبط بوجهة نظر لا تفترض عمقاً و لا تحليلاً عميقاً و لا مناقشة جادة لمختلف جوانب المشكلة و وجهات النظر العديدة المطروحة بشأنها. و على عكس ذلك، يفترض الحكم أن يأتي نتيجة لتحليل دقيق و عميق و مناقشة مختلف جوانب المشكلة و تقييم و وزن وجهات النظر المؤيدة و المعارضة قبل الوصول إلى الحكم و إعلانه. و يعني هذا أن الحكم يفترض أكثر من رأي واحد، و أنه ينتهي لو أعلن عنه بأن يصير بدوره رأياً.

b. إن الرأي، كما سبق القول، وجهة نظر معلنة، أي يتم الإعلان عنها بألفاظ و رموز لنقلها من "حيز الباطن" إلى العالم الخارجي. و لا يفترض في الحكم عنصر الإعلان هذا، سواء تعلق الأمر بحكم الفرد على مسألة خاصة أو عامة. فمن الممكن تصور شخص ما يحكم حكماً معيناً على شخص أو آخر أو جماعة أخرى أو موقف معين، و لكنه لسبب أو لآخر لا يفصح عن ذلك الحكم و قد يعلن عن رأي مخالف أو متعارض تماماً مع هذا الحكم (كما هو بالنسبة إلى ما يتصف بالنفاق أو الرياء في علاقاته الإجتماعية أو علاقاته مع رؤسائه).

2. ينصرف مصطلح "عام" إلى ثلاثة معان أساسية هي:

a. يعني "العام" بمنطق المخالفة ما لا يعد خاصاً، أي أنه لا يتعلق بالوحدة الذاتية (الفرد) بل يتعلق بالوحدة الكلية أي ما يرتبط بالجماعة أو المجتمع، و بذلك تصبح العمومية مصدرها المجتمع أو الجماعة التي يعبر عنها الرأي. و من هنا نتحدث عن "المصلحة العامة" أو "المال العام" أو "الطريق العام" أي المصلحة غير الخاصة و المال غير الخاص .. الخ.

b. يقصد بمصطلح "عام" ما هو مشترك بين مجموعة من البشر أو بين أغلبية أعضائها، مما يجعل المشاركة مصدر العمومية. فيقال مثلاً أن الكرم لدى العربي صفة عامة، بمعنى أن هذه الصفة تتوافر بدرجة أو بأخرى في كل أو في أغلب من ينتمى إلى الأمة العربية.

c. و أخيرا يقصد بهذا المصطلح العلانية، كأن يقال أن فعلاً أو أمراً معيناً أضحى "فضيحة عامة" بمعنى أنه معروف أو في حكم المعروف من الجميع. و عنصر العلانية هذا، و كما سيتضح لاحقاً، من أهم العناصر الواجب توفرها لكي يصبح الرأي عاماً.

3. إن الرأي العام، في ضوء التعريف السابق لمكونيه، يمكن أن يعرف بأنه وجهة نظر معلنة للجماعة أو المجتمع - أساسها تكامل آراء الناس و ليس مجرد تجميعها حسابياً - تجاه مسألة عامة مثارة طابعها الجدل و المناقشة و اختلاف و تعدد الآراء.

خصائص الرأي العام:

في ضوء التعريف السابق لمكونيه، يمكن تسجيل الملاحظات التالية بشأن أبرز الخصائص الرأي العام:

1. الرأي العام ليس برأي خاص لأنه لا يقتصر على فرد واحد. فالرأي الخاص هو رأي الفرد في مسألة تخصه وحده و لا تتعداه ( كأن يرى شخص أن يتناول طعامه لأن ميعاد تناوله قد حان، و آخر يرى عكس ذلك لأنه لا يزال يشعر بالشبع). أما الرأي العام فيتصل بالمجتمع ككل و ينبع منه و يتعلق بمشكلة عامة تتعدد بشأنها وجهات النظر و المناقشات.

2. الرأي العام يقتضي عنصر العلانية. و بدون هذا العنصر لا تنطبق على الرأي العام صفة العمومية حتى و لو توفر العنصران الآخران للعمومية أو أحدهما، ففي هذه الحالة يظل الرأي رأياً فردياً (كحالة شخص منعزل في حجرته يقرأ خطاباً لرئيس الدولة أو ملكها و ليكن متعلقاً بمصير المجتمع ككل، و عبر عن رأيه في هذا الخطاب بجميع وسائل التعبير قولاً و كتابةً دون أن يعلن رأيه للآخرين في المجتمع، فهذا رأي خاص و إن ارتبط بمشكلات عامه).

3. الرأي العام يعبر عن موقف مشترك يشترك فيه أو يتفق عليه أغلب أعضاء المجتمع. و بالتالي فإن الرأي، و لو كان خاصاً أي يرتبط بمسألة خاصة كتنظيم النسل و غيرها، متى انتشر في المجتمع و تبناه أغلب أفراده أو على الأقل جزء كبير منهم، يصبح هذا الرأي رأياً عاماً بحكم هذا الانتشار.

4. إن صفة العمومية في إطار الرأي العام لا تتعارض بأي حال من الأحوال مع احتمال وجود آراء معارضة تخالف الرأي العام ما دامت لا تصل في اتساع الاتفاق عليها أو المشاركة فيها إلى مستوى الشمول الذي يبلغه الرأي العام. و في أي عملية استطلاعية للرأي العام بخصوص أي مشكلة أو أي قرار، عادة ما تنتهي إلى إدراج فئات الرأي العام في ثلاث فئات أو شرائح أساسية هي:

a. فئة "موافق" أي متقبل للقرار السياسي المحتمل أو الصادر بالفعل، بدرجات مختلفة من الموافقة و التأييد.

b. فئة "غير موافق"، أي معارض أو رافض لهذا القرار، بدرجات مختلفة من الموافقة أو التأييد.

c. فئة "لا يعلم" أي من لا يستطيع أن يتخذ قراراً بالموافقة أو عدمها أو من لا يهتم بالقرار أو المشكلة، أو بعبارة أخرى من لم يكون رأياً محدداً بعد إزاء القرار أو المشكلة.

5. إن افتراض بعد علماء السياسة أن ظاهرة الرأي العام في المجتمعات النامية أو المتخلفة تعاني من اختلال في حجم الشرائح المعبرة عنها على نحو لا تعرفه المجتمعات المتقدمة اقتصاديا بحكم المشكلات المرتبطة بتخلف الأولى (كالجهل و الأمية و الخوف من السلطة)، هذا الافتراض قابل للمناقشة. صحيح أن هذا الإختلال موجود بالفعل في المجتمعات المتخلفة حيث تضعف كثيراً شرائح الرأي العام المعتدلة، أي المعبرة عن الاعتدال بمعنى الموقف الوسط بين القوى و الشرائح "المتطرفة" المعبرة عن أقصى التأييد أو أقصى المعارضة، خصوصاً مع ضعف أو غياب الطبقات و القوى الإجتماعية الوسطى المعبرة عن الاعتدال في ظل انقسام هذه المجتمعات إلى قوي و ضعيف و غني و فقير و حاكم و محكوم، إلا أن ذلك لا يعني التسليم بالضرورة بأن المجتمعات المتقدمة تعبر عن توازن أو "توزيع طبيعي" لهذه الشرائح.

خصائص أخرى للرأي العام

إضافة إلى الخصائص سالفة الذكر، يتصف الرأي العام أيضاً بخصائص أخرى من بينها:

1. السطحية و عدم - أو ضعف - العمق، و هو ما يعتبره بعض علماء السياسة سمة مميزة للرأي العام في المجتمعات المتخلفة نتيجة عوامل مرتبطة بالتخلف من قبيل الجهل و عدم الثقافة (الثقافة في جوهرها قدرة على تقويم المواقف و الحكم عليها من جانب الفرد من منطلق قيم و مفاهيم و مدركات واضحة)، و الخوف من السلطة و من كل ما له صلة بالسياسة، فضلاً عن انغماس الأغلبية الساحقة من السكان في مشكلات الحياة اليومية التي لا تترك لهم ما يلزم من وقت و طاقة لإهتمام و لو بمتابعة المشكلات العامة.

و تتعين الإشارة مجدداً إلى أن هذه الصفة تميز أيضاً الرأي العام في المجتمعات المتقدمة، و إن كان المعبرون عنها يقلون من حيث الحجم عن أقرانهم في الدول النامية. إذ أن معظم الناس يمنحون في جل أوقاتهم اهتماماً محدوداً بالمسائل السياسية، و لا اهتمام دائم لديهم بمسائل لا تمس حياتهم مباشرة، ففي الولايات المتحدة تشير معظم استطلاعات الرأي العام إلى أن أكثر من نصف الأمريكيين لا يعرفون ممثليهم في الكونجرس. و يقتصر الإهتمام بمعظم المسائل السياسية على قاع أو جزء صغير من الجماهير ممن يهتمون بمتابعة هذه المسائل و يملكون رأياً محدداً بشأنها، و يعبر منحنى الرأي العام في كثير من الحالات عن توزيع شرائح الرأي لدى هذا القطاع.

2. يرتبط بالخاصية السابقة، إختلاف شرائح الرأي العام في ارتباطها بجماعات معينة من حيث قوة و كثافة و شدة الرأي، و بالتالي اختلاف هذه الجماعات في قدرتها على التأثير في عملية صنع القرار. فحتى في الديمقراطيات الغربية كالولايات المتحدة و غيرها، قد لا يكون الجماهير العادية سوى أدنى التأثير في هذه العملية نتيجة اللامبالاة و الانقسام، مما يصعب تحديد أو تمييز آراء هذه الجماهير و وجهات نظرها،و يختلف الحال عن ذلك مع أقلية مهتمة و يقظة قادرة على بلورة رأيها و التعبير عنه بوضوح و الوصول إلى صانعي القرار، فمثل هذه الأقلية تكون أكثر تأثيراً في الآخرين. و مثال ذلك أن اليهود في الولايات و المتحدة و إن لم تتجاوز نسبنهم (3%) من إجمالي السكان، يساند معظمهم بشدة إسرائيل و يملكون وسائل التأثير في الرأي العام عبر وسائل الإعلام و في الساسة الأمريكيين عبر اللوبي الصهيوني، و لهذا يتبنى هؤلاء الساسة مواقف موالية لإسرائيل، و ذلك بالرغم من وجود بعض المسلمين و الكثير من المسيحيين ممن لا يهتمون و لا ينتقدون إسرائيل، إذ أن آراء هؤلاء لعدم اتصافها بالقوة و الوضوح لا تؤثر في هؤلاء الساسة.

3. ثالث الخصائص الأخرى المميزة للرأي العام عموماً في أي مجتمع متقدماً كان أو متخلفاً، ترتبط بسرعة تغيره و تقلبه من موقف إلى نقيضه، أي من المواقف المساندة أو المعارضة لقرار أو سياسة معينة إلى النقيض. و من الممكن تفسير ذلك في ضوء ما سبق ذكره بشأن اتصاف الرأي العام بالسطحية و عدم العمق، مما يجعل عذا الرأي ظاهرة قابلة للدفع بسهولة يميناً أو يساراً تأييداً أو معارضةً مع تيار الوقائع، كما يرجع ذلك في بعض الأحيان إلى أسباب موضوعية تتعلق بتباين الجماهير و تحديداً القطاع اليقظ و المهتم منها لسلبيات كثيرة ترتبت على تنفيذ قرار ما رغم أنه كان يحظى من قبل بقدر كبير من التأييد العام. و على سبيل المثال، ساند معظم الأمريكيين عام 1965 موقف الرئيس "ليندون جونسون" لدى تصعيده الحرب في فييتنام، بيد أنهم عادوا عام 1968 لمعارضة هذه الحرب بشدة مع تزايد الخسائر البشرية الأمريكية بوجه خاص في تلك الحرب. و يمكن لوسائل الإعلام أن تلعب دوراً كبيراً في هذا الخصوص، و لا سيما بالنسبة لذلك القطاع الكبير من الرأي العام الذي يوصف بأنه متردد أو لم يقرر بعد"، حيث يمكن لخبر صغير أن ينشر في بعض الصحف واسعة الانتشار أن يدفع بالعديد من هؤلاء إلى تغيير موقفهم بلا مقدمات. و من ذلك أن ينشر خبر عن مؤتمر علمي تحدث فيه أحد الخبراء عن مخاطر بعض وسائل تنظيم النسل، فهذا الخبر قد يبدو محدود الدلالة لكنه كفيل بنقل شريحة ضخمة من موقف التردد إلى موقف المعارضة

دور و مقومات الرأي العام

يؤدي الرأي العام أو يفترض فيه ذلك، دوراً حيوياً في العملية السياسية في النظم الديمقراطية، و لا سيما عن طريق الانتخابات و جماعات المصالح. فالانتخابات ليست مجرد آلية لإختيار الشعب للحكام، و لكنها وسيلة - ضمن وسائل أخرى - لتمكين الرأي العام من آداء وظيفته الحقيقية في الرقابة و الضبط و الحساب أو التأييد. و يسمح وجود جماعات مصالح نشطة بفرض التعبير عن الرأي بمختلف فئاته بشكل واضح أو بالأحرى بشكل أكثر وضوحاً من الانتخابات العامة. ذلك أن هذه الانتخابات تعد وسيلة غير واضحة تماماً في التعبير عن الرأي العام، إذ أنها تسجل "شهادة" يمنحها الناخبون للآداء الكلي لمرشح أو حزب معين و ليس بصدد مسألة أو مشكلة واحدة، و هو ما ينطبق بوجه خاص في نظام الحزبين في الولايات المتحدة و بريطانيا حيث يصوت الناخب لصالح أحد الحزبين الكبيرين دون تقييم أو التزام محدد بمسائل معينة.

دور الرأي العام في النظم غير الديمقراطية

لا تقتصر أهمية دور الرأي العام على النظم الديمقراطية الغربية منها و غير الغربية، و لكنها تشمل أيضا النظم الأخرى الأقل ديمقراطية، بل إنها كانت تشمل أيضاً النظم الشمولية رغم أن الرأي العام فيها كان يعبر عن "رأي عام كامن أو باطن" بحكم القيود المفروضة على حرية الرأي و التعبير. ذلك أن الرأي العام في حالة تعبئته من جانب جماعة أو قيادة معارضة أو اتساع نطاق الإضرابات الشعبية العفوية قادر على الإطاحة بأي نظام مهما بلغت قوته و حجمه و كفاءة أجهزته الأمنية و القمعية (نموذج الثورة الإيرانية، و نموذج الثورة الرومانية ضد نظام تشاوتشيسكو).

و من الممكن الإشارة في هذا الخصوص إلى أن ألمانيا النازية (بكل أجهزتها القمعية لإخماد و قهر المعارضين) كانت تعتمد في إثارة الشعور القومي و التأييد الشعبي على فكرة "سيادة ألمانيا على العالم"، و كانت الحكومة النازية تهتم بقياس حجم المساندة العامة للنظام و سياساته. و قد كشفت وثائق الحرب العالمية الثانية عن أن كبار قادة الحزب النازي كانوا قد أنشؤوا شبكة متطورة لإختبار و قياس ردود فعل الشعب إزاء أي قرار أو سياسة جديدة، و لتوجيه الدعاية الداخلية لصالح النظام و جمع معلومات دقيقة عن الحالة المعنوية للشعب. بيد أن الطبيعة القهرية للنظام كانت تحول بين هؤلاء القادة و بين إرسال تقارير حقيقية عن نتائج هذه الدراسات إلى "هتلر" الذي كان قانعاً بتقارير أخرى "وردية" و ليست حقيقية عن حقيقة موقف الرأي العام، مما عرقل أو بالأحرى منع عملية تصحيح السياسات من خلال عملية التغذية المعادة، و لهذا لم يؤثر الرأي العام حقيقة في سياسات النظام.

مقومات الرأي العام

يمكن النظر إلى مقومات الرأي العام من زاويتين. الأولى تتعلق بالعناصر و المقومات المُشَكِّلة لظاهرة الرأي العام، و الثانية ترتبط بعناصر أو أمور معينة ينبغي توافرها حتى يمكن أن يوجد الرأي العام، على الصعيد الأول، يلاحظ أن ظاهرة الرأي العام ظاهرة مركبة معقدة، بمعنى أنها تتكون من العديد من المقومات و العوامل التي تتفاعل مع بعضها البعض، و بحيث لا يمكن في تفسير هذه الظاهرة الاستناد إلى عامل واحد أو مجموعة واحدة من المقومات.

يختلف علماء السياسة في تحديد مقومات هذه الظاهرة، و إن كان يمكن القول بأن أبرزها، هي:

● مقومات أولية مرتبطة بالفرد في تحليل هذه الظاهرة، و تضم هذه المجموعة من المقومات كل ما له صلة بالعناصر و الخصائص الفردية سواء الفسيولوجية منها بما في ذلك الخصائص المرتبة بالغدد و السمات العضوية أو الخصائص الشخصية الفردية و لا سيما كيفية تنظيم الفرد لقيمه و معتقداته و بالتالي موضع كل مشكلة من النظام المتدرج المتصاعد من المباديء و المثل و القيم التي تسيطر على الفرد و نظرته أو رأيه في المشكلات. و بهذا المعنى يندرج في إطار هذه المجموعة عوامل عديدة كالجنس و الدين و الأصل العرقي أو اللغوي أو الإجتماعي، كما تشمل الخبرات الذاتية التي كان الفرد قد عاشها بطريق مباشر أو غير مباشر و عانى منها أو انتفع بها. و على سبيل المثال يلاحظ أن الأمريكيين الشبان ممن حاربوا في فييتنام أو احتجوا على هذه الحرب في الستينيات و بداية السبعينات، و رغم أنهم أصبحوا لاحقاً أكثر استقراراً و اعتدالاً في آرائهم، ما زالوا يتصفون بحساسية "معينة" إزاء استخدام القوات الأمريكية فيما وراء البحار. كما يتصف الأكبر سناً ممن عاشوا خبرة الكساد الكبير في الثلاثينات بأنهم أكثر مساندة للتدابير و السياسات بشأن الرفاه الإجتماعي بالمقارنة بالأصغر سناً ممن ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية.

● مقومات ثانوية، و يقصد بها المقومات الجماعية المرتبطة بالمجتمع الذي تحدث في إطاره عملية التفاعل و المناقشة كي تنتقل ظاهرة الرأي من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي، أو كي تصبح تعبيراً عن الرأي العام. و تضم هذه المقومات كل ما يرتبط بالخصائص الجغرافية، الديموغرافية، الإجتماعية، و الثقافية للمجتمع و كذلك السمات المميزة للطابق القومي للمجتمع.

المقومات الأولية في تفاعلها مع المقومات الثانوية تحدد ظاهرة الرأي العام، و لكن هنا كعناصر أخرى يتحدد بها الإعلان عن الرأي و قوة هذا الإعلان و صورته و سرعته. و من هذه العوامل : أدوات تكتيل الرأي كالقيادة و التنظيمات الجماعية السياسية و غير السياسية (الأحزاب و جماعات المصالح)، و خصائص الواقعة أو المشكلة (واقعة عنيفة، متوقعة أم غير متوقعة) و مدى الإهتمام الفردي و الجماعي بهذه الواقعة.

و من المنظور الثاني تفترض ظاهرة الرأي العام وجود ثلاثة عناصر أساسية، هي المجتمع و المشكلة و المناقشة:

1. المجتمع: يشكل العنصر الأول للرأي العام، فالأخير ما هو إلا تعبير عن وجهة نظر المحتمع إزاء مشكلة ما في وقت معين. و رغم ما سبق ذكره بشأن صعوبة تحديد رأي الجماعة أو المجتمع، إلا أن المبدأ الأساسي في هذا الخصوص يظل مرتبطاً بالأغلبية، سواء كان المقصود بها أغلبية من عبر من أعضاء المجتمع ككل عن رأيه بما في ذلك فئة "من لا يعرف أو من لم يقرر بعد" أو كان المقصود بها من عبروا بوضوح عن رأيهم بالموافقة أو المعارضة بمختلف درجاتها. و كما سبق القول فإن فئة صغيرة نسبياً من المجتمع يتمتع أعضاؤها بتأثير كبير، و قد توصف هذه الفئة "بقادة رأي" أو "جماعة الرأي" و تضم عدد من الأفراد تعنيهم المشكلة محل المناقشة،و تتشكل هذه الجماعة و يتشكل حجمها حسب المشكلة المثارة و نطاقها (مجتمع محلي أو مجتمع قومي)، كما يوجد داخب نفس الجماعة قطاع معين يشارك بدرجة أكبر في تشكيل الرأي العام و التأثير فيه.

2. المشكلة: حتى يوجد الرأي العام لا بد من وجود مشكلة تحظى بالاهتمام العام و يهتم أعضاء المجتمع أو معظمهم بمناقشتها و بطرح وجهات نظر مختلفة بشأنها، مما يبرز الاتفاق و التعارض ليس فقط في المصالح و لكن أيضاً في تصور أو طرح حلول متنوعة لهذه المشكلة و يعني ذلك:

a. إن الموضوعات محل الإجماع لا توصف بأنها مشكلات يتكون بصددها رأي عام، فالتسليم بوجود الله في مجتمع إسلامي لا يوصف بأنه رأي عام.

b. إن دليل إثبات صحة وجهة نظر ليس هو الرأي العام، و إنما هو عنصر من عناصر الإقناع بالرأي.

c. إن الخطأ في نقل الحقيقة "البديهية" أو الوصول إليها لا يمكن أن يوصف بأنه رأي، فلو طلب من شخص أن يجمع ثلاثة و خمسة فأجاب أن المجموع تسعة لا يمكن أن يدافع عن ذلك بأنه رأي.

و يلاحظ أن وسائل الإعلام الجماهيري تلعب دوراً مهماً بصدد عنصر المشكلة الموضوع، فقد تثير موضوعاً ما لم يكن قد سبق أن شغل اهتمام المجتمع من قبل و تجعل منه مشكلة عامة يثور حولها النقاش و الجدل في أوساط المجتمع (كقضية السلاح النووي الإسرائيلي و مخاطره). و من الضروري التأكيد في هذه الخصوص أن وسائل الإعلام لا تخلق المشكلة من العدم، و إنما يكون للمشكلة قبل ذلك أصل أو وجود و إن لم يكن لأغلبية المجتمع الإدراك الكافي لوجودها و الشعور و الوعي بها إلى درجة تثير حولها النقاش، و بهذا يصبح دور وسائل الإعلام نقل المشكلة من دوائر الإهتمام أو الإهتمام المحدود إلى بؤرة إهتمام المجتمع.

3. المناقشة: يتطلب وجود الرأي العام إقرار حق المواطن في التفكير و تكوين الرأي و المناقشة و إعلان الرأي. و يعني ذلك أن الرأي العام لكي يوجد و يؤدي وظيفة حقيقية يفترض لإقرار الدولة و نظامها السياسي بما يلي:

a. حق المواطن في تكوين رأيه بمختلف الوسائل دون أن يفرض عليه رأي معين أو مصدر معين من مصادر المعلومات.

b. حق المواطن في الإعلان عن رأيه دون خوف من عقاب أو جزاء يمنعه من ذلك الإعلان. بطبيعة الحال من حق الدولة أن تنظم هذا الحق، و لكن ليس لها أن تمنع ممارسة هذا الحق.

c. حق المواطن في المناقشة، إذ أن الإعلان عن الرأي و تكوين الرأي العام لا يتم إلا من خلال المناقشة كتفاعل بين وجهات نظر مختلفة بشأن المشكلة المثارة. و يتوقف نوع و طبيعة الرأي العام على مدى حرية و إمكانية المناقشة.

مراحل تكوين و تطور الرأي العام

يقتضي التعرف على كيفية تبلور ظاهرة الرأي العام و انتقالها من سلوك فردي إلى سلوك جماعي، التمييز بين مراحل معينة لتطور هذه الظاهرة. و قبل بحث هذه المراحل، ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار أن هذه المراحل ليست متساوية في ما تستغرقه كل منها من وقت أو جهد، كما يمكن تصور اختفاء بعض هذه المراحل في بعض التطبيقات أو تكتل بعضها الآخر في مرحلة واحدة تبعا لطبيعة كل نموذج من نماذج التطبيق.

يمكن متابعة مراحل تكوين و تطور هذه الظاهرة في سبع مراحل، من أهمها المراحل الأربع الأولى

1. مرحلة الإدراك : يقصد "بالإدراك" تصور أو رؤية أو فهم مسألة أو ظاهرة ما. و الرأي العام، كما سبق القول، ما هو إلا وجهات نظر مختلفة بخصوص مشكلة معينة، و لهذا يشكل إدراك المشكلة المرحلة الأولى في تكوين الرأي العام. و يبدأ هذا الإدراك في صورة تصور فردي للمشكلة، و يتأثر الفرد في إدراكه للمشاكل العامة بأكثر من عامل من قبيل:

a. طبيعة شخصية الفرد و ثقافته، فالمباديء و المفاهيم التي تترسب لدى الفرد منذ نشأته في مجتمع سياسي معين و حتى تكامل شخصيته تؤثر في كيفية إدراكه و فهمه للمشكلات العامة، كما أن تقدير الفرد لمصالحه يؤثر في هذا الإدراك

b. الثقافة العامة و التقاليد الحضارية للمجتمع، و كذا الثقافة السياسية و توجهاتها و قيمها و معاييرها، تئثر بدورها في إدراك المواطن للمشكلات العامة بدرجة أو بأخرى. و على سبيل المثال فإن إدراك المصري العادي لأي مشكلة تثور في العلاقات مع إسرائيل يرتبط بدرجة أو بأخرى بخبرات تاريخية عربية إسلامية في التعامل مع اليهود.

c. القيادة السياسية في إدراكها لمشكلة ما على نحو معين، تؤثر بدرجة أو بأخرى في إدراك الفرد العادي لهذه المشكلة. و لا ينطبق ذلك فحسب على حالة القيادة "الكاريزمية" في ظل الارتباط "العاطفي" و الوجداني بينها و بين المواطن العادي،و لكنه ينطبق أيضاً و لو بدرجة أقل على الأنماط الأخرى للقيادات، خصوصا في ظل دور وسائل الإعلام الجماهيري في نشر و "ترويج" عناصر إدراك القيادة لمشكلة ما.

d. وسائل الإعلام الجماهيري تؤثر في إدراك الفرد للمشكلة من حيث أبعادها و طبيعتها، من خلال دورها في إثارة الإهتمام بالمشكلة و تقديم معلومات معينة عنها، و قد تنطوي هذه المعلومات عن "تشويه" للحقيقة أو تقديم جزء منها بإعتباره كل الحقيقة أو نقل الحقيقة كاملة.

2. مرحلة الصراع: تعني هذه المرحلة الانتقال المتتالي من إدراك المشكلة كتصور فردي ذاتي إلى التعبير عن المشكلة في شكل موقف فردي و لكنه يرتبط بالقوى الإجتماعية. و عادة ما يبدأ هذا الصراع فرديا، ثم يتحول إلى صراع فئوي جماعي، و قد يتحول إلى صراع نظامي:

a. يبدأ الصراع فردياً أو ذاتياً نتيجة التناقض الذي يعاني منه الفرد بين إدراكه لمشكلة ما بأبعادها المختلفة و بين مبادئه و معتقداته و مصالحه الإقتصادية و غير الإقتصادية، و قد ينتهي هذا الصراع إما بموقف واضح تأييداً أو معارضةً أو بموقف متردد ( كموقف طبيب يملك مستشفى للولادة إزاء مشكلة تنظيم الأسرة، حيث ثقافته و تكوينه يحملانه على تأييد هذه المسألة، و لكن مصالحه الإقتصادية تدفعه إلى رفضها).

b. ينتقل الصراع الذاتي في مرحلة لاحقة ليرتبط بالقوى الإجتماعية. ذلك أن المجتمع ينقسم إلى عدة قوى و جماعات لها اهتمامات و مصالح متنوعة، و المواطن العادي يسعى بطريقة لا شعورية لتكييف موقفه و موقف الجماعات التي ينتمي إليها، حيث إن هذه الجماعات لدى إثارة مشكلة ما تتبنى موقفا إزاءها يتفق و تقديرها لمصالحها. و هذه المصالح ليست بالضرورة طبقية، فقد تكون فئوية (كمصالح أعضاء نقابة معينة ينتمون إلى أصول طبقية مختلفة) و قد تكون مصالح دائمة أو مؤقتة. و ينتهي هذا الصراع الجماعي إن آجلاً أو عاجلاً إلى تغليب وجهة نظر معينة داخل الجماعة الإجتماعية (كقوة أو طبقة أو فئة) بإعتبارها معبرة عن هذه الجماعة. و يساعد على بلورة الصراع الجماعي وجود تنظيمات و أبنية سياسية أو غير سياسية كقنوات التعبير عن الآراء و المصالح كالأحزاب السياسية و النقابات المهنية و الجمعيات الثقافية و الأندية الخاصة و غيرها.

c. قد يتحول الصراع إلى صراع نظامي في حالة وجود أحزاب سياسية، حيث تتكتل مختلف القوى و الجماعات المرتبطة بالحزب خلف وجهة نظر واحدة و محددة يعبر عنها ذلك الحزب، و يدافع عنها بكافة الوسائل خصوصاً عن طريق صحيفته أو ما يسمى "بصحافة الرأي" أي الإعلام المكتوب الذي يدين بالولاء للحزب و يعكس أفكاره و توجهاته و يدافع عن وجهات نظره.

3. مرحلة البلورة و التركيز: تأتي مرحلة بلورة و تركيز وجهات النظر المختلفة في شرائح معبرة عن مواقف أكثر تحديدا عقب مرحلة الصراع سواء اقتصر هذا الصراع على الصورة الفئوية أو تطور إلى صورة نظامية ذلك أن المناقشة أو الصراع الفكري بين الآراء المختلفة يؤدي إلى إبراز و توضيح و تحديد المفاهيم الأساسية للمشكلة (أبعادها و عواملها و نتائجها) ، و هذا الإيضاح الفكري يؤدي بدوره إلى القضاء على التباين الجزئي أو المحدود و بالتالي التقريب بين المواقف و الآراء المتشابهة و القضاء على المواقف المتعصبة أو المتطرفة و يؤدي ذلك كله إلى عملية تركيز في شرائح الرأي العام في شكل ثلاثة مواقف رئيسية مع خلاف في درجة كل موقف منها: موقف تأييد، موقف المعارضة، موقف الحياد و اللامبالاة و عدم الإهتمام أو عدم تقرير رأي ما.

4. مرحلة الرضا: بإنقضاء المرحلة الثالثة، يكون الرأي العام في معناه الحقيقي قد أدى وظيفته و اختتم اعملية الربط بين السلوك الفردي و المواقف الجماعية و أعلن عن مواقف مختلف القوى الإجتماعية. و لكن في بعض الأحيان و طبقا لطبيعة المشكلة و مدى أهميتها و عمقها، قد تبدأ مرحلة أخرى لنقل الرأي العام السابق تحديده و إعلانه في مرحلة التركيز إلى صورة جديدة من صور السلوك الجماعي في ما يعرف بمرحلة الرضا. ذلك أن مرحلة التركيز و ما يواكبها من مناقشة تؤدي إلى وضوح نقاط معينة بخصوص المشكلة، تتفق بشأنها كافة فئات و شرائح الرأي العام، و قد يؤدي هذا إلى خلق نوع من الوحدة في اتجاهات الرأي العام بصدد مسألة معينة أو جانب معين من هذه المسألة و على سبيل المثال يوجد قدر يعتد به من الاتفاق بين شرائح الرأي العام المصري، و كذا لدى معظم الأوساط الرسمية، حول ضرورة أن لا تكون الاهتمامات بالمشروعات و الترتيبات الإقليمية الجديدة ( كالشرق أوسطية، و المتوسطية ) على حساب النظام الإقليمي العربي و ضرورة تطوير هذا النظام و تجديده.

5. مراحل الاندماج و الاستقرار و الشمول: تعقب مرحلة الرضا مراحل متتابعة تختلف من مشكلة إلى أخرى و من مجتمع إلى آخر و يلاحظ في معظم المجتمعات النامية أن الرأي العام إن قدرت له فرصة التعبير عن ذاته ينتهي في أحسن الأحوال عند مرحلة الرضا، بل و يغلب عليه أن لا يصل إلى هذه المرحلة، إن لم يتحلل و يختفي خلال مرحلة الصراع. و تشمل هذه المراحل التالية لمرحلة الرضا:

a. مرحلة الإندماج: يقصد بها إتجاه الفرد لا شعورياً إلى استيعاب ما اتفقت عليه الجماعة ليصبح ذلك الجزء محل الاتفاق الجماعي ليس مجرد تعبير عن رأي أو وجهة نظر، و إنما يرتفع ليصير عنصرا من عناصر النسق العقيدي للفرد (بمعنى مباديء و قيم ومجتمعات الفرد التي على أساسها يتحدد سلوكه الفردي و رأيه)، و يحدث بذلك نوع من التوفيق بين الشخصية الفردية و ما استقرت عليه الجماعة أو بعبارة أخرى السلوك الجماعي.

b. مرحلة الاستقرار: تعبر هذه المرحلة عن نمط مثالي و لكن من الممكن الاقتراب منها بدرجة أو بأخرى. و يقصد بها أن تنتهي في الأمد الطويل عمليتا الرضا و الاندماج إلى خلق نوع من الترابط بين مختلف قوى المجتمع و جماعاته الإجتماعية و الاقتصادية و الحاكمة و المحكومة، بحيث يتقبل و يعمل الجميع بشكل متجانس و متناسق وفقا للرأي محل الرضا و الاندماج باعتباره مظهرا من مظاهر التعبير عن المجتمع. و هذه الصورة توصف بالمثالية لأن الرأي العام بطبيعته معقد و يتحدد بخصوص كل مشكلة و يختفي بإختفائها أو على الأقل بظهور مشكلة أخرى أكثر أهمية، و إن كان الاختفاء لا يمكن أن يكون كليا لأن الرأي نوع من الخبرة، و الخبرة جزء من التاريخ و الأخير مكون أساسي لثقافة المجتمع.

c. الشمول: رغم أن ظاهرة الرأي العام تفنى و تختفي في لحظة معينة ، باعتبارها وجهة نظر عامة إزاء مشكلة عامة في وقت معين إلا أن هذا الفناء لا يمنع قدرة هذه الظاهرة أن تكون مصدرا لظواهر أخرى. ففي مرحلة الرضا يصبح الرأي العام مصدرا لم يكن تسميته "بالإجماع" أو "بالإرادة العامة" ، و في مرحلة الاندماج يصير مصدرا للسلوك الفردي، و في مرحلة الشمول هذه يصبح مصدرا للطابع القومي ( الصفات و الخصائص السلوكية التي يعبر عنها المواطن العادي نتيجة لانتمائه إلى مجتمع معين). و يقصد بالشمول ارتفاع تلك الجزئية من جزئيات الرأي العام (محل الرضا و الاندماج) لترتبط بالمجتمع السياسي القومي كحقيقة كلية تعبر عن إحدى سماته. و مثال ذلك أن كراهية الشعب الألماني من جانب الشعب الفرنسي تراكمت من خلال خبرات متعددة من الإعتداءات الألمانية ابتداءا من الحروب السبعينية حتى الحرب العالمية الثانية، و بالتالي فإن هذه الكراهية رأياً عاماً تحول ليصير إحدى سمات الطابع القومي الفرنسي. و ينطبق ذلك أيضا على الطابع القومي لمصر أو لأي بلد عربي آخر بصدد الإسرائيلين و لا سيما البلدان العربية التي عانت و تعاني من اعتداءات الآخرين.

ديناميات العلاقة بين السلطة السياسية الحاكمة و ظاهرة الرأي العام

تتحدد ديناميات العلاقة بين السلطة السياسية و ظاهرة الرأي العام بمجموعة من الأنشطة و الأنظمة السياسية الموجهة عبر آليات و وسائل متنوعة من قبل الطرف الأول إزاء مختلف مراحل تكون ظاهرة الرأي العام الطرف الثاني بحيث يتم إنتاجها و إعادة صناعتها و يتحكم في هذه العملية متغيرات ثلاثة: طبيعة السلطة و الأشكال التي تتخذها - نوعية المرحلة التكوينية التي يمر بها الرأي العام بصدد المشكلة المثارة - ثم طبيعة هذه القضية أو المشكلة و موضعها في أجندة أولويات كل من السلطة السياسية و الرأي العام

نستطيع القول أن السلطة السياسية تتدخل في مراحل تكون الرأي العام التي نميز بصددها بين أربع مراحل هي:

1. مرحلة إدراك المشكلة أو القضية محور ظاهرة الرأي العام: تولد ظاهرة الرأي العام و تتبلور عبر توافر المعلومات المناسبة كمّاً و نوعاً و توقيتا عن قضية أو مشكلة ما، عندئذ تتحول إلى قضية مثارة، و في هذه المرحلة يمكن للسلطة السياسية الحاكمة أن تتدخل عبر سياسة حجب المعلومة المطلوبة عن القضية المثارة أو احتكارها أو تشويهها أو التلاعب في طريقة أو توقيت إذاعتها و بثها، الأمر الذي يترتب عليه إحداث نوع من التشويه الإدراكي أي لشاشات الإدراك الفردية و الجماعية للرأي العام... و تلك نقطة البداية المهمة في عملية تشكيل الرأي العام و صناعته التي تتضمن درجة من درجات التحكم فيها من المنبع و الأصل: أي تمنع تشكيله في الاتجاه الصحيح أو تحرفه منذ البداية.

و لا يتحقق الإدراك فقط بوصول المعلومات التي يتم استقبالها، و الذي يعبر عنه على مستوى الجماعة بحق الاتصال، و لكن لا بد أن يتم الإدراك عبر شاشات نظام القيم الفردي و الجماعي أيضا، و بالتالي فالهيمنة على الرأي العام تتحقق - داخليا و خارجيا - عبر منطقين متكاملين الرقابة و التحكم في تداول المعلومات و الصور من ناحية، و التلاعب في البناء القيمي عبر الغزو الحضاري و الثقافي من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي سنتناوله فيما بعد.

و تختلف طبيعة العملية حسب طبيعة السلطة السياسية الحاكمة داخليا: هل تنتمي إلى النمط الديمقراطي التعددي أو النمط الشمولي، بدرجاته و أنواعه المختلفة؟ و بالتالي تتعدد أنظمة الرقابة و أنواعها؛ و أشكالها، و درجاتها؟ أو السلطة السياسية المهيمنة خارجيا؛ طبيعتها، و نظرتها للآخر؟ و نظام القيم الخاص بها؟ و طبيعة الرسالة الحضارية التي تؤمن بها و تسعى لتقديمها للبشرية حتى و لو من باب الدعاء ... إلخ.

يتفق هذا الأمر مع التحليل على المستوى العمقي لظاهرة الرأي العام، و مع التعريف الإختباري لها، بإعتبارها تفترض معرفة مسبقة بالمشكلة أو بالقضية التي أثارت الرأي العام و قدرا من الإحاطة بجوانبها المختلفة.

و هكذا يفترض تشكيل ظاهرة الرأي العام و صناعتها في هذا المستوى تعاملا سلطويا من شقين:

● ممارسة عملية الرقابة السياسية عبر الكثير من الآليات، و الأدوات.

● ممارسة إعادة تشكيل الطابع القومي عبر التسميم السياسي للإطار الفكري، و القيمي و العقيدي بآليات، و أدوات تختلف نوعيا عن الأولى.

و يلاحظ أن المستوى الثاني يحدد نوعية الاستجابة للمستوى الأول من مستويات عملية تكوين الرأي العام و صناعته فمعرفة النظام القيمي يحدد نسبيا كيفية التفاعل مع المعلومة، و كما أنه من جانب آخر يتعين معرفة كيفية التحكم في النظام القيمي داخليا، و التلاعب به و اختراقه خارجيا؟؟

2. مرحلة التفاعل و الحوارات و النقاشات و تحديد البدائل المختلفة للتعامل مع قضية الرأي العام: تتميز هذه المرحلة بتداول النقاشات و الحوارات بين وجهات النظر المختلفة و المتباينة، حتى تصل إلى درجة من التفاعل و الصراع الذي يحدد أوجه الخلاف بين الآراء في توصيف المشكلة أو القضية، و من ثم تحديد الحلول أو الوسائل التي يتم من خلالها التعامل معها، و يعد التمييز أو الاختلاف الواضح بصدد جوانب المشكلة مساحة يحدث الانقسام في كتلة الجماهير بين أغلبية و أقلية و قد تتدخل السلطة السياسية الحاكمة كطرف أساسي في الحوارات و النقاشات و تدير دفتها بوضوح و صراحة أو تفعل ذلك من وراء ستار و من خلال مجموعه من الوكلاء لكي تؤثر على عملية تكون الأغلبية و الأقلية حجماً و مضموناً و نوعية ... إلخ.

3. مرحلة تبلور الرأي العام و ظهوره في شكل الأغلبية و الأقلية: تشهد هذه المرحلة تبلور الأغلبية و الأقلية بصدد القضية المثارة و ظهورها، و تتحدد أدوار السلطة السياسية الحاكمة في هذا المستوى بمقدار هيمنتها على أجهزة الإقناع أو القمع الفكري، - و التي يسميها بعض المحللين - الأجهزة الأيديولوجية للسلطة - و أحيانا قنوات السلطة السياسية، و هي تمارس هذه الأدوار من خلال تقنيات الدعاية السياسية، و سوف نقدم فيما بعد أحد النماذج الدعائية لتشكيل الرأي العام و صناعته عبر أنماط الخطاب الاتصالي.

4. النتائج العملية و السياسية للرأي العام قبل إختفاء المظاهر المعبرة عنه: تعتبر هذه المرحلة الخاتمة في حركة ظاهرة الرأي العام، و التي يتحول إلى أشكال من الأفعال السياسية عبر القنوات المختلفة التي يتيحها كل نظام سياسي حسب طبيعته و طبيعة النمط الحضاري الذي ينتمي إليه؛ ففي النظام التعددي مثلا نلاحظ أنه بعد أن تؤول الأغلبية إلى الظهور ننتقل إلى مرحلة تأسيس السلطة السياسية بجميع عملياتها و دينامياتها على الرأي العام عبر منطلقات ثلاثة: التعديل، أو الإلغاء ، أو الإرساء لقانون أو لقرار أو لإجراء أو لسياسة معينة، أو لقاعدة سلوكية جديدة، و محددة، و يظهر هذا المستوى من خلال العديد من الأدوات و الآليات التي تختلف من حالة إلى حالة أخرى - حسب نوع المشكلة أو القضية التي أثارت الرأي العام، و لكن المسألة دائما تكون من خلال قيام السلطة السياسية الحاكمة بوظيفتها الأساسية و هي عملية التخصيص السلطوي للقيم، و يتجلى ذلك مثلا في المؤسسة التعليمية من خلال وضع منهج تعليمي محدد..، أو في المؤسسة الإعلامية عبر تخطيط حملة إعلامية محددة. أو في المؤسسة التشريعية بسن قوانين محددة لعلاج حالة خاصة أو حالة مطروحة، على أن البعض لا يدخل هذه المرحلة ضمن نطاق اهتمام دراسة الرأي العام، و لكنه يعتبر مرادفا لمفهوم آخر هو الإرادة الشعبية، و إن كنا لا نتفق جزئيا - مع التحليل النظري لهذا الاتجاه - إلا أنه يرى أن هذه المرحلة تعبير عن النتائج السياسية أو العملية لفعل أو إعمال الرأي العام، و من هنا يهتم بها من هذا الجانب

نماذج من الخبرة السياسية المصرية لعلاقة الرأي العام و السلطة

يرى الكثير من الباحثين أن التاريخ معمل تجارب للعلوم الإنسانية و الإجتماعية و عليه فإن "النموذج التاريخي" هو الآداة المنهجية التحليلية التي تقوم على إمكانية اقتطاع أي حدث ذي دلالة من سياقه التاريخي و القيام بدراسته و فق ضوابط منهجية معينة مما ينتج رصيد من معرفة سنن الممارسة و الحركة التاريخية و قوانينها، وهناك وظيفة منهجية أخرى للنموذج التاريخي حيث هناك إمكانية للتجربة و القياس بالنسبة للأحداث و الوقائع التاريخية المتشابهة، و بالتالي فإن الحديث عن النموذج التاريخي في علاقة الرأي العام في مصر بالسلطة السياسية هي تجريد لخبرة معينة تكوِّن نسق متكامل يمكن اعتباره نموذجا مرجعيا لمقارنة و رؤية الواقع.

و الخبرة التاريخية التي سنتناولها هنا تنتمي للخبرة المعاصرة و الحديثة للعلاقة بين السلطة و الرأي العام و هو النمط الذي تقدمه حركة يوليو 1952.

حركة يوليو 1952 تعد نقطة تحول تاريخية في التاريخ المصري الحديث، فقد كانت حركة الجيش في 1952 إنتقالا بالبلاد من وضعية إلى وضعية أخرى مخالفة لها بصدد طبيعة النظام السياسي و توجهاته في التعامل مع الرأي العام و القوى المجتمعية المختلفة

و نموذج حركة يوليو يقدم ثلاثة أنماط في خبرة التعامل مع الرأي العام المصري، يترجم كل نمط منها طبيعة السلطة السياسية الحاكمة و إدراك القيادة السياسية للرأي العام، و منطق التعامل معه بالإضافة إلى طبيعة القضية التي تم من خلالها تحريك قوى الرأي العام المصري و المناخ العام الذي يجري في إطاره عملية التعامل معه، و هذه الأنماط الثلاثة هي:-

● نمط منه الرأي العام وصفه و الذي عَرِفَته الفترة الناصرية

● نمط التلاعب بالرأي العام و الذي عَرِفَته الفترة الساداتية

● نمط تحييد الرأي العام و هي ما عَرِفَته فترة مبارك ( )

أولاً: نموذج تعبئة الرأي العام (1952-1971)

قامت حركة الجيش في 23 يوليو 1952 كإنقلاب عسكري على الحكم تعبيرا عن رفض الجيش لما وصلت إليه أوضاع البلاد عامة و الجيش خاصة و لتتبنى استكمال الاستقلال الوطني و لتوسيع عملية التحديث و تنشيء الدولة العصرية إضافة لإصلاح أحوال المجتمع و محاربة الفساد (و هذا حسب بياناتهم الأولى)

القضية المحورية التي أثارت قوى الرأي العام المصري و شكلت أسس التحرك العملي:-

يمكن رصد بدايات الأحداث التي بلورت القضية التي أثارت الرأي العام المصري منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى قيام الحركة، و هو موضوع الجلاء الإنجليزي و انتشار الفساد، و هذه القضية كانت محور الأحداث العنيفة التي سبقت قيام حركة يوليو و مهدت لها و قد تطور مطلب الاستقلال بوصفه الحل الذي تقدمه قوى الرأي العام المصري للقضية الوطنية فلم يعد الاستقلال السياسي مجرد إجلاء الإنجليز عن مصر و إنما صار تحريرا للإرادة السياسية الوطنية من الضغوط الخارجية المفروضة عليها و رفضا لمعاهدات الدفاع المشترك مع القوى الكبرى، و اتساع نطاق "الاستقلال الوطني" و ساهم في ذلك ظهور القضية الفلسطينية التي هزت وجدان الرأي العام المصري و بدأ توجه الوطنية المصرية نحو إيجاد صيغة لتجميع القوى و الأقطار العربية في إطار فكرة الوحدة العربية، و بدأت قوى الرأي العام المصري تدرك أن قضية الاستقلال التي تحقق بشكل جاد لإزاحة الهيمنة الأجنبية على الاقتصاد المصري، و على مدى الثلاثينيات و الأربعينيات بدأت بعض قوى الرأي العام المصري تدرك أن القوى التي سيطرت على ثورة 1919 م تعكس توجها علمانيا صبغ فكرة الاستقلال السياسي بهذه الصبغة العلمانية و حصرت فكرته في كونه جلاء للمحتل الأجنبي بقصد "بناء مجتمع جديد على صورة المجتمعات الغربية" و من هنا بدأت تظهر الحركة الاسلامية تؤكد على الهوية و المرجعية الاسلامية للحركة الوطنية و التي بدونها لا يثبت الشعور بالتميز العقدي الحضاري

و استمرت الأوضاع في نهاية الأربعينيات تفصح عن حالة من الإحباط و الإضطراب و ذلك إزاء رفض الانجليزمنح مصرالاستقلال الحقيقي و هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين و فساد القيادة السياسية للبلاد و قد تفاقمت الأوضاع و جرت الأحداث بسرعة حتى استحكمت القضية الفلسطينية و وصلت في نهايات 1951-1952 إلى أزمة سياسية حادة في ظل عجز الحركة الوطنية عامة و الاسلامية خاصة عن أن تحل محل القوى المسيطرة على الحكم بسبب غياب إرادة المواجهة لدى قيادة الحركة الإسلامية، و غياب تصور الصراع و طبيعته و عدم القدرة على إدارته.

في إطار هذه الأجواء من الأزمة الشاملة من التعامل مع القضية الوطنية ظهرت حركة الضباط الأحرار في الجيش المصري، و قد تواجد في داخلهم مختلف التيارات السياسية التي راجت بين الشباب المصري ذلك الوقت، و هم يرتبطون بجامع "الانتماء إلى المؤسسة العسكرية" و في ظروف الأزمة السياسية جرت حركتهم التي انتهت بالسيطرة على جهاز الدولة، و برغم أن المطالب التي اتفقوا عليها و أعلنوها من المباديء الستة بعد نجاح الحركة كانت بمثابة ترجمة لمفهوم الاستقلال الشامل الذي تكلمنا عنه، فإنها كانت تنظر إلى الجماهير بتوجس.

ممارسات سلطة يوليو بصدد تشكيل الرأي العام المصري

نستطيع في هذه الفترة رصد الكثير من الأزمات التاريخية التي واجهت سلطة ثورة يوليو و قامت بعملية صناعة الرأي العام و منها أزمة مارس 1954، و أحداث 9-10 يوليو 1987 م

1. أزمة 1954 م و إعادة تشكيل الرأي العام المصري: تعد أزمة مارس نقطة تحول خارقة بمختلف ما بعدها كما كان سائدا قبلها سلبا و إيجابا، فقد كانت خيارا بين توجهين للحركة السياسية المصرية و كانت حاسمة في اختيار

أحدهما فقد كانت الحركة الوطنية عامة تتبنى الديمقراطية كطريقة لتنظيم جهاز الحكم ( ) ، و كانت الحركة الإسلامية تتبنى قضية التميز العقائدي و الحضاري من خلال الهوية و المرجعية الإسلامية.

و حيث أن حركة يوليو و هي تنتمي إلى المؤسسة العسكرية من داخل جهاز الدولة رأسا من غير الطريق الديمقراطي، أضف إلى ذلك حسم الحركة منذ وقت مبكر قضية وجود الاسلاميين في قيادة الحركة مما حسم اختيارات الحركة سواء في تبني الديمقراطية و الحريات أو تبني المرجعية الإسلامية كإطار مرجعي للدولة و لكن هذه النتائج احتاجت لعامين بعد 1952 ليبدوا آثارها واضحة، حيث أنه حتى عام 1954 م لم يكن قد تبين الوجه الواضح لرجال الحركة إلا كوعود كتاريخ سابق، و كانت معاهدة 1954 بين مصر و إنجلترا مما خيب آمال الكثيرين من رجال الحركة الوطنية و قوى الرأي العام في ذلك الوقت بسبب ما تضمنته في إمكان عودة القوات البريطانية لمصر إذا ما تهددت الحرب في الدول العربية و تركيا فلم تكن المعاهدة مما يكفي للإطمئنان للتوجه الوطني للقيادة الجديدة و لكن ما لبث هذا الأمر أن تحقق للرأي العام في عام 1956 بتأميم القناة و إلغاء معاهدة 1954، و ما تلاها من أهداف معروفة و منها كان انفصال جانب تحقق السياسات الوطنية عن جانب تنظيم الحكم بأسلوب ديمقراطي يعتمد أساسا على ما تفرزه قوى الرأي العام المصري و بالتالي فقد افتقد النظام مشاركة حقيقية للرأي العام المصري في سياساته و انجازاته التي كانت نتيجة سياسات أفراد و قراراتهم الفردية بالأساس.

و على الجانب الآخر نشطت الدعاية الناصرية لتعبئة جماهير الرأي العام المصري و سوقهم في مظاهر التأييد لكل القرارات السياسية الصادرة في ذلك العهد، و في نفسه كانت آلة الهيمنة و الرقابة تفرض عليهم و على عقولهم عدم معرفة سوى القدر اليسير من الحقائق السياسية و المجتمعية في إطار رقابة أجهزة المخابرات و قد استمر هذا الوضع سائدا و مسيطرا على الفكر و الممارسة السياسية في مصر، ما دامت المضامين السياسية رغم أنها قد تحققت، و في هذا الإطار ابتدعت دعاية تلك الفترة مفهوم "الديمقراطية الموافقة"، لكي يكون بديلا عن (ديمقراطية المشاركة ما دامت الجماهير "موافقة") في تلك الانجازات الوطنية المزعومة للقيادة السياسية و باعتبار أن الشرعية السياسية هي رضا المواطنين.

فإنه لا حاجة للمشاركة الفعلية لقوى الرأي العام المصري عبر انتخابات أو غيرها

2. أزمة مظاهرات 9-10 يونيو 1967 م و دلالتها: عقب الهزيمة القاسية في 5 يونيو 1967 قام عبد الناصر بإلغاء بيان التنحي المشهور، فكان أن خرجت جماهير غفيرة من الرأي العام المصري تعلن تمسكها بقيادة عبد الناصر رغم الهزيمة، و بالرغم من أن البغدادي و غيره يؤكد أن تنظيم الاتحاد الاشتراكي - و هو أحد أدوات النظام الناصري في تعبئة الجماهير خلف سياسات النظام و هو الذي حرك هذه المظاهرات، إلا أن آخرين كجمال حماد الذي كان محافظا لكفر الشيخ وقتها - مع إقراره لهذا الأمر فهو يؤكد أن هناك جماهير كثيرة تحركت من تلقاء نفسها و البعض من المحللين يفسر هذا التحرك الجماهيري بأنه حالة من الطفولة السياسية في حالات اليتم السياسي بفقدانه و يرى البعض الآخر أن هذه حالة من حالات الجيشان العاطفي الجماعي من شعب إزاء قيادته السياسية لا يمكن إرجاعه لأسباب موضوعية حقيقية، و الواضح أن عبد الناصر كان يدرك تماما الأثر الذي سيحققه البيان في الجماهير و هو ما عبر عنه حسين الشافعي - نائب رئيس الجهورية وقتها - أن عبد الناصر كان لاعبا سياسيا ماهرا يدرك الأثر الذي سيحدثه خطابه في الجماهير، و هذه الهزيمة كشفت عن أن الخلل الحقيقي و الذي أنتج هذه الهزيمة كان يتعلق بطريقة بناء الدولة و تنظيم المجتمع على أسس لا تكفل مشاركة قوى الرأي العام و بناء التنظيمات الشعبية الحقيقية القادرة على تغذية هذا البناء و دعمه، و هذه النتيجة ظهرت من البداية بشكل هدامي و غير محدد منذ يوليو 1967 حتى فبراير 1968 ، حيث حدثت المظاهرات الواسعة كرد فعل للأحكام المجحفة الصادرة بحق قادة الطيران و اعترف النظام السياسي بالخلل التنظيمي في الدولة و المجتمع في بيان مارس 1968، و لكن اتضح بعد ذلك أن هذا البيان كان مجرد تهدئة للرأي العام و على أية حال لم يتم إجراء أي تعديل جوهري في نظم الدولة و المجتمع خلال السنوات التالية حتى 1971 م بل لعل السلطة الفردية قد صارت أكثر تفردا بعد تصفيته لمراكز القوى التي كانت مشكلة في القوات المسلحة على يدي عبد الحكيم عامر و رجاله.

طبيعة القوة القائدة لتحرك الرأي العام المصري 1952 و إدراكها له:-

القوة القائدة لتحرك الرأي العام في 1952 هي الضباط الأحرار و كانت أهم سمات حركتهم هي:-

● كانت استجابة لروح العداء الاستعماري البريطاني، و كانت تنازع الحركة اتجاهان أما الانضمام إلى الأحزاب القائمة أو حصر الحركة السياسية لهم على مؤسستهم العسكرية و مع الوقت رجح الإختيار الثاني

● كونها حركة في نطاق بعيد عن الحركة الجماهيرية جعل رؤيتها للتغيير تنحصر في وسيلتي الاغتيالات أو الانقلاب و تأرجحت الحركة بين الوسيلتين حتى تقرر القيام بالإنقلاب العسكري عشية 23 يوليو 1952 م

● استغلال الضباط وضعهم الوظيفي بالجيش إما في فاعلية التحرك و هذه سمة عامة تظهر في كل حالات التحرك السياسي للمؤسسات العسكرية "الانقلابات العسكرية"، فالحركة لا تقوم بالشعارات أو البرامج السياسية التي ترفقها الأحزاب لتحريك الجماهير و قوى الرأي العام، و إنما عن طريق"الأمر الإداري" هي إظهار علامات الخضوع الرئاسي في شكل تعليمات تنفيذية محددة توكل إلى كل فرد أو جماعة ضعيفة دون إدراك المأمورين للهدف العام وراء ذلك، و من هنا نلاحظ حرص مخطط الحركة على أن يجذبوا بعض أصحاب الرتب بغيره نسبيا لملأ فراغ ما في عملية التنفيذ و بهذا جميعه أمكن تحريك القوى المؤثرة للمؤسسة العسكرية و بالقدر الذي مكن من الإنجاز المطلوب في صورة التنفيذية الملموسة

إدراك القيادة لدور الرأي العام المصري في علاقة السلطة السياسية في البيانات الأولى التي صدرت في أول أيام الحركة مما يفصح عن إدراكها لدور الرأي العام المصري و لنمط علاقتها السياسية به، فهي قامت نيابة عنه تفكر و تعمل له، فقد كانت تناشد الجماهير أن تخلد إلى الهدوء و السكينة و النظام دون دعوة للتحرك ، و دون طرح أهداف سياسية محددة يمكن أن تساهم الجماهير في صنعها مع القيادة، و قد جاء في البيان الذي أذيع يحمل نبأ تنازل الملك عن العرش في 26 يوليو 1952 م "لإن نجاحنا للأن في قضية البلاد يعود أولا و أخيرا إلى الهدوء و السكينة، إنني أتوسل إليكم أن تستمروا في إلتزام الهدوء التام حتى نستطيع مواصلة السير بقضيتكم في أمان"

و تفصح القيادة الناصرية عن رؤية متشككة في فاعلية الرأي العام المصري، فذكر في فلسفة الثورة ما يلي "و لقد كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأزمة كلها متحفزة متأهبة و أنها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور فتندفع الأمة وراءها صفوفا متراصة منتظمة تزحف زحفا مقدسا إلى الهدف الأكبر .....و كنت أظن أن دورنا هذا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات و يأتي بعدها الزحف المقدس للصفوف المتزاحمة المنتظمة إلى الهدف الكبير ... ثم فاجئني الواقع بعد 23 يوليو، قامت الطليعة بمهمتها و اقتحمت سور الطغيان و خلعت الطاغية، و وقفت تنتظر وصول الزحف المقدس للصفوف المزاحة المنتظمة إلى الهدف الكبير ..و طال انتظارها ... لقد صارت جموع ليس لها آخر .. و لكن ما أبعد الحقيقة عن الخيال ... ما كانت الجموع التي صارت أشياعا متفرعة، و فلولا متناثرة ... و تعطل الزحف المقدس إلى الهدف الكبير ... و بدت الصورة يومها قاتمة مخيفة تنذر بالخطر"

و الواقع إنها تتمة لما حدث للشعب المصري و لقوى الرأي العام المعبرة عنه تسلل الرعب في النفوس بالتدريج و مع الرعب و الخوف ظهرت السلبية و النفاق، و التحدث بلغتين، و جهر المرء بعكس ما يؤمن به من آراء و فقد الإنسان المصري قدرته على الرفض و الاعتراض، كما فقد ملكة التفكير العقلي المتزن، إذ كان القمع مصحوبا بحملة دعائية منظمة قائمة على أسس "علمية" مدروسة تستهدف في نهاية الأمر ألا يكون هناك سوى رأي واحد، و ألا يسمع الناس إلا وجهة نظر واحدة، تظل تردد و تكرر المرة تلو المرة إلى أن يصدقها كل من كان يقاومها و لم يكن مقتنعا بها في مبدأ الأمر، لقد أصبح الإنسان المصري من فرط خوفه و انكماشه يقبل أوضاعا ما كان يقبلها من قبل فأصبح يقبل باستسلام فكرة وجود قانونين، قانون للمحكومين و قانون للحاكمين، و هذا الوضع - وجود مثل هذين القانونين - قد يوجد في بعض الفترات التاريخية، و لكن أخطر الظواهر في التجربة الناصرية هي أن الناس أصبحوا بالتدريج يقبلون بهذه الإزدواجية بوصفها أمرا طبيعيا و لا يعلقون عليها و كأنها من طبيعة الأشياء، و لعل هذا هو التخريب الداخلي لنفسية المصري و عقله، فالمشكلة لم تكن انتشار مظالم و استثناءات، بل كانت في خلق نوع من اعتياد الانسان المصري عليها إلى حد أنه أصبح يراها شيئا طبيعيا، و بحيث يعتد الإحساس بالظلم، و تحول الاستثناء إلى قاعدة لا بد من قبولها بإستسلام.

و النتيجة النهائية للتجربة الناصرية - على المستوى الفردي - هي أن الفرد حتى لو فكر فلن يجدي تفكيره شيئا فالأمور تسير دائما كما يريد أصحاب السلطة، و على المستوى الجماعي فإن آلة القمع قائمة و مستعدة و الشعارات التبريرية جاهزة فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة لإخماد كافة الأصوات التي لا تنخرط في القطيع الذي تحول إليه سلوك الرأي العام المصري.

الدلالات الأساسية لعلاقة السلطة السياسية الحاكمة في الفترة الناصرية بالرأي العام:

يمكن الخروج من دراسة هذا النموذج و النمط بالدلالات التالية:-

1. الدلالة الأولى: تم الدمج عمليا بين السلطتين التشريعية المفترض أنها ممثلة للرأي العام و المحكومين و السلطة التنفيذية الممثلة للحاكمين، فقد استوعبت السلطة التنفيذية الوجود المستقل للمجلس التشريعي، و بذلك انتهت عمليا فعالية الرأي العام المصري كما رأينا.. أما بالنسبة للسلطة القضائية فقد تضمنت دساتير 1956 - 1958 - 1964 م نصوصا تمنع التقاضي بالنسبة لبعض مجالات نشاط الدولة مما عرف بنظرية أعمال السيادة في الفقه الدستوري، و أخرى تقضي بتشكيل محاكم خاصة عسكرية أو محاكم لأمن الدولة تحكم في أنواع معينة من القضايا غالباً ما كانت تلك القضايا المتعلقة بالرأي العام ....

2. الدلالة الثانية: المركزية الشديدة في بناء أجهزة الدولة حتى قمة الهرم الذي يتمثل في شخص رئيس الجمهورية، و قد منح جهاز الإدارة وظائف تتخطى حدود وظيفة التنفيذ الأصلية المنوطة به، فأوكل له رسم السياسات و تقريرها كنتيجة لازمة لارتباط الوظائف التشريعية و التنفيذية و اندماج سلطات الدولة، و تم ذلك بعيدا عن إشراك فعلي للرأي العام أو استجابة لمطالبه، كما جمع القائم على رأس الدولة سلطات تقرير السياسات و تشريعها و تنفيذها، و ظهر كمصدر للشرعية و منبعا للسلطة السياسية على نطاق المجتمع كله، و تشكل الهيكل التشريعي على أساس من هذه السلطات المركزة.

3. الدلالة الثالثة:استغناء التنظيم السياسي للدولة و المجتمع عن مبدأ الحزبية في عمومه - سواء تعدد الأحزاب أو الحزب الواحد - فقد فرضت الضرورات السياسية نفسها على الضباط و حركتهم فصار جهاز الدولة معهم هو الجهاز السياسي و الإداري معا، و لم يوجد بعده تنظيم سياسي حزبي له ذاتيته المتميزة عن الدولة، أو مكنة الإمساك بزمامها، بل العكس هو ما حدث، إذ تركزت السلطات في جهاز الدولة و تركزت فيه الوظائف السياسية المختلفة، و دارت التنظيمات السياسية الشعبية في فلكه بكل ما لذلك من آثار على الرأي العام المصري.

4. الدلالة الرابعة: تجسدها النجاحات الدعائية و الإعلامية؛ فقد كانت الدعاية الناصرية ناجحة إلى حد بعيد في ربط الناس بالسياسات المطبقة حينذاك، و التي كانت في أبعادها الخارجية موجهة سياسيا ضد الاستعمار الأجنبي و ما قام بإنشائه من تكتلات معادية، مع طرح فكرة الوحدة العربية على الصعيد الإقليمي، و موجهة في الداخل لإجراء قدر من التنمية الإقتصادية مصحوبة بقدر لا بأس به من عدالة التوزيع، لكن الذي ظهر بعد 1967 م أن النظام الذي بناه عبد الناصر لم يستطع الحفاظ على فعالية سياساته، و لا أن يحمي استقلال البلاد أو أن يحافظ على مشروع الاستقلال الوطني ككل، و كانت السلبيتان الأساسيتان في هذا الصدد هما:

الأولى: مسألة ابتعاد بناء الدولة و السلطة عن القيم و الإجراءات الديمقراطية

و الثانية: مسألة غياب الهوية و المرجعية الإسلامية.

و مع هزيمة 1967 م انكشف هذا الوضع و بدأت قوى المجتمع السياسية و الإجتماعية تطرح مواقفها و توجهاتها باحثة عن صياغة جديدة لمشروعها، و لكن التساؤل الذي يجدر طرحه في هذا المقام هو مدى استمرارية النجاحات الدعائية في رسم صورة ذهنية معينة لدى قوى الرأي العام المصرية،

فوفقا للمقولة السياسية الرائجة إنه يمكن خداع بعض الناس بعض الوقت و لكن لا يمكن خداع كل الناس طوال الوقت، فتجربة الدعاية الناصرية و التي قامت بدرجة كبيرة من النجاح - في إطار سلطة شمولية - بعملية صناعة للرأي العام المصري و نوع من غسيل المخ الجماعي تحتاج دراسة مفصلة في حقيقة الأمر و لو في إطار مقارن مع تجارب دعائية أخرى أثبتت الأحداث بعد فترة فشلها من قبيل: تجربة الدعاية النازية، و الفاشية، و السوفيتية، الأمر الذي لا مجال للتعرض له في هذا الموضع، و لكن الأمر الجدير بالملاحظة أنه برحيل القيادة الكاريزمية لعبد الناصر تراجعت معظم شعاراتها و سياساتها بشدة حتى أن البعض تحدث بعد إنقضائها عن عودة الوعي؛ الأمر الذي يثير على أوسع نطاق التساؤل حول مدى استمرارية نجاح السياسات الدعائية لأنماط السلطة السياسية الشمولية بشكل تنظيري عام

5. الدلالة الخامسة: عرفت هذه الفترة و جسدت ظاهرة الزعامة الملهمة "الكاريزمية" و التي جمعت الجماهير و حولتها إلى قوى لا يستهان بها؛ مما جعلها قادرة على الإستمرار في التوكيد على النداء الحركي للإستقلال، و ذلك ليس في الشارع المصري وحده، و إنما في الشارع العربي أيضا، فصار قوة محتشدة، و معبأة لصنع المستقبل، و لكن القيادة التي خرجت من المؤسسة العسكرية عجزت عن إقامة الأمة، فاستمرت بديلة عنها، و استفحلت المؤسسة الإدارية بجناحيها المدني و العسكري بديلا عن الأمة في القيام بأدوارها الحقيقية

ثانيا: نموذج التلاعب بمقومات و قضايا الرأي العام (1971-1981):

نستطيع القول أنه بمجيء الرئيس السادات إلى السلطة 1971 م كانت القضية الأساسية التي يمكن أن يتفاعل معها الرأي العام المصري في ذلك الوقت ذات شقين هما:

● الشق الأول: يتعلق بالقضية الوطنية - بمعنى تحقيق الإستقلال، أو بالأحرى تحرير الأرض المحتلة، فقد كانت سيناء محتلة منذ 1967 م و كان الاستعداد للحرب قائما، و كانت ثمة تصريحات قيادية مستمرة حول عام الحسم على صعيد هذه القضية..

● الشق الثاني: يتعلق بالقضية الديمقراطية؛ فقد اتضح منذ هزيمة 1967 م ضرورة التغيير السياسي الديمقراطي، و خطورة ما سمي في حينه "دولة المخابرات" و أهمية بناء نظام سياسي متطور يسمح بقدر - و لو محسوب - من الحرية السياسية و الديمقراطية و في الحقيقة فإن الرئيس السادات كان يدرك ذلك و يراه على المحك لتأسيس شرعية جديدة تختلف - و لو جزئيا في البداية - عن شرعية القيادة السابقة؛ فقد جاء الرئيس السادات إلى سدة الحكم

عام 1971 م يحمل توجها إلى القيام بأدوار معينة على صعيد السياسة الخارجية من قبيل الاهتمام بتحرير أرض سيناء عبر وسيلة التفاوض و التحالف مع أمريكا، و على صعيد السيـاسة الداخلية محاولة تغيير مسار الإقتصاد المصري من خلال التحول إلى المشروع الفردي الخاص و التوجه الرأسمالي، و لم يستطع السادات أن يحول هذا التوجه إلى أنشطة و أدوار حقيقية و سياسات معلنة إلا بعد أن قام بخطوتين مهمتين:-

● الخطوة الأولى: في المجال السياسي و الأمني حيث قام بالتخلص من القيادات المسيطرة حينئـذ على أجهزة السلطة السياسية في الجيش، و الأمن، و التنظيم الشعبي، و الإعلام منذ فترة عبد الناصر، و بذلك خطا خطوة سياسية على قدر عال من الأهمية، و في مجال الإقتصاد و الخدمات و التنمية حدث العكس - بمعنى معين - إذ كان عبد الناصر قد استعان في بدايـة الثورة بعناصر من داخل النظام أكثر يمينية، و كان متصورا أنه في أوائل الستينيات سوـف يتخلص منهم، و هو الأمر الذي لم يحدث كاملا، فقام السادات بإحياء أدوارهم و استـعان بهم في سياساته الإقتصادية الجديدة، و من هؤلاء على سبيل المثال، سيد مرعي، و د/ عبد المنعم القيسوني، و إذا كانت هذه الخطوة - بشقيها السياسي و الإقتصادي - تنصرف بالأساس إلى الجانب التنظيمي، و تهدف إلى إحكام القبضة على البلاد، فإن الخطوة التالية هي التي دعمت شرعية النظام السياسي و أكسبته تعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام المصــري.

● الخطوة الثانية: القيام بخطوة جادة لتصفية آثار هزيمة 1976 م، و كان الرأي العام المصري سواء بالنسبة لتحركات الطلاب 1972، أو حتى في إطار تعاطف مجموعة المثقفين معهم يضغط في هذا الإتجاه، و من هنا كانت حرب أكتوبر 1973 م خطوة بالغة الدلالة في تأسيس شرعيته السياسية الجديدة "و كما سلست قيادة مصر لعبد الناصر بعد تأميم القناة و فشل العدوان الثلاثي 1956 م كذلك سلس قياد مصر للسادات بعد أن خاض حرب أكتوبر 1973 م" و التي كانت تدعيما لشرعية النظام، و لازمة لما سيأتي بعدها من سياسات تهدف إلى تغيير جزئي في طبيعة النظام، فبدأ بعدها في سياسة مزدوجة:-

○ التوجه على الصعيد الاقتصادي نحو اقتصاد السوق الحر، من خلال إقرار قانون الرأسمال العربي و الأجنبي رقم 43/44 لسنة 1974، و الذي دشن ما عرف بسياسة الانفتاح.

○ التعددية السياسية، أو الخروج من إطار التنظيم السياسي الواحد لإطار التعدد الحزبي، و قبل ذلك كانت خطوة وضع دستور مصر 1971 م، و الذي أطلق عليه في ذلك الوقت دستور مصر "الدائم"، و دون دخول في تفاصيل - فإن اللجنة التي وضعت الدستور المصري، كانت "لجنة حكومية"، ولا يعني ذلك أن الرأي العام المصري في ذلك الوقت لم يكن متحمسا لموضوع الدستور، بل إن العكس صحيح فهذا الدستور - رغم أنه أقل في ضماناته للحريات من دستور 1923 م - إلا أنه بوجه عام يعد خطوة للأمام و مكسبا ديمقراطيا مهما. و إذا كانت الصحافة قد لعبت أدوارا إيجابية - باعتبارها الصوت الناطق بلسان الرأي العام - بصدد دستور 1923 م ؛ لأنها كانت تتمتع بقدر كبير من الحرية، فإنها أيضا لعبت دورا إيجابيا، و إن كان بدرجة أقل، قياسا على هامش الحرية و الديمقراطية المتاح لها - بالنسبة لدستور 1971 م، و من ناحية مضمونه فإن دستور 1971 م يتسم بتركيز اختصاصات السلطة السياسية في الرئاسة. و صدر بعد ذلك قانون الأحزاب السياسية 1977 م، و قامت تجربة التعددية الحزبية المقيدة، و التي لا تزال مستمرة - طيلة ربع قرن من الزمن - حتى اليوم دون حدوث تغيير حقيقي أو نقلة نوعية مهمة في هذا الصدد اللهم إلا المزيد من التراجع في الفعالية.

ممارسات السلطة السياسية الحاكمة و تفاعلها مع الرأي العام المصري:

رغم غناء هذه التجربة بالنماذج التي يمكن دراسة واقع تفاعلها مع الرأي العام المصري إلا أننا نتوقف أمام لحظة محددة - لها آثارها و امتداداتها حتى الآن لنحللها: -

لحظة الاحتجاج الشعبي على القرارات الاقتصادية 18-19 يناير 1977م:-

1. الأسباب و المبررات: صاحبت سياسة الانفتاح بعض الخطوات لتحقيق اقتصاديات السوق الحرة و من عناصرها المهمة: إلغاء الدعم لسد العجز في ميزانية الدولة، و تحريك الأسعار، و رفعها لتقترب بالتدريج من أسعار السوق الرأسمالية في الخارج، و كان أن اتخذت في 16 يناير بعض القرارات المتعلقة برفع الدعم عن السلع الأساسية مثل، الدقيق، و الأرز، و الشاي، و الغاز و التي كانت تسمح للجماهير العريضة الفقيرة بالبقاء على قيد الحياة، و ذلك وفقا لتوصيات صندوق النقد الدولي، و قد جاء ذلك في ظل أوضاع اقتصادية متردية و مع موجة من الغلاء العامة، فقد ارتفعت الأسعار بالفعل خلال خمس سنوات بنسبة 120 % بينما بقيت الأجور على حالها، و بدأ الفقر يتزايد بسرعة، و كانت مصر تريد جدولة ديونها الخارجية،

2. الأحداث و الوقائع: كانت حركة الطلاب و الانتفاضة الشعبية بمثابة رد فعل واسع و شامل على القرارات السابقة و كان تسلسل الأحداث يوحي بعفوية التحرك فقد سيطر على ميدان التحريربالـقاهرة مثلا، عدة آلاف من الصبية تتراوح أعمارهم بين العاشرة و الثانية عشرة، كان سلاحهم أكواما من الطوب و الحجارة جمعوها من أمام بعض المباني التي ما زالت تحت الإنشاء، و كانوا يحرقون السيارات و يعتدون على الركاب، و قد ازعجت الأحداث في عمومها و شـمـولها القيادة السياسية فصدرت الأوامر بنزول قوات الجيش للشارع لقمع المتظاهرين، و كانت الصورة الرسمية للأحداث على لسان رئيس الوزراء أنها مؤامرة قام بها الشيوعيون و اليساريون و الناصريون للقضاء على ثورة 15 مايو 1971، و التي اعتبرتها القيادة كذلك حين تخلصت من منافسيها السياسيين في انقلاب قصر بعد موت عبد الناصر؛ و بالتالي جميع إنجازاتها السياسية و العسكرية و الإقتصادية ... و أن العناصر المتآمرة اتفقت على أن تكون ساعة الصفر صدور القرارات الاقتصادية الأخيرة، و أيد وزير الداخلية وجهة نظر رئيس الوزراء، و أكد أنها مؤامرة سياسية هدفها قلب نظام الحكم

3. الدلالات الأساسية لهذه اللحظة التاريخية: لعل أهم الدلالات التي يمكن أن نخرج بها من تحليل هذه الأزمة بالنسبة لعلاقة السلطة السياسية بالرأي العام فيما بعد: أمران على درجة عالية من الأهمية:

a. تعلمت السلطة السياسية الدرس من هذه المظاهرات، و أدركت أن عليها عدم اللجوء في تعاملها السياسي أو اتخاذها القرارات التي تمس بالسلب مصالح قطاعات واسعة من الرأي العام للمواطنين إلى الأسلوب المباغت، أو الشامل في المعالجة، لأن ذلك سيقود إلى ردود أفعال يصعب التمكن من مآلاتها أو نتائجها النهائية على وضعية السلطة السياسية الحاكمة ذاتها، و الاعتماد بدلا من ذلك على أسلوب "التسريب" و اتخاذ القرار بالتجزئة خطوة بخطوة و قياس ردود الأفعال باستمرار على السياسات ثم تبديل القرارات بناءا على ذلك الأمر: مما يعني اعتماد سياسة الخطوات المحسوبة كاستراتيجية للوصول إلى الهدف النهائي بدلا من سياسة القفزات و الصدمات غير المحسوبة النتائج، و اعتقادنا أن السياسات المعبرة عن هذا النمط لم تخرج في تعاملها مع قوى النمط العام عن ذلك منذ هذا الوقت و حتى الآن - ربما باستثناء الأحداث الشهيرة سبتمبر 1981، و التي أودت بحياة القيادة السياسية في النهاية - فالأسلوب التدريجي المحسوب و المتراجع أحيانا هو الدرس الذي خرجت به السلطة السياسية الحاكمة في علاقتها بالرأي العام من جراء التفاعل مع هذه الأحداث، و هو الأسلوب الذي نلحظ أنه نهج النمط الثالث في النموذج كما سيأتي فيما بعد.

b. ارتباط الإصلاح الداخلي خصوصا في الجوانب الإقتصادية بنهج معين على صعيد السياسة الخارجية، و بالذات بالنسبة للقضية المحورية، و هي الصراع مع الكيان الصهيوني، و تحديد نمط العلاقة مع العدو الذي لا يهدد الأمن القومي، فقد لجأت الحكومة إلى تحريك الأسعار أو رفع الدعم حتى لا تلجأ إلى تقليل الإنفاق العسكري، و كان ذلك أحد الأسباب التي قالها القيسوني في أعقاب انتفاضة 1977 باعتبار أن الإنفاق العسكري، هو المسؤول الأساسي عن تدهور الأوضاع الإقتصادية، و لا بد من التعامل معه و تخفيضه، لتوفير الإنفاق العام الذي تستطيع السلطة السياسية أن تلجأ إليه عند اللزوم لتفادي ما قد يحدث مستقبلا من حركات قوى الرأي العام، و الجدير بالذكر أنه لم تمر سوى أشهر معدودة إلا و كان السادات يزور القدس في نوفمبر 1977 و من هنا كان التحول في السياسات و بداية مسيرة الصلح السياسي مع إسرائيل.

و قد ترافق مع ذلك الربط في الخطاب الإعلامي و الدعائي - و في أحيان كثيرة السياسي بين الرخاء و الاستثمارات الأجنبية التي ستأتي بعد السلام، و وضعت المعادلات الدعائية المختلفة من قبيل الحرب تعني الجوع، و السلام مع إسرائيل تعني الرخاء، و لعل ذلك يفسر جزئيا الاستقبالات الشعبية الحافلة للسادات حال رجوعه من القدس 1977 م ، الأمر الذي يعكس بدرجة من الدرجات نجاح الحملات الدعائية في ذلك الوقت...

و قد كان الخطاب الساداتي واضحا فيما يخص قضايا السلام مع إسرائيل، إذ هو ثمن الرخاء للشعب، و وسيلة مداعبة حلم الجماهير بالرفاهية المادية، و قد كان حلم الرخاء تفجيرا لطموح قطاعات الرأي العام المصري لحيازة وسائل و مستلزمات السعادة المادية؛ مما أسهم بدرجة من الدرجات في نوع من الاختلال القيمي داخل الطبقة الوسطى و الطبقات الفقيرة في المجتمع المصري، و خلق طبقة من أثرياء الانفتاح الجدد جاءت معظم ثرواتهم عبر طرق غير مشروعة، كما أدى ذلك إلى درجة من درجات التسمم السياسي لمدركات هذه القطاعات من الرأي العام المصري، و الواقع أن ما يذهب إليه البعض من أن السادات سبق عصره خاصة إزاء سياسات الصلح مع الكيان الصهيوني في حاجة إلى مراجعة شديدة - في رأينا - في ضوء ما آلت إليه مسيرة التسوية السياسية مع الكيان الصهيوني على الأقل في الوقت الحالي.

السمات العامة للتجربة في تعاملها مع الرأي العام المصري

يمكن القول بأن هذه التجربة على الرغم من قصر عمرها نسبيا إذ لم تزد على أحد عشر عاما فإنها قد أوضحت عددا من الملامح الأساسية في التعامل مع الرأي العام المصري يمكن إيجازها في الخطوات التالية:

1. الإستخدام المفرط من القيادة لوسائل الإعلام و الدعاية: كانت القيادة السياسية المصرية يسيطر عليها الرغبة في تحقيق النجومية، "فقد كان السادات واحدا من قادة العالم الثالث الذين فهموا إمكانيات ثورة وسائل الاتصالات، و في بلد مثل مصر، فإن التليفيزيون غير أنماط الحياة بالنسبة للناس العاديين و بطريقة لا يمكن التقليل من أهميتها.. كانت مشكلة "السادات" أنه و هو ابن عصر التليفيزيون لم يستطع مقاومة إغراء الإفراط في استغلاله .. لقد كان بطلا في عصر الثورة الإلكترونية و لكنه كان أيضا ضحية لهذا العصر"، و نتيجة لذلك فإنه استطاع أن يخلق دائرته الانتخابية الخاصة، و للمفارقة فإن مقياس النجاح و الفشل فيها لا يقاس بعدد الأصوات التي يحصل عليها فيها، أو بحج الأغلبية التي تقف وراءه في البرلمان، بل تقاس بعدد المرات التي ظهرت فيها صورته على أغلفة مجلات مثل: "التايمز" و "نيوزويك" و عدد المرات التي ظهر فيها على شاشة التليفيزيون في أحاديث مع أمثال: "والتر كرونكت" و "باربرا والترز" و "دايفيد فروست"، و من هنا فمن المتوقع أن تكون شعبية السادات و علاقته بالرأي العام العالمي "الغربي تحديدا" أقوى بكثير من علاقته بالرأي العام المحلي المصري، أما بالنسبة للرأي العام المصري فإن السادات تعامل معه من منطلق "الرعوية" و "الأبوية السياسية".

2. التوحيد بين شخصية الحاكم و الدولة "منطق الأبوة السياسية": من المباديء المعروفة في الفقه السياسي و الدستوري أن الدولة يصبح لها شخصيتها المعنوية المستقلة حينما تتحقق سمة أساسية هي الفصل و التمييز بين "شخص" الحاكم، و بين "الدولة" كشخص معنوي مستقل، كما يتم الفصل بين ميزانية الدولة و بين الأموال الخاصة بالحاكم، و قد تواترت الدراسات السياسية و القانونية في التأكيد على هذه الحقيقة البدهية غير أن ثمة نظرية ترجع بجذورها إلى الفكر السياسي فيما قبل العصر الوسيط في تفسير طبيعة السلطة السياسية - وفق نظرية الأبوية - فالحاكم يتم النظر إليه باعتباره في منزلة الأب، و له على مواطنيه أو رعاياه من الحقوق و الواجبات مثل ما للأب على أسرته و قد لفظت النظريات الحديثة لتأسيس السلطة السياسية هذه الرؤية بداية من ظهور النظريات التي تقول بالأصل التعاقدي للسلطة السياسية، كما رأينا من قبل، و يكشف تحليل الخطاب الساداتي درجة كبيرة من التوحد بين شخص الحاكم "السادات" و الدولة "مصر" فقد ذهب الرئيس السادات إلى أن الذين ينتقدونه أو ينتقدون أداء نظامه السياسي إنما ينتقدون الدولة أو مصر، و الذين يختلفون معه سياسيا إنما يختلفون مع مصر و تقاليدها و أخلاقها!! و كان يتحدث عن البعض بأنهم "أعداء مصر" و البعض الآخر "أولادي" و لا غرو فقد كان لقبه الأساسي "رب العائلة المصرية"؛ و كانت السياسات تأتي بالفعل من هذا المنطق الأبوي. و بالطبع فإن هذا يجسد نمطا من العلاقة مع الرأي العام المصري يقوم على درجة من درجات الوصاية - ناهيك عن النصح و التوجيه - التي تخولها الشرائع و الأعراف للأب على أبنائه جميعا.

3. سياسة "الصدمات" و التأزيم و جذب الانتباه:- تتعلق هذه بالناحية الإجرائية لتنفيذ مضامين السياسات التي اتبعها الرئيس السادات، فقد كان يلجأ في قراراته السياسية - خاصة القومية أو المصيرية منها - إلى أساليب لا تعتمد على الرأي العام بقدر ما تجسد بعض خصوصيات النمط المصري في التعامل السياسي، فقد كان يخلو أحيانا و "يعتكف" قبل إصدار بعض القرارات المهمة، و كان يعتمد سياسات التأزيم لإختبار قوة الأطراف التي تقف في مواجهته، و في هذا الإطار كان يتبع أسلوب "القرارات السريعة" و "المفاجئة" و هو الأسلوب الذي أطلق عليه في حينه "أسلوب الصدمات" في اتخاذ القرارات السياسية. و بالطبع فإن ذلك يخلق أقصى حالات الإثارة للرأي العام المصري لا يمثل أي نوع من محاولات إشراكه.

4. لم تتغير على الصعيد العام السمات الأساسية للسلطة السياسية في علاقتها بالرأي العام عن النموذج السابق، و كل ما حدث لا يخل كثيرا بطبيعة تركيبة السلطة السياسية، إذ كل ما هنالك أنه خفت ملامح تعبئة الرأي العام خلف قضايا محددة، و ظل الرأي العام في معظم الأوقات مكتفيا بالمشاهدة و الموافقة لا المشاركة و الفعالية



  • وائل توفيق محمد
    باحث في التاريخ و العلوم السياسية، و باحث في مركز الإمام الغزالي للدراسات، حاصل على ليسانس آداب قسم الدراسات التاريخية، و حاصل على دبلومة في العلوم السياسية، و أقوم الآن بعمل ماجيستير في التاريخ الأمريكي، أبلغ من ...
   نشر في 18 يناير 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا