بداية أن الإنسان لا يسعى نحو التجديد مجردا ؛ فإذا اقتضت ظروف التقدم والحياة بأن يهجر الإنسان بعض الأساليب القديمة ؛ لأنها لم تعد ذات جدوى أو أنها أصبحت غير قادرة على إشباع الرغبات أو إنجاز المطلوب بالشكل وفى الوقت الواجب أن يكون ؛ فان الأمر يتطلب البحث عن الجديد ؛ لأن البحث عن الجديد أولا يخرج من نطاق الحاجة إليه ؛ فالحاجة أم الاختراع كما يقولون.
أيضا إن محاولة الإتيان بالجديد والوصول إليه تتطلب أيضا أن يكون هذا الجديد أمرا واقعا ؛ بمعنى أن الإنسان حينما يسعى أن يجدد شيء ما ؛ فانه عندما يصل إلى هذا التجديد ويصل إلى قبول المجتمع به والتعامل معه ؛ فانه يسعى بالضرورة إلى أن يسود هذا الجديد لفترة من الزمن حتى يأتي الوقت الذي يتقادم فيه ؛ ليس زمنيا فقط ولكن لعدم مقدرته على إشباع الحاجة أو التعبير عن الواقع
وإذا اقتصرنا حديثنا على الفن وخاصة المسرح فانا أرى كما قلت سابقا أن التجديد في هذا المسرح من خلال التجريب يجب أن يخرج من نطاق حاجة وليس مجرد التجديد فقط ؛ وأيضا كما قلت سابقا فان التجريب نحو التجديد يجب أن يكمن في داخله الرغبة في استقرار هذا الجديد ومحاولة جعله نموذجا يزيح أو يجاور النماذج الأخرى القديمة 0 فلا يعقل أن يجرب الفنان المسرحي في عمل ما ثم يأتي في العمل الذي يليه بمحاولة تجريب أو تجديد أخرى ؛ إلا إذا اعترف بأن محاولته السابقة كانت فاشلة لأنها لم ترتكن على أساس صحيح سواء كان هذا الأساس علميا أو فنيا أو يعود إلى تجاهل حاجة الناس / المجتمع / الجمهور ؛ وعلى هذا يمكن أن يجرب مرة أخرى بشكل آخر ولكن ليس في اتجاه آخر ؛ لأن هذا يعبر بكل بساطة على أنه لا يملك شيئا كي يحاول أن يقدمه.
فأنت ترى أن هذا الأسلوب أو هذا الخطاب أصبح غير ذات جدوى أو أنه لا يعبر بالشكل الكافي عن طبيعة المرحلة المعاشة بكل متغيراتها ؛ فتفكر في الكيفية التي يجب أن يكون عليها الأسلوب الجديد ؛ وأيضا تفكر في مضمون هذا الخطاب الجديد ؛ وفي محاولة المزاوجة بين الخطاب والأسلوب ستضع تصورا تدرك يقينا داخلك بأنه هو التصور الذي يقترب جدا من الصحة أن لم يكن هو التصور الصحيح كلية ؛ وعندما تضع هذا التصور ستبدأ في تنفيذه ؛ وبالطبع أن النجاح من المرة الأولى غير مستحيل نعم ولكن في معظم الأحيان يتطلب الأمر أكثر من محاولة للوصول للتصور المفترض وحتى تصل إلى قبوله سواء من العامة أو الجمهور النوعي الذي بدوره سيأخذ على عاتقه توصيل هذا الجديد للعامة ؛ وان كان هذا الجديد فعلا يتواصل مع المتغيرات ؛ بمعنى أنه يتجاوز شكلا ماضيا ليتجاور مع الواقع ؛ فان قبوله من المجتمع لن يأخذ وقتا طويلا.
ولا تندهش إذا قلت إن التجريب أو التجديد يجب أن يكون نحو الواقعية. الواقعية بمعناها العام الكلى الذي من الممكن أن يأخذ أسماء مختلفة بتغير الزمن
وإذا كان الحديث عن المسرح فأنت تعرف بالضرورة أن المسرح الاغريقى بكل أبطاله وآلهته _ المسرح الروماني أيضا _ كان يتماشى مع واقع الناس آنذاك؛
فالناس كانت تؤمن بتلك الآلهة وتعرف أن كل ما يحدث حقيقيا أو من الممكن أن يحدث.
حتى في مسرح الأسرار والمسرح الذي كانت ترعاه الكنيسة كانت العامة أو الجمهور تعتقد اعتقادا تاما بواقعية ما يقدمه هذا المسرح حتى ولو كان يتحدث في بعض الأحيان عن أمور ميتافيزيقية ؛ وعندما كان الاتجاه إلى الكلاسيكية فان هذا الاتجاه كان نتيجة حتمية للدعوة التي نادت بالعودة إلى المنابع الحضارية الأولى وأصبح الناس في حياتهم اليومية يتمثلون أمامهم هذه الحضارة وخرجت رموزها وأسماؤها لكي تكون واقعا حياتيا معاشا؛ وعندما جاءت الثورة الصناعية فان الواقع الحياتي الذي فرضته المتغيرات التي جاءت نتيجة الاكتشافات العلمية والجغرافية هو الذي جعلهم يبدعون الرومانسية . وعلى هذا عليك بالقياس لكل المتغيرات ثم المدارس الفنية والفكرية المصاحبة بدءا من الواقعية كمدرسة فنية وصولا إلى ما يسمى بما بعد الحداثة.
إذن فالمتغير أولا ثم المدرسة الفكرية والفنية التي تصاحب هذا المتغير لأنها ببساطة هي الأكثر قدرة على التعبير عنه وعلى التعبير عن الفرد والمجتمع في ظل هذا المتغير. فالأمر إذن بكل بساطة أن التجديد في المدارس والأشكال الفنية يخرج من نطاق واقع متحقق أو على وشك التحقق ؛ وهذا الواقع الذي هو على وشك التحقق يستطيع الفنان الواعي الموهوب أن يراه جيدا ؛ وعلى هذا جاءت المقولة بقدرة الفن على التنبؤ ؛ هو ليس تنبأ بالمعنى الحرفي ولكنه القدرة على النفاذ والقياس وربط الأمور ببعضها لأن نفس المقدمات تؤدى إلى نفس النتائج ؛ وان تغيرت مقدمة ما لسبب أو آخر فبالضرورة سوف تأتى النتيجة مختلفة بقدر تأثير هذه المقدمة على الناتج النهائي .
فالتجديد لمجرد التجديد شيء مثل دعاوى الفن للفن ؛ وإذا تمعنت جيدا في حركة التاريخ ككل ثم الحركات الفنية والفكرية – لاداعى لأن نكرر أنه لا يوجد فن بدون فكر وأن الحركة الفنية مرتبطة بحركة فكرية وهذه الحركة الفكرية أيضا مرتبطة بالتغير – فسوف تجد أن التجديد والتجريب الذي أتى بهذا التجديد هو شيء متجاور مع واقع المجتمع المعاش ؛ وفى بعض الأحيان القليلة جدا فأنه يسبق حركة الواقع بخطوة أو أقل نتيجة لوجود فنان مفكر لديه القدرة على النفاذ والرؤية والقياس الجيد كما قلت سابقا .
نعم التجريب والتجديد مطلوبان ؛ ولكن لهما شروطهما التي يجب أن تتوافر ؛ نعم شرط المعرفة بكل ما سبق ضروري ؛ ولكن الشرط الأهم هو أنك تجدد لأنك تعتنق مقولة ما؛ ترى أنها يجب أن تقدم في شكل ما وبأن هذه المقولة وهذا الشكل ضروريان نتيجة المتغير ؛ وأن هذا الشكل وهذه المقولة يجب أن يستمرا في الحياة ؛بل وأن يسودا مادام المتغير الذي أدى لوجودها موجودا ؛ وعندما تصل لهذا الأمر فان خلود هذا الشكل وهذه المقولة أمر حتمي ؛ لا تدهش فما زالت الكلاسيكية والرومانسية...الخ موجودة برغم أن الواقع قد تجاوزهم .
على هذا فإن هذا الجديد الذي يواكب الواقع بمتغيراته يجب أن يكون قادرا على الصمود لفترة تمتد أو تقصر حسبما امتد أو قصر الظرف الاجتماعي/ الفكري / الحضاري ؛ وقلت قبلا إن هذا لو تم فسيكون هناك بعضا من الخلود لهذا النموذج الفني / الفكري حتى لو أتت المتغيرات الحضارية والفكرية بما يتجاوزه كثيرا أو قليلا .
والكلام هنا لا يناقض بعضه ؛ ولكنه يتسق مع الغرض من كل هذه الكلمات ؛ فالواقع المعاش سواء كان في الماضي أو حاضرا تتلمسه بيدك وسيكون هناك أيضا مستقبلا أن التجاور موجود منذ البدء إلى قيام الساعة ؛ وإذا اقتصرنا الحديث على الفن المسرحي فأنت تري أن هناك كلاسيكيات ورومانسيات وواقعيات وعبثيات... الخ مازالت تقدم إلى الآن ويكون هناك الاستمتاع بها بدرجات مختلفة.
لماذا هذه الدرجات المختلفة للاستمتاع والقبول لشيء اقترضنا مسبقا أن الظرف الاجتماعي قد تجاوزه؟
أولا لأن المجتمع كأفراد لا تتحرك مع بعضها البعض بصورة تامة ؛ فإذا غلب مزاج ما على مجتمع في فترة معينة لا يعنى هذا بالضرورة أن هذا المزاج يضم كل أفراد هذا المجتمع ؛ ولكنه يعنى أن غالبية أفرداه ينضمون تحت لواء هذا المزاج . فأنت ترى إلى الآن الرومانسي والكلاسيكي ...الخ كأشخاص في الحياة الواقعية 0 وهؤلاء الأشخاص الذين يرفضون حركة المجتمع في الاستمتاع بشكل فني جديد لهم تواجدهم ؛ بل ولهم بحكم وجودهم العمري مكانتهم في هذا المجتمع ؛ بل أنهم في غالبية الأحيان يكونون أكثر قدرة على اتخاذ القرارات من غيرهم بحكم وجودهم في مراكز صنعه وفرضه أمرا واقعا حتى ولو تعارض مع واقع الأغلبية – وهذا ليس بمكانه الآن - المهم أنه هناك في المجتمع الواحد تجاورا في الأمزجة والطبيعة البشرية تقول بحتمية عدم التوافق التام بين أفراد المجتمعات حتى ولو كانت ذات أنظمة شمولية أو يغلب عليها الدكتاتورية ؛ أضف إلى هذا الطبيعة البشرية في التشوق والحنين للماضي .
ولكن النقطة الهامة والضرورية التي لابد أن تعيها جيدا أن هذا التجاور وهذا التواجد يكون فقط من خلال الموضوع لا الشكل ؛ بمعنى انه من الممكن أن تقدم مسرحيات مكتوبة بالطريقة الكلاسيكية أو تنتمي للرومانسية ... الخ ولكن هل تقدم بالشكل الذي قدمت به من قبل ؟ إن أغلبية هذه المسرحيات التي تأخذ البعض من صفات الخلود وتملك القدرة على التواجد في أزمنة متغيرة تعالج موضوعات إنسانية عامة لا تتغير تبعا للمتغير الحضاري ؛ كما أنها تكون مكتوبة بطريقة جيدة كاشفة لأغوار النفس البشرية وطبيعتها المعقدة في مواجهة الإنسان مع نفسه ومع الآخر وعلاقاته بالقوى التي تتحكم في الكون سواء كانت قوى ميتافيزيقية تستعصي على المنطق ولكنها تريد ويكون لها ما أرادت، أو قوى الطبيعة والحضارة والعلم التي لها منطقها الخاص بها والذي لابد أن يكون مادامت ظروف تواجده موجودة ...باختصار هذه المسرحيات تملك في داخلها عوامل بقاءها بقدر تعبيرها عن النفس البشرية وعن المبادئ العامة للحق والخير والجمال . ولكن مع كل هذا فان هذه النصوص عندما تقدم الآن فأنها بالضرورة تقدم بالشكل الذي يتوافق مع الآن ونحن ؛ أي ببساطة تتوافق مع المجتمع الذي تقدم له ومن خلاله ؛ أي أن هذا التقديم لابد أن يتوافق مع واقع معاش ؛ فلا يمكن أن تتوقع أن يكون هناك تقديما لمسرحية ميديا كما قدمها يوربيدس مثلا أو حتى الخال فانيا كما قدمها ستانسلافكى ،ألا إذا كنت تريد أن تستمتع بالعرض كما تستمتع بمشاهدة أهرامات الجيزة وسور الصين .
وباختصار إن التجديد والتجريب في المسرح يخرج من خلال طريقين . الطريق الأول وهو التجديد منذ البداية أي التجديد من خلال النص المسرحي بحيث يكون هناك معالجات جديدة أو موضوعات جديدة ، وبالطبع فان هذا الجديد على هذا مستوى الكتابة سيتطلب أن يكون هناك تجديدا على مستوى التقديم للجمهور . وهذا الأسلوب هو الأسلوب الذي أفرز كل المدارس الفنية ؛ والجديد الذي خرج من صلب الموضوع الأساسي ، أي من صلب المتغير الفكري والاجتماعي والذي يزيح موضوعات ونظرات للكون قد أكل عليها الدهر هو التجديد الذي يملك أولا عوامل بقائه ما بقيت الظروف التي أنتجته ؛ ثم بعد ذلك يمكن للمادة الأولية لهذا التجديد وهى النص أو الموضوع أن تسبح كي تسير مع تيار الزمن لتقدم مستقبلا بأشكال تتواءم مع التغيرات اللاحقة .
وطبعا فان الطريق الثاني سيكون عن طريق محاولة التجديد في شكل التقديم للأعمال أو النصوص أو الموضوعات ، فالتجديد سيكون في الأسلوب لا المضمون – مع اعترافي المسبق بأن تغير الأساليب من الممكن أن يغير بعض المضامين ولكني هنا أتكلم على العموم – وعلي هذا فالخلاصة أن هناك تجديدا يبدأ من الرسالة والمضمون أي يبدأ من حركة الكاتب / المفكر كي يأتي بما يساير عصره وواقعه وما قد يطبق عليه القياس العلمي في محاولة استشراف الواقع الجديد الذي يكمن على بعد خطوة أو خطوتين . أو التجديد في تقديم هذه الأعمال من جديد وإخراجها مرة أخرى لتقدم لجمهور هو بطبعه متغير عن الجمهور الذي قدم له العرض لأول مرة حتى ولو كان الفصل لمسافة زمنية قصيرة أو مسافة مجتمعية حضارية في زمن واحد ؛ أي المخرج في الأساس يجب أن يعرف جمهوره حتى يعرف كيف يخاطبهم فكما يقولون لكل مقام مقال حتى ولو كان الأسلوب مختلفا عن الأسلوب أو الأساليب التي اعتادها الجمهور، فيجب أن يكون هذا الأسلوب الجديد محققا بالإضافة للشكل الجمالي الذي يراه المخرج يجب أن يحوى بداخله عناصر تفسيره متماشية مع المنطق .. منطق العمل الفني ذاته الذي من الممكن أن يتعارض مع المنطق المعروف . وبالطبع فان التفسير سيرتكز على الإطار المعرفي للمتلقي - حتى ولو كنت ستضيف معرفة جديدة - والحكم على هذا الإطار المعرفي يجب أن يكون من واقعه لا من تهويمات أخرى فلن نقول انه من الممكن مستقبلا أن... لأنك تقدم هذا العرض الآن ؛ مع الوضع في الاعتبار بعض العلامات المتغيرة التي من الممكن أن تختلف دلالتها من مجتمع لآخر حتى ولو كانت هذه المجتمعات يضمها قطر واحد. ولا يخرج أحد قائلا بأن مثل هذه العروض تتطلب جمهورا نوعيا لا الجمهور بإطاره العام . فحتى ولو كان هذا فان هذا الجمهور النوعي يكون من المفترض وجوده أساسا ، أي أن المخرج أو من يقدم هذا العمل الفني يعلم يقينا بأن هذا الجمهور النوعي موجودا ؛ ومادام موجودا فهو يحمل سمات ؛ ومن هذه السمات أيضا الإطار المعرفي الذي من خلاله سيمرر من يتصدى لتقديم العمل الفني فكرته أو مقولته لهذا الجمهور ؛ قل عدده أو كثر ؛ وعلى هذا فان هذا الجمهور النوعي شرط أساسي من شروط وجوده والقبول به وبحقه في أن يرى شيئا مختلفا ؛ هو أن يكون له وجودا واقعيا ,وبأن يطرح عليه قضايا واقعية تتماشى مع نوعيته.
والتجريب في الأسلوب له أساسياته . فأنت تجرب يقينا للوصول لنتيجة أنت تراها سلفا؛ بالفعل كما يفعل من يجرب في معمله ؛ فأنت تفرض الفرضية التي تكون متأكدا من صحتها ثم تعمل على إثباتها من خلال تثبيت بعض العناصر والتجريب في عنصر أو اثنين على أكثر تقدير للوصول إلى النتيجة المرجوة . وان لم يتحقق هذا الوصول من المرة الأولى تكون هناك المحاولة الثانية من خلال نفس العنصر أو العنصرين بتبديليهما أو وجود أشياء أخرى محفزة أو وضع المناخ الملائم، لأنه إذا كانت معرفتك جيدة وقياساتك صحيحة فسوف تصل إلى فرضيتك التي بنيتها على أساسك السليم لا محالة . أما من لا يملك المعرفة ولا القدرة على القياس والتشوف فليس من حقه أن يجرب لأن النتيجة بالطبع سوف تكون انفجارا في وجهه ووجه الجمهور موضوع التجربة .
وعلى هذا فان خلق التأثير المغاير و تحميل المضمون بمعنى أوسع أو أخص هما من السمات الأساسية للتجديد الأسلوبي – تم هذا في دورة من أنجح دورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي و كان عنوانها الأساسي هو التجريب في مادة كلاسيكية والرجوع إليها والى ما كتب عنها وما قدم فيه لمن أراد التوسع في الأمر - للوصول إلى حالة جمالية جديدة تستوعب التغيير النسبي في الأذواق والقدرة على التلقي التي عادة ما تسبق التجديد الشامل الذي يشمل الشكل والمضمون ؛ فهناك من يجرب في الإضاءة وهناك من يجرب في الأداء وهناك من يحاول أن يبتكر أسلوبا آخر للحركة ..وهكذا ولكنك لن تستطيع أن تجرب في كل عناصر العرض أو معظمها مادمت لم تقف في طليعة المتغير الفكري والحياتي .
وإذا كان هذا الحديث يعتمد حركة شباب المسرح كمادة تطبيقية له*؛ فهل هذه العناصر والأقوال والمحاولات التجديدية موجودة في حركة تعتمد أساسا على الشباب والمراهقين؟ – المراهقين هنا صفة عمرية ولا تحمل أي معنى آخر- .
الإجابة على هذا السؤال تدعو للتفاؤل فهناك محاولة جادة لكتابة النص الجديد الذي بدوره يستوعب الجدة في كل عناصر العرض وهناك أيضا من يحاول أن يجدد في الأسلوب ؛ وتكون النجاحات في هذا الأمر لمن يعي جيدا ما يريد ويصل إليه بأقصر الطرق دون أن تتلبسه فكرة أنه الفنان القادر على فعل كل الأشياء ؛
إذن فالتجريب والتجديد موجودان لدى شباب المسرح ؛ الشباب الذين استوعبوا واقعهم وحاولوا أن يعبروا عنه ؛ أو حتى حاولوا أن يتجاوزوا هذا الواقع ولكن من خلال فهمهم الجيد لواقعهم ومناقشتهم الجدية له . وعلى هذا يكون السؤال أن هناك تجارب من الممكن بكل بساطة أن تقول عنها فاشلة ، فهل هذا الفشل يعود إلى محاولة تجاوز الواقع والتهويمات التي لا يراها إلا من تصدى لهذه الأعمال أو أدعياء التجديد للتجديد؟
وللإجابة نقول أن البعض – والبعض الذي كان من الممكن أن يكون جيدا للأسف – يسقط في الطريق بعد خطوة جادة وجيدة أو خطوتين ، نتيجة تملك البار انويا منه ؛ فهو أن كان قد سمع كلمة تشجيع فهو يمسك بها ولا يرى سواها ويكون عن نفسه صورة البطل الذي سيأتي بما لا تستطعه الأوائل والأواخر أيضا؛ والنتيجة أنه في خطوة تالية قد لا تؤدي لجديد أو يشوبها بعض النقص _ وهذا وارد لكل فنان مهما كانت قيمته وتاريخه – فانه لا يريد أن يسمع نقدا أو نصحا ، ويرى أن هذا العالم كله خائفا من موهبته الجارفة وأن هذا العالم أيضا متمثلا في الجمهور والزملاء والنقاد في حالة اضطهاد شديدة له ؛ وتكون النتيجة أما الدخول في حالة المرض النفسي والشعور بجنون العظمة – أو الخروج كلية من حالة التصدي للإبداع والدخول في الأشياء الحياتية التي تخفى بعض الشيء ما في الداخل ولكن عقدة الشعور بالاضطهاد وأيضا بأن الكل خطأ ما عداه تتملكه _ وهذا النموذج موجود والحمد لله أن وجوده قليل؛ ولكنه يأخذ في حبائله عناصر كانت من الممكن أن تضيف بشكل جيد لو كان هناك حالة من التوائم مع النفس والمجتمع – أي أنه بكل بساطة قد أخرج نفسه من الواقع ، ووقع في أسر تهويمات أو أحلام وله ولنا الله.
أما الاتجاه الأخر أو القسم الآخر من هؤلاء فيعود إلى أصحاب العرض الواحد النموذج _ وعادة ما يكون هذا النموذج قد تجاوزه الزمن/ الواقع _ ؛ وإذا كانت هناك مقولة تحذرك من مناقشة قارئ الكتاب الواحد فان هذه المقولة أيضا تنطبق أيضا على مشاهد العرض الواحد وصانع العرض الواحد ؛ ذلك الذي يرى بأن ما قدمه أو ما رآه هو النموذج الذي لا يأتيه الباطل ولا يجب أن يأتيه من جمهور أو نقاد ، وان أتى فالعيب ليس في النموذج ولكن في من فقدوا القدرة على اكتشاف جوانب عبقرية هذا النموذج ، وعادة ما يكون هذا النموذج لحقبة ماضية ، أي أن الواقع قد تجاوزه أو عادة ما يكون مستجلبا أي ليس له واقعا عند الجمهور المفترض لأن يقدم له ، كما أنه في الأصل ليس واقعا لمن قدمه ولكنه محض تهويمات أو رغبة في الاختلاف لمجرد الاختلاف وليس للوصول لأرضية مشتركة تسمح باتخاذ خطوات على الطريق السليم .
وفي بعض الأحيان يكون نموذجا نابعا من أضغاث مسرح رأى البعض فيه لوهلة _ سامحهم الله _ انه من الممكن أن يكون تعبيرا جديدا وقالوا كلمة تشجيع فوقع صاحبنا أو أصحابنا في الأسر ورفضوا الخروج .
وهناك أيضا من وقع في أسر الأصحاب أو الشلة أو الأقارب ؛ فقد كانت هناك مجموعة من الأصحاب أو الأقارب تحلم بشئ ما ؛ جمعهم هذا الحب لهذا الشيء ، وكان هناك من بينهم من يملك روح القيادة – لأن كل مجموعة لابد أن تفرز قائدها بصرف النظر عن أشياء – فأصبح هو العراف العالم الذي لا يأتيه الخطأ وكل ما يقوله أو ما يفعله صواب حتى ولو كان على عكس الجمع العام – تمرد بأه – ولأنهم استكانوا لهذا الأمر ، ولأنها ( كبرت في دماغ صاحبنا ) . لذا فأنهم وقعوا في أسر الأعمال الأولى والتي قال بعض من يفهمون إنها جيدة ( للتشجيع ليس إلا وبأن هذه المجموعة الناشئة قد استطاعت فعل هذا ) وهؤلاء اقتربوا من الذين تحدثنا عنهم سابقا ، فهم وإنهم كانوا مسايرون لواقعهم الخاص المريض إلا أنهم خارج سياق الواقع العام والذي لا ننفى أنه قد يكون مريضا هو أيضا ، ولكن هذا الانفصال سيزيد من مرض الاثنين بالتأكيد.
وهناك من كان في بعض الأحيان مسايرا لواقعه ، ولكنه لم يدرك أن حركة المجتمع في تغير فارتضى بمسايرة الواقع لوقت ما ثم وقف في الطريق ؛ ولأنه فيما مضى كان يقدم شيئا فانه استحق فيما مضى أن يطلق عليه لقب الأستاذ ، وحينما تجاوزه الزمن وانفصل عن واقعه فانه مازال متمسكا بأستاذيته ؛ ولأنه أستاذا أو كان فان له بعض التلاميذ ؛ ولأن شخصيته قوية أو أن تلاميذه من الكسالى فقد وقف التلاميذ ليس على ما وقف عليه أستاذهم ولكن على بعد اقل لخطوات – وإلا كيف يكون أستاذا؟! – وبالطبع فإنهم حينما يحاولون أن يسايروا الدعوة إلى التجديد في المسرح فإنهم أيضا قد شاركوا على خطى ما تعلموه من أستاذهم الأوحد ؛ الذي يهرعون إليه بعد كلمة يسمعونها من ناقد أو محب بأن الأمر ليس كما يقدمون فيجيبهم بأنهم على صواب وبأن هذا الناقد أو المحب ليس إلا ناقم أو جاهل !! .
نهاية القول أنه لا يمكن أن تكون هناك محاولة للتجديد بدون أن تستوعب القديم أولا والذي تحاول أن تأتى بشيء أكثر قدرة منه على النفع والتعبير . وهذا النفع أو التعبير لابد أن يكون لمجتمع ما أو عن مجتمع ما ؛ ولأن هذا المجتمع بالضرورة ليس في المجرد ولكنه موجود في زمان ما ومكان ما فان حركة الزمن وتداعيات المكان لابد أن تؤثر على هذا المجتمع . إذن هناك تباين في المجتمعات – بصرف النظر عن بتوع العولمة – إذن أنت في واقع سيتغير معك بتغير الزمان مادام المكان ثابتا ، ولان كل مجتمع أو كل واقع لابد أن يفرض ظروفه التي تسير مع هذا المجتمع أو هذا الواقع وأيضا يعبر عنها فانه يبتدع أسلوبه في التعبير ،والأسلوب هذا سيتغير بالفعل بتغير الزمان ولكن هذا التغيير لن يكون سهلا ، فانه في كل مجتمع هناك الكثير الذين يكون الماضي جزءا هاما من واقعهم فهم يرفضون الأسلوب الجديد ؛ ولأن الطبيعة تجدد نفسها بنفسها عن طريق حركة المواليد والوفيات فان الجديد سيجد طريقه بالفعل - اللهم إلا إذا جاءت الأجيال الجديدة وقد استوعبت أفكارا أكثر ماضوية من الجيل السابق نفسه أو وقفت عنده أستاذا وتلاميذ – وسيعبر عن نفسه من خلال زمانه الذي لابد أن يتواكب معه حتى يكون تعبيره صحيحا ومكانه الذي لابد أن يخلق بعضا من المشكلات مع لأمكنة الأخرى والذي عليه أن يجد لها حلا توافقيا أو صداميا ولكن ليس استسلاميا إذا ما كان يريد لأسلوبه أن يستمر فإذا طغت لغة مكان آخر فسيكون هناك بالفعل تعبيرا واحدا هو تعبير من ملك القدرة على الطغيان ؛ وإذا كان هناك رفضا لهذا الطغيان فسوف يكون هناك تعبيرا مضادا .
المهم أن الخروج من الواقع هو الشرط الأساسي للتعبير عن هذا الواقع والإتيان بما يتواكب معه ؛ حتى وان كانت هناك محاولة طموحة لتجاوز هذا الواقع فلابد أن تعرف جيدا هذا الواقع الذي لابد أن تتجاوزه فأنت لابد أن تعلم الطريق جيدا حتى تستطيع اجتيازه بسلام للوصول لمكان آخر حتى ولو قضيت عمرك جالسا دون حراك في مكانك الجديد.