عودة روسيا إلي الشرق الأوسط - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عودة روسيا إلي الشرق الأوسط

من الحكمة اليوم القول بأن روسيا تعود إلى الشرق الأوسط , بنظرة مصحوبة بالكراهية من البعض ، و بالريبة من البعض الآخر ، و بالأمل من الطرف الثالث .

  نشر في 03 يونيو 2022 .

ألكسندر دوجين

تعريب : أحمد أحمد غانم .

من الحكمة اليوم القول بأن روسيا تعود إلى الشرق الأوسط , بنظرة مصحوبة بالكراهية من البعض ، و بالريبة من البعض الآخر ، و بالأمل من الطرف الثالث . ولكن قبل إجراء أي تقييم وفق المصالح أو التموضع لمختلف اللاعبين و المراقبين , نحتاج أولاً لنستوضح كيف تعود روسيا ؟ ما الذي تمثله روسيا المعاصرة علي الخريطة الجديدة لتوازن القوي العالمية , خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط ؟

في الخمسين عاماً الماضية , غيرت روسيا وضعها الإيديولوجي و الجيوسياسي ثلاث مرات وبشكل جذري . في الحقبة السوفيتية , في سياق عالم ثنائي القطبية , كانت روسيا , بدون شك , قوة جيوسياسية عظمي و معقلاً لقوي البر , ومركزاً للأيديولوجية الشيوعية , الساعية إلي الإطاحة بالنظام الرأسمالي , وذلك في سبيل سيطرة عالمية علي المجتمعات البشرية كونياً . فيما مَثل المعسكر الآخر – دول حلف الناتو - قوي البحر من الناحية الجيوسياسية , إضافة إلي الليبرالية كأيديولوجيا .

تشابكت بكثافة , المصالح و القيم من الناحية الجيوسياسة و الأيديولوجيا , مشكلة مجموعتين و كتلتين ومشروعين قدمتا نفسيهما للبشرية , رأت كلاً منهما أحقية في الوجود بديلاً عن المشروع الآخر .

خلال هذه الحقبة حضر الاتحاد السوفيتي بفاعلية في الشرق الأوسط كقوة جيوسياسية تناويء الغرب الرأسمالي في معظم النزاعات الأقليمية , ويقدم الدعم – في الوقت عينه – للقوي و الحركات و الأحزاب التي تشمل برامجها و توجهاتها صدي اليسار التقدمي , العلماني , المعادي للرأسمالية و الاستعمار . كانت السياسة الثابتة للاتحاد السوفيتي , في منطقة غالبية سكانها من المتدينين , متباينة , من الدعم المباشر للأحزاب الشيوعية و الإشتراكية – التي لم تكن قوية وفعالة بما فيه الكفاية – إلي دعم الحلفاء ذوي النزعة البراجماتية من القوميين و المعادين للاستعمار الذين لا تحكم توجهاتهم نزعات دينية .

إذن فقد كانت مهمة الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط ذات وجهين , واقعي مثل مصالح الاتحاد السوفيتي كقوة قارية عظمي , مختلطة بدوافع مثالية ذات توجهات عالمية هدفها الترويج للثورة الشيوعية علي المستوي العالمي . ينبغي علينا أن نأخذ بعناية هذا النموذج الفكري الذي يوضح حجري زاوية متباينين في التوجه الاستراتيجي للاتحاد السوفيتي . فقد ظهر كلا الهدفين مختلطين ككل معقد , إلا أنهما – بالرغم من ذلك – مختلفين من ناحية الطبيعة و البناء .

علي سبيل المثال , هذا النموذج الفكري يفسر سلوك الاتحاد السوفيتي الذي أحجم عن التعامل مع الحركات المعادية للرأسمالية و الاستعمار في الشرق الأوسط , والتي أثرت في سلوكها و توجهاتها الأساسية قيم دينية أو إسلامية . حركات الإسلام السياسي , جماعات كالإخوان و السلفيين و الشيعة كان ينظر إليها الاتحاد السوفيتي نظرة تتسم بعدم الثقة . لذات السبب , لم يحز الاتحاد السوفيتي علي ثقة هذه التيارات .

أثناء مرحلة النظام ثنائي القطب , كان لدي القطب الغربي بنية متماثلة. حيث كانت المصالح الجيوسياسية البحتة لقوي البحر بذات السيناريوهات المتأصلة التي تكرر كثيراً أو قليلاً حرفياً , خطوط القوة للإمبريالية البريطانية القديمة ذات الايديولوجيا اليبرالية , وتتبني القضايا الإقليمية المناقضة للقوي اليسارية و الاشتراكية أو القوي المناوئة للاستعمار التي تلقت دعماً طبيعياً من السوفيت .

جاءت اللحظة الفاصلة بسقوط الاتحاد السوفيتي . الذي مَثل سقوطاً لقوي البر من الناحية الجيوسياسية . فقد أنقسمت مناطق التأثير لقلب المنطقة الأوراسية بشكل جذري إلي ثلاث دوائر .

النطاق الأكبر لمناطق النفوذ اشتملت علي أميركا اللاتينية وأفريقيا وجنوب آسيا , و منظمة حلف وارسو , و الاتحاد السوفيتي الذي انقسم إلي خمسة عشر جزءاً .

التغيير كان أعمق علي الناحية الأيديولوجية , فقد هجرت موسكو العقيدة الماركسية تماماً , واعتنقت الايديولوجيا الليبرالية الرأسمالية . كانت هذه نهاية الثنائية القطبية علي الصعيدين الجيوسياسي و الأيديولوجي . ورفضت روسيا أن تلعب دور القطب العالمي الثاني كبديل , وارتضت في عهد يلتسين , أن تلعب دور طرفي .

لابد لنا أن نتذكر أن سقوط الاتحاد السوفيتي كقوة أيديدلوجية لم يصاحبه تخلي مماثل من قبل الولايات المتحدة وأوربا عن الأيديولوجيا الرأسمالية الليبرالية . كانت نهاية الحرب الباردة تخلياً طوعياً من قبل أحد اللاعبين , فقد تخلي الشرق السوفيتي بشكل عن الخط الايديولوجي , فيما لم يفعل الغرب الرأسمالي ذلك . إن هذا يبين كيفية تشكل العولمة الليبرالية . فقد كانت العولمة في ظل عالم تسوده القطبية الأحادية ضرورية لتوسع الإيديولوجيا الليبرالية , كنموذج فكري مقبول من الجميع , ومن هنا جاءت أهمية حقوق الإنسان و الديمقراطية النيابية , والمجتمع المدني , وحرية السوق , وغيرها من الثوابت الأيديولوجية الأخري التي أصبحت بمثابة معايير عالمية أساسية ,أمنت وساهمت في الترويج للعولمة ذاتها .

لقد كان هناك لحظة الأحادية القطبية ( كما أطلق عليها Krauthammer Charles )التي بدأت في العام 1991 . ( 1)

في هذه الفترة , انسحبت روسيا من الشرق الأوسط بشكل كامل . وانكفأت منشغلة بمشاكلها الداخلية التي أوصلتها إلي حافة التفكك السياسي في مطلع التسعينات . وعلي الرغم من الخمود التام , فقد حَفظت بعض الصلات المتبقية من الحقبة الثنائية القطبية لروسيا صورتها كقطب جيوسياسي بديل للغرب , هذه الصورة ما زالت حية داخل مجتمعات الشرق الأوسط . ففي أثناء الحقبة أحادية القطبية , تُرك العرب يواجهون مصيرهم في المواجهة مع الغرب الأطلسي الليبرالي , الذي كان مطلق الحرية في تأكيد دوره كقوة وحيدة عولمية ومرجعاً أعلي لصناعة القرار . ظلت الأحادية القطبية المهيمنة علي الأحداث في الشرق الأوسط , ولمدة ثلاثون عاماً , وبلغت ذروتها بالثورات الملونة المدعومة من الغرب تحت ستار نشر الديمقراطية و حقوق الإنسان و الليبرالية داخل مجتمعات متخلفة أصلاً .

اسقاط النظم العلمانية و الاشتراكية ( كالبعث بمختلف نسخه , في العراق , ليبيا وسوريا ) كان أمراً حتمياً في ظل هيمنة الأُحادية القطبية , في غياب قوة عالمية مماثلة قادرة علي التصدي لهذه العملية أو تقديم الدعم للأنظمة و القادة المناؤيين للغرب .

بالحديث عن القطب الثاني ....

خلال العشرين عاماً الأخيرة من حكم بوتين للاتحاد الروسي , استعاد البلد جزءاً من قوته . وعلي العكس من الفترة الأولي من حكم يلتسين , فإن روسيا لم ترضخ للإملاءات الغربية , وحافظت علي سيادتها السياسية . ولكن في هذا الوقت , كانت روسيا قد استردت قوتها - فقط - كقوة جيوسياسية عظمي ـ كقوة برية , ومن هنا جاء مفهوم الأوراسية , والنظرية الأوراسية بشكل عام .

ولكن علي صعيد الأيديولوجيا في روسيا , فقد كان هناك نوع من الفراغ . فقد تم تغطية الفجوة , التي خلفها التخلي عن الشيوعية , بإتباع سياسة براجماتية و سياسة محافظة توافقية بدون تشدد . مما جعل روسيا بوتين أكثر مرونة . روسيا اليوم تمُثل – فقط - وحدة جيو - سياسية , تناؤي بشكل متزايد وواضح الغرب ( قوي البحر ) ولكن بدون أيديولوجيا واضحة ومحددة .

في ذات الوقت , روسيا الحديثة لا تستطيع أن تتدعي أنها القطب الثاني في عالم ثنائي القطب . روسيا ضعيفة كي تلعب دوراً كهذا , مقارنةُ بالقوي المجتمعة للولايات المتحدة و دول حلف الناتو . ولكن هناك الصين الجديدة بنمو اقتصادي جعلها تقارن بالاقتصاد الأمريكي , بل مهددة بالتفوق عليه .

ومنذ الآن فصاعداً , فإن روسيا تعيد التأكيد علي دورها كقطب ثاني في عالم جديد ثنائي القطبية , ولكن كواحد ضمن الأقطاب القليلة ( أكثر من قطبين !) في سياق تعددية قطبية . اليوم , روسيا ( عسكرياً , وعلي المستوي الجغرافي والموارد الطبيعية ) إضافة إلي الصين ( من الناحية الاقتصادية ) أصبحا قطبين في ما يمكن وصفه نظام ثلاثي الأقطاب . ولكن الهند , العالم الإسلامي , أميركا اللاتينية , وأفريقيا يمكنهم في يوم ما أن يشكلوا أقطاب مكتفية ذاتياً . لذلك , فإن الجغرافيا السياسية لروسيا كقوة عظمي آخذة في التطور في سياق عالم متعدد الأقطاب . وكالعادة , فإن روسيا لا تزال قوة برية تنازع قوي البحر , كما أن الصين تُعد , أيضاً , قوة برية وتواجه ذات الخصم العالمي , المتمثل في الغرب الليبرالي .

أذاً , تعود روسيا إلي الشرق الأوسط في ظل شروط جديدة كلياً ووظائف مختلفة . فهي ليست قطباً ثانياً تنازع الغرب , بل واحدة ضمن أقطاب قليلة تصارع ضد الأُحادية القطبية في سبيل عالم متعدد الأقطاب .

وبالمناسبة , فقد شرحت هذه التغيرات في كتابي " نظرية التعددية القطبية " الذي صدر مؤخراً عن دار نشر Arktos Publishers في الولايات المتحدة .

تبقي ملاحظة أخيرة , الغرب اليوم , كما كان من قبل , لا يزال يحتفظ بالمحتوي الأيديولوجي كما هو بدون أي مساس . بل وأكثر من هذا , ففي خلال اللحظة الأُحادية القطبية – التي تم النظر إليها وكأنها دائمة ـ بدت فيها الأيديولوجيا الليبرالية قوية جداً بلا منازع , فلم يوجد أمام أصحاب العولمة أنفسهم أي عدو أيديولوجي رسمي ـ ومن ثم فقد شرعوا في تطهير الأيديولوجيا الليبرالية في سبيل أيديولوجيا ليبرالية جديدة . ومنذ ذلك الوقت ظهرت مشكلة الجنوسة " الجندر " وتضخمت بشكل مُبالغ فيه في العقدين الأخيرين .( وقد سبق أن تناولت في كتابي " النظرية السياسية الرابعة " مناقشة هذا الأمر . ) .

والآن , أنا أقترح علي القراء في منطقة الشرق الأوسط أن يقارنوا تأثير كلا اللاعبين العالميين علي التوازن الإقليمي في الوقت الراهن . العودة الروسية إلي منطقة الشرق الأوسط , هي عودة قوي البر في محاولة لمقاومة ضغط القطبية الأُحادية الغربية , ولكن بدون استبدال أيديولوجيا مادية علمانية بأخري , رأسمالية شمولية , بأخري شيوعية . روسيا الحديثة ليس لديها ما تفرضه علي شعوب الشرق الأوسط علي مستوي الأيديولوجيا . يكفي النظر إلي روسيا كحليف لمقاومة ضغط الأُحادية القطبية العولمية الغربية . ولا يهم كثيراً السبب الذي يَدعو سكان المنطقة المسلمين لرفض الغرب , أكانت أسباب دينية , اقتصادية , وطنية أو غيرها . بشكل أساسي , فإن روسيا في الشرق الأوسط من أجل ضمان عالم متعدد الأقطاب ولا تصر علي استبدال الليبرالية بغيرها .هذه الواقعية و المرونة تفتح فرص تاريخية بشكل كامل من أجل صداقة روسية – عربية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) Krauthammer Charles صحفي وكاتب سياسي أميركي من المحافظين .

عنوان المقال الأصلي " Russia Return to the Middle East "

للمفكر و الفيلسوف الروسي ألكسندر دوجين ,  صاحب النظرية السياسية الرابعة و الملقب بعقل بوتين .

تعريب : أحمد أحمد غانم .



   نشر في 03 يونيو 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا