لُوحِظَ في "فانّ كُوخّ" تعلُقاً مُلفتاً فيهِ من العاطفةِ الشيء الكثير بشقيقهِ "ثيُو" الذي كانَ بدورهِ يغدقُ على شقيقهِ الأصغر برعايةٍ سخيّة امتدَتْ لأنْ يمدهُ بالمال كلما اشتدّتْ حاجتهُ لذلك. تضعُنا هذه القصّة أمام لوحةٍ من العواطف الإنسانية خلقت رابطاً وثيقاً استظلَ بهِ فينسنتّ ليحميهُ من قسوة الحياة التي دفعتهُ لعيش مالا يُطيق، في البداية لم يتمكنّ استبداد الحياة من أن يُثني عزيمته عن رسمِ لوحاتٍ كثيرة من شأنها أن تسددَ ما بذلهُ شقيقهُ من أجله، كانَ دافعهُ وقتئذٍ أن يعبرَ عن امتنانهُ العميق له، شعرَ بواجبٍ أثقلَ روحه وبديّنٍ لابد وأنه ينتظرُ السداد لكنهُ في خضمِ ذلك هزّت أركانهُ المتهالكة أخبار وفاة " ثيو " وتغيرَ في فينسنتّ شيءٌ ما وللأبد.
لابد من التطرقِ لحقائقَ مخفية عن "ثيو" شقيق الفنّان الهولنديّ الذي لم يذُق في حياته أي معنى للتقدير، كانَ يحبُ فينسنتّ كثيراً الأمرْ الذي دفعهُ للكتابةِ إليه بانتظام رغمَ بعض الظروف التي كانت تفصلهما من وقتٍ لآخر كلما تبادرت إليه أنباء استكماله للوحةٍ ما فيبدأُ باستفسارهِ عن تفاصيلها حتى يُشعرَ أخاه بأنه فنانٌ بحقّ "وهو كذلك". قلبٌ مشبعٌ بالخيبات كقلب " فان كوخّ " ما كانَ ليستمرّ في إثباتِ نفسهِ كفنّان لولا ما كان يمدهُ بهِ " ثيو " من حبٍ لا قيودَ ولا معايير له، كانَ الأمرُ يعني الكثير لقلبٍ يفيضُ باللُطف أراد أن يشعرَ ولو لمرةٍ واحدة بأنهُ يستحق الصداقة والاهتمام، وفاة " ثيو " أثبتت لاحقاً كم أن قلبهُ هشّ لا يستطيع الاستمرار في فضاءٍ يكتسي غموضاً زرعَ فيه حقيقة أن الموت خلاصٌ حقيقيّ له. يوجدُ في هذه الحياة " ثيو " المتفرّد بجوهرهُ الإنسانيّ النقيّ، هو الشخص الوحيد الذي راسلهُ طوال حياته يشاركه شغفَ لوحاتهِ، أحبّه كما أرادَ تماماً، تقبّلهُ في وقتٍ تنمرَّ عليه بعض الشبّان كانوا قد اعتبروا أنفسهم أصدقاءً له، بدا الأمرُ في بدايتهِ مقبولاً إلى حدٍ ما لكن سرعانَ ما دفعتهُ الحوادث التي أصابته بسببهم إلى هجرِ الخروج إلى الطبيعة التي اعتادَ فيها مُعانقةِ النجوم بعينيّه، قضى أيام حياتهِ الأخيرة مع طبيبٍ شهدَ على اضطراباتهِ النفسية والتي انتهت بالانتحار، لم يكن الاكتئاب رحيمٌ بهِ فقد فتكَ بهِ وبشدة فورَ فقدهِ لأخيهِ في وقتٍ كانَ قد بدأ يلحظُ تحسناً في مشاعره وما تعتريهِ من هواجس مُقلقة.
فُقدان الحُب قد يبدو شيئاً تافهاً للبعض بيدِ أنهم يعيشونهُ كلَ يوم حتى ما عادوا يلحظونَ أهميته، لكنهُ قيمٌ لمن حُرموا رحيقهُ وعاشوا على هامشِ الحياة لا يترقبونَ شيئاً سوى الالتحاق بمكانٍ من شأنهِ أن يكونَ ترياق الحياة لأفئدتهم المنكسرة، كم من ذبولٍ تسببَ به إهمالٌ فظّ، وحُزنٌ مُورسَ بدافع المُزاح لكنه كانَ حاداً بما يكفي لكي يُهيلَ التراب على قلبُ امرئٍ لا طاقةُ له بهذا، كم من رفقةٍ بدت في ظاهرها على قدرٍ كبير من الإخلاص تبينَ لاحقاً أنها كانت بصددِ اقتناص الفُرص السانحة لمُمارسة الغدر، من السهل ادعاء الصداقة أما أن تكون صديقاً حقيقياً فهو الصعب بعينهِ.
كانَ فان كوخ إنساناً كغيرهِ يسمو إلى الشعور بالحُب والصدق تجاهه، كانت أسعد لحظاته تلك التي جمعتهُ و " ثيو " على مائدةٍ واحدة في إطار لقاءٍ عائليّ وديّ دافئ تحت سقفٍ يضمُهما حتى يخيّل إليهما أنهما لن يفترقا قط، كان العالم رغم قسوتهِ تجاهه لم يحرمه من الشعور بالأخوّة، شعرَ بالطمأنينةِ والسكون كل مرةٍ يكاتبُ فيها شقيقه يثرثرُ عن لوحاته وما ترمز إليها، كان العالم مكاناً لا بأس به رغم كل شيء، لكن بعض الأمور لا يمكن للطف وحده أن يصلحها.. وجود " ثيو " خففّ كثيراً من حدّة الاكتئاب ووفاته جعلته مسعوراً فتتَ قلبه وذهنه بلا رحمة، بين هاتين الحالتين كان دائماً هو في المنتصف.. " ثيو ".
-
Hana Muhammad" قصةُ قلبٍ تشبّعَ من خيباتٍ مريرَة يسمُو للانعتاق ".