يحتدم الجدل بين المؤمنين بالتفسيرات المختلفة لنشوء الحياة ، فهذا يهتدي بالدين للجواب عن هذا الإشكال ، و آخر يهتدي بالعلم ، إذ تعد "أسطورة الخلق" الجواب الديني عن سؤال أصل الإنسان ، بالمقابل تعتبر "نظرية التطور" الجواب العلمي عن نفس السؤال الذي أرق الإنسان منذ أن اكتشف ملكة الخيال و التفكير ، حيث يكثر في المجتمعات المتحضرة التي تنتشر فيها الثقافة العلمية ، الإعتقاد بنظرية التطور و تسفيه أسطورة الخلق ، بالمقابل ينتشر الإعتقاد بأسطورة الخلق في المجتمعات التي يكثر فيها الجهل و التي تنتشر فيها الخرافات و الخزعبلات ، و التي تعاني من نظام تعليمي فاشل و مؤسسات بحثية متخلفة .
يسقط المؤمنين بكلتا النظريتين في تناقض منطقي صارخ ، و هو افتراض صحة أسطورة الخلق إذا سقطت نظرية التطور علميا (رغم أن أصحاب أسطورة الخلق لا يعترفون بالعلم أصلا) ، كما يعتقد المؤمنين بالتطور أنه إذا سقطت أسطورة الخلق استدلاليا علما و فلسفة و عقلا ، فهذا يعني أن نظرية التطور حقيقة مطلقة ، غير أن هذا قياس غير صائب ، فإذا كان السقم في الجواب الأول هذا لا يعني أن الصحة في الجواب الثاني ، بل يمكن أن يكون كلا الجوابين خاطئين .
للأسف يوجد غالبا العكس ، حيث يسقط في هذا المطب المؤمنين بالخلق أكثر من المؤمنين بالتطور ، إذ إن الخلقيين عندما يريدون إتباث صحة أسطورة الخلق لا يبحثون في الطبيعة و الإنسان إذ للا يوجد بينهم علماء طبيعة ، بل يبحثون عن اعتراضات بعض العلماء عن نظرية التطور ، ثم يستنتجون -بطريقة لا تخلوا من طفولية- أن أسطورة الخلق صحيحة . فحتى لو افترضنا أن نظرية التطور خاطئة هذا ليس دليلا على أن أسطورة الخلق حقيقة ، فلن تُعتبر الخلق حقيقة إلا بأدلة تجريبية تثبت أنها كذلك ، و نفس الشيء ينطبق على تفسيرات التطور أو غيره من النظريات التفسيرية (إن وجدت) لنشوء الحياء .
بغض النظر عن سمو نظرية التطور بأدلتها و حججها العلمية التي تتراكم منذ أكثر من 150 سنة ، فل نفترض أنها حجة غير صحيحة و أن نظرية التطور ساقطة علميا و سفسطية فلسفيا ، و لنفحص صحة أسطورة الخلق عن طريق طرح بعض التساؤلات البسيطة .
تجدر الإشارة أنني سأعتمد على الكتاب المقدس الإسلامي (القرآن الكريم) ، لطرح تساؤلات عن مدى صحة أسطورة الخلق .
1)
- تقول الآية الآية 15 من سورة الرحمان: "خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ صَلْصَالٍ كَالفَخَّار".
- تقول الآية 75 من سورة ص : "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ".
- تقول الآية 6 من سورة الزمر "خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا".
حسب الآيات فإن أسطورة الخلق تقول أن الإله خلق أول إنسان (آدم) من الطين و بطريقة مباشرة ، أي أن الله باشر بذاته العظيمة التراب و صنع "بيده" شكلا هندسيا هو شكل الإنسان ثم نفخ فيه روحه الإلهية ، فاستحال هذا الشكل كائنا حيا ، ثم خلق منه زوجه الجنسي الآخر (الأنثى - حواء).
التساؤل الذي يطرحه العقل هو هل شيء عظيم و كبير جدا ، خلق كونا واسعا يتكون (حسب رصد الإنسان) من 300 مليار مجرة و في كل مجرة 400 مليار نجم ، هذا العظيم سيأتي و يأخذ "بيده" حفة تراب صغيرة جدا و يصنع منها إنسانا ؟ هل يمكن لأكبر دايناصور لو أوتي أكبر قوة في الوجود (قوة إله) هل يمكن له أن يخلق ذرة صغيرة بيديه ؟
يقول الطبري في تفسيره لـ(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ): "يخبر تعالى ذكره بذلك أنه خلق آدم بيديه الشريفتين (...) كما رُوي أن ابن المثني, ،قال: ثنا محمد بن جعفر ، قال: ثنا شعبة ، قال: أخبرني عبيد المكتب ، قال: سمعت مجاهدا يحدّث عن ابن عمر ، قال: خلق الله أربعة بيده: العرش - وعَدْن - والقلم - وآدم ، ثم قال لكلّ شيء كن فكان" .
فهل الله له يديين مثلنا ؟ و يخلق و يصنع بهما كما يصنع الخزفي أواني الفخار ؟
2)
"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37}" البقرة .
حسب الآية الكريمة فأن الإنسان لم ينشأ على الأرض أصلا ، بل آدم خلقه الله "في السماء" لوحده دون باقي الأنواع و أدخله الجنة ، و عندما عصى أوامر الله ، أرسله إلى الأرض ، يعني أن الإنسان كنوع بيولوجي لا ينتمي إلى الأرض في الأصل إطلاقا ، بل لم يخلق على الأرض أصلا ، بل هو هنا نتيجة معصية ليس إلا .
فهل يعقل أن يُنْتَقَى الإنسان كنوع طبيعي لكي ينشيء في السماء و ليس في الأرض ؟ و هذا ضد ما ينحو له الموفقين بين الدين و العلم ، إذ إن العلم يقول أن الإنسان نشأ في الأرض و ليس في السماء ، عكس الدين فكيف نوفق بين النظريتين و هما على وجه التناقض .
3)
"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)" (المائدة).
حديث: "عن ابن عباس وعن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، و يزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له ابنان يقال لهما : قابيل و هابيل . و كان قابيل "صاحب زرع" (فلاح يعني) ، و كان هابيل صاحب ضرع (يعني راعي) ، فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة ، و قرب قابيل حزمة سنبل ، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل , و تركت قربان قابيل ، فغضب وقال: لأ قتلنك . فقال هابيل : إنما يتقبل الله من المتقين" .
الراوي: - المحدث: الألباني - المصدر: ("بداية السول في تفضيل الرسول") الصفحة71 ، خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد رجاله ثقات رجال مسلم .
تقول نظرية الخلق الدينية -حسب الآية و الحديث- أن الله خلق آدم أبو البشر و زوجته حواء ، و هؤلاء أنجبوا قابل و هابل ، هؤلاء الأخوين كان أحدهم "فلاح" و الآخر "راعي للغنم" ، ففي يوم من الأيام دعى الله الأخوين إلى تقريب قربانين إلى الله ، فقَرَّبَ قابل أحسن كبش في قطيعه ، و قَرَّبَ هابل أحسن ثماره المجنية عن زرعه ، فتقبل الله قربان هابل دون قربان قابل ، فغضب الأخ على أخيه فقتله . ليس هذا ما يهمنا بل يهمنا الآتي .
حسب الآية و الحديث يكون الإنسان منذ البداية كان يعرف شيء اسمه "الزراعة" و "الفلاحة" و "تدجين الحيوانات" ، و هذا ضد المنطق و التاريخ ، حيث يؤكد علم التاريخ أن الإنسان لم يكتشف الزراعة إلا قبل 10.000 سنة فقط ، إذا نقست 10 ألاف سنة من 300،000 سنة التي هي عمر الإنسان ، سيطلع لك 290000 سنة كلها على طولها من فترة زمنية ، لا يعرف فيها الإنسان لا زراعة و لا فلاحة و لا تدجين حيوانات و لا هم يحزنون ، إذن كيف نقتنع بأن نظرية الخلق تقول بأن الإنسان منذ البداية كان يعرف الزراعة و الفلاحة (قابيل ثالث إنسان موجود فوق الأرض كان فلاحا) ، و تدجين الحيوانات (هابيل رابع بشري موجود فوق الأرض كان راعيا) ، في حين هناك إثباتات واقعية تفيد أن الإنسان لم يكن يعرف لا الزراعة ولا تدجين الحيوانات في بداياته على الأرض إلا قبل 10.000 سنة فقط .
وها هناك مخرجين لا ثالث لهما: إما أن تقديرات علم التاريخ خاطئة ، و أن الإنسان منذ البداية كان يعرف الفلاحة و الزراعة و التدجين (كما يقول الدين) ، أو أن معلومات التاريخ صحيحة و الإنسان لم يكتشف الزراعة إلا قبل 10.000 سنة فقط ، و قضى290.000 من عمره لا يعرف كيفية الزراعة و الفلاحة ، بل الزراعة شيء مُكتسب و ليس فطري يولد الإنسان يعرفه . و به يكون الخلق مجرد خرافة هشة البنيان .
أخيرا: فهل الله على كبره يخلق بشكل مباشر شيء صغير ؟
هل الله له يدين مثل البشر ؟
هل الإنسان نشأ في الأرض أم السماء ؟
ثم هل كان الإنسان يعرف الزراعة و الفلاحة بشكل فطري منذ وجوده على الأرض ، أم أنه لم يكتشفها إلا قبل 10.000 سنة ؟