رؤى الحجاز

فيصل البكري

بين حارات أهل "الحجاز" وعلى منصات الكرويتات "المكية" وبين أزقة جـدة التاريخية. تطل "الرواشين" من بيوتها القديمة منبعثة منها رائحة المستكة وهي تطوف بين تاريخنا وحضارتنا التي لا زال الكثير يذكرها حتى يومنا هذا.

وبين قرقعة فناجين الشاي المعطر بالنعناع البلدي تنبعث من مركاز. العمدة رائحة شيشة الجراك.               الممزوج بماء الكادي لترسم المقاهي الأدبية والشعبية في مساء كان يخط لنا المفردة الحجازية الدارجة ونحن نناظر بشغف لتلك "الرواشين" الشامخة بتاريخها العريق ولسان حالنا يقول... ولما أمي ترسلني لأمك أجري وأستني.

لقد كان الموروث الحجازي حاضر بنغم وإيقاع هو الأقرب لنبض الفؤاد. فكم تغنى بالمفردة الحجازية رواد الطرب الحجازي أمثال فوزي محسون وعبدالله محمد وطلال مداح ومحمد عبده وابتسام لطفي وتوحة. ومن خلفهم شعراء الحجاز الذي كانت لهم بصمة العصر الذهبي في ذلك الزمان. ونحن نستمع لأغنية…

يا طير ماذا الصياح ذكرتني بالحبايب. ثم ننتعش طربا ونحن نستمع لأغنية… خارج من المكتب والساعة الذهب والفرد أبو ستة ما رد السلام.

إبراهيم خفاجي ـ ياسر سمكري ـ صالح جلال ـ محمد طلعت. ومعهم ثريا قابل. هؤلاء هم جيل "المفردة الحجازية" الذين أوصلوها إلى خارج الوطن لتتخطى البحار حتى أصبحت علامة مسجلة للحجاز ورواده من أصحاب الكلمة والغناء.

لقد كان للموال "الحجازي" كيان ووجود ومقام وحدود. تطرب لها القلوب وتفسح للعاشق الدروب وهو يمتزج مع المفردة الدارجة التي لا زالت حاضرة لتقول... يا من هواه أعزه وأذلني.

ومع زخات المطر وهي تداعب شواطئ عروس البحر ـ تسبح في الدجى تلك المفردة لتتناغم المسامع مداعبة أوتار العود والقانون على أنغام المقام الحجازي لتقول... بلغوها إذا أتيتم حماها إنني متُ في الغرام فداها.

لقد وصل الموروث الحجازي إلى الخليج العربي في بدايات انطلاقه لتحط رحاه في قلوب الخليجيين برغم قلة الإمكانيات وضعف الماديات لتخاطب الحس الإنساني بإيقاعه الجميل.

لقد ساهم عزوف المطربين عن النصوص الحجازية نحو اللهجة البيضاء والتقرب بشكل واضح للثالوث اللحني الهندي التركي الإيراني. وهو ما أعلنه الكثير بوفاة المفردة الحجازية.! مع إنني "أعارض ذلك الرأي وبشدة" لأن المفردة الحجازية لن ولم تموت وهي باقية في وجدان أهله وأرضه بوجود العديد من الشعراء الحاليين والكُتاب المبدعين وهم يمثلون جيل اليوم الواعد. حتى لو سعت شركات الإنتاج على المضي نحو تغييب الموروث والمفردة الحجازية من الساحة الفنية بضياع البوصلة ولسان حالهم يقول... عند النقا ويلاه. ضيعت أنا روحي. يأهل الحرم بالله ردوا علي روحي.

فقد ساهمت شخصيا في ترسيخ تاريخ وعادات أهل الحجاز من خلال العديد من المؤلفات التي كتبتها سواء كانت تاريخية أو أدبية. أو مؤلفي بعنوان: اللهجة الدارجة لأهل الحجاز. أو من خلال العديد من الدراما الحجازية التي تشرفت بكتابة نصوصها.

إضافة للعديد من الكُتاب الذي تزخر المكتبات بمؤلفاتهم من الكلمات التي تغنى بها عدد من المطربين والمطربات.

فيما لا ننكر بأن الكثير من الشعراء الحجازيين بدؤوا في التواري عن الكتابة بالمفردة الحجازية سعيا وراء ما يطلبه المستمعون حتى غابت تلك المفردة بسبب تخلي كتاب الكلمة عن كتابة نصها ولسان حالنا يقول لهم جميعآ... لسه برضه جي تعاتب جي تقول الود هان.

لقد أصبحت لغة المال عند الكثير تسيطر على موروثنا وثقافتنا التي ورثناها من الأباء والأجداد.

فهل نغنى اليوم سويا لنعيد المفردة الحجازية ونحنُ نردد… الله يرد خطاك لدروب خلانك والله الموفـق...